تعرّفتُ إلى عالم الشعوذة عندما سكنتُ في أفريقيا. كانت تلك القارّة مليئة بالمعتقدات والممارسات غير التقليديّة، والتي تدور حول ما يُسمّى بالسحر الأسود. ولم أتصوّر يومًا أنّني سأكون مِن الذين يؤمنون بالسحر، لأنّني كنتُ إبنة أناس مؤمنين يخافون الله ويتكّلون عليه بكلّ أمور حياتهم. هكذا ترعرعتُ وكبرتُ، لكنّ زواجي مِن يوسف كان سيُغيّر منظاري للأمور وبشكل جذريّ. فبعد زواجنا بفترة قصيرة، وافيتُه إلى أفريقيا حيث كان يُدير شركة ضخمة ورثها عن أبيه.
كنتُ سعيدة أن أبتعد عن بلدي الذي كان يمرّ بضيقة اقتصاديّة، ومشاكل سياسيّة جمّة حوّلَت المواطن إلى كائن يائس ومحتار لكيفيّة ايجاد لقمة عَيشه. مع يوسف لم أكن بحاجة إلى التوتّر، فقد كان ثريًّا ويعيش في بلد مليء بالخيرات، ووسط مغتربين يُضاهونَه ثراءً. في البدء كانت حياتي هنيئة وهادئة، يذهب زوجي إلى شركته بينما أدير المنزل بمساعدة فتيات أفريقيّات تعملنَ على النظافة والطهو وشتّى الأشغال. ومِن ثمّ حملتُ، وافتخرتُ جدًّا بنفسي لأنّ ما في أحشائي كان ولدًا سيحمل إسم العائلة ويُتابع أعمالها عندما يكبر.
إلا أنّني فقدتُ الجنين وهو في شهره الرابع وامتلأ قلبي بالحزن. ولأنّني كنتُ لا أزال صبيّة، نسيتُ مصيبتي وعملتُ على الحمل مجدّدًا بعد أن طمأنّني الطبيب وطلَبَ منّي أن أرتاح قدر المستطاع. وهذا ما فعلتُ عندما اكتشفتُ أنّني حبلى مرّة أخرى. وبالكاد غادَرتُ السرير أو الكنبة.
لكنّ ذلك لم يكن كافيًا، فإذ بي أفقد إبني الثاني أيضًا في شهري الرابع. عندها أصابَني يأس كبير وشعور بأنّني غير نافعة.
حاوَل يوسف مواساتي، لكنّني بقيتُ تعيسة ومصمّمة على عدم الحمل قبل وقت طويل. فالذي حيّرَني هو أنّ جميع الفحوصات التي خضعتُ لها أشارَت إلى أنّني بصحّة ممتازة وأنّ لا خطب فيّ مطلقًا، وتساءَلتُ لماذا لا يُريدني الله أن أحظى بذريّة.
ووسط هذا المناخ الكئيب، جاءَت إليّ يومًا إحدى العاملات قائلة:
ـ يا سيّدتي... قد أكون على علم بسبب ما تمرّين به...
ـ كيف لكِ أن تعرفي ما لا يعرفه الأطبّاء والعلم؟
ـ لأنّ الأمر يتعلّق بالـ...
ـ تكلّمي!
ـ أنظري ما وجدتُ في غرفة نومكِ، يا سيّدتي.
أعطَتني الفتاة ورقة مطويّة بإحكام، وعندما فتحتُها وجدتُ فيها كتلة شَعر ملفوفة بقطعة قماش نتنة الرائحة، ومكتوب عليها الرقم 4 بالأحمر. لم أفهم ما كان يعني ذلك، ففسّرَت لي الخادمة ما لا يستوعبه عقل:
ـ إنّها شعوذة، يا سيّدتي... بلدنا مليء بها... هناك مَن لا يُريدكِ أن تنجبي... أنظري إلى الرقم 4، فهو بالذات عدد الأشهر الذي يبقى خلاله الجنين حيًّا... هذا الشَعر هو حتمًا لكِ وما داخل القماش هو... كيف أقول لكِ ذلك... أشياء خاصّة جدًّا جدًّا بكِ.
ـ ولكن مَن يُريد إيذائي؟ ومَن أخَذَ تلك الأشياء منّي؟
ـ ليس لدَيّ الجواب لسؤالكِ الأوّل، ولكن بما يخص الثاني، فالذي فعل ذلك هو حتمًا مِن سكّان البيت، وهم كثر.
كانت على حقّ، فإلى جانب زوجي، كانت هناك ثلاث عاملات وحدائقيّ وسوّاق، كلّهم يسرحون في البيت على هواهم. عندها سألتُها:
ـ وما العمل الآن؟ لقد أخفتِني! أعيش وسط أناس يكرهونَني، مِن دون أن أعلم مَن هم ولماذا يفعلون!
ـ الأمر بسيط... عليكِ أن تصنعي سحرًا مُضادًا.
ـ أنا؟!؟
ـ لا طبعًا... سآخذكِ عند امرأة تجيد فكّ السحر، لا تخافي. ولكن إيّاكِ أن تخبري أحدًا بالأمر، وإلا غضبَت منكِ السيّدة كثيرًا، ولا تريدينَها أن تغضب منكِ!
ذهبنا لرؤية الساحرة التي كانت تعيش في بيت مِن طين وقش، وأعترف أنّها أخافَتني كثيرًا بسبب لبسها وحركاتها والأشياء الغريبة المُبعثرة في مسكنها. هي لم تكن تعرف العربيّة أو الانكليزيّة، لِذا بدأَت عاملتي بترجمة كلّ ما قالَته الساحرة والذي يُختصَر بالآتي: إمرأة تهوى زوجي وتريده لها، عزمَت على إيذائي عبر إنهاء حملي ليُطلّقني يوسف. وكان عليّ مجابهة تلك المرأة بسحر مضاد قويًّا جدًّا. إستغربتُ الأمر قليلاً، فلَم أتصوّر أنّ أحدًا يحوم حول يوسف، فكلّ أصدقائنا كانوا محبّين ومتزوّجين ويعيشون حياة هانئة. إلا أنّني قبلتُ المضيّ بما عُرِضَ عليّ مقابل مبلغ مِن المال طبعًا. سألتُ الساحرة متى وكيف أعرف أنّ السحر أعطى النتيجة المرجوّة، فأجابَتني: "عندما تحملين مِن جديد ويعيش طفلكِ."
تركتُ الكوخ وقلبي مليء بالأمل. وفور وصولي المنزل، قمتُ بطرد جميع العاملين وجئتُ بآخرين. فأحدهم دسّ لي السّحر ولم أكن لأخاطر مجدّدًا. سألَني يوسف عن السبب لما فعلتُه، فقلتُ له إنّني أُسرَق مِن قِبَل أحدهم فصدّقَني. أبقَيتُ طبعًا العاملة التي كانت تساعدني على فكّ السحر المكتوب لي.
مرَّت أشهر طويلة لم أعرف الرّاحة خلالها، خاصّة أنّني لم أحمل. وعندما أبدَيتُ استيائي للعاملة، جاءَت لي في اليوم التالي بمجموعة قوارير مليئة بمحلول شفّاف، وطلبَت منّي أن أشرب منها يوميًّا. أخذَت ثمنها واعدة أنّ ما أريده سيتحقّق قريبًا.
لكنّ انتظاري طال جدًّا، وبتُّ كالمجنونة أفتّش غرفتي وسائر المنزل بحثًا عن أيّ دليل يُثبت أنّ السحر الموجّه ضدّي لا يزال قائمًا.
علاقتي بزوجي تغيّرَت وبشكل ملحوظ، فبدأتُ أصرخ به لأتفه سبب. فإلى جانب غضبي مِن الذي يحصل لي، كنتُ بدأتُ أشكّ فيه. تلك المرأة التي ذكرَتها الساحرة قد تكون أقنعَته بحبّها، وقد يكونان على علاقة سريّة بانتظار أن أخليَ لهما المكان ليعيشا حبّهما على سجيّتهما. لم يفهم يوسف سبب تغيّر مزاجي وعدائيّتي، وبعد أن حاول مرارًا التحدّث معي بالأمر، صارَ يُفضّل عدم التواجد معي، الأمر الذي عزّزَ شكوكي. عندها، طلبتُ مِن العاملة أن تأخذني مجدّدًا عند الساحرة لإيجاد حلّ لِما أنا فيه.
في تلك المرّة كان الثمَن باهظًا، لأنّني طلبتُ مِن المشعوذة إبعاد العاشقة أو العشيقة عن زوجي، الأمر الذي كان، حسب قولها، يتطلّب استدعاء قوّات مِن خارج عالمنا. وعدتُها بإعطائها ما تريده، وهي باشرَت بالعمل طالبةً منّي الاستمرار بشرب المحلول بانتظار تحقيق أمنياتي. إشترَيتُ من المشعوذة قوارير جديدة، ونصحَتني قبل رحيلي بأن ألزم المنزل بعد تفتيشه يوميًّا كي أتفادى التواجد مع غريمتي لأنّ الأمر قد يكون جدّ مؤذيًا لي، وعدَم استقبال أحد بتاتًا. إتّبَعتُ تعليمات الساحرة بحذافيرها.
صارَ يوسف يذهب إلى الدّعوات مِن دوني، ويمتعض لعدم قبولي استقبال أصدقائه، ولم أعد أراه في البيت. لم أكن منزعجة مِن الأمر، فكنتُ واثقة مِن أنّه سيعود إليّ فور نجاح السّحر، أي عندما أتخلّص مِن عشيقته وأحمل بطفل جميل.
إلا أنّ زوجي لم يعد يتحمّل ما يحصل، وجاء إليّ بعد أشهر طالبًا منّي العودة إلى البلد بعد أن نتطلّق. لم أتوقّع أبدًا حصول ذلك، فقد تفاجأتُ كثيرًا ولم أعرف كيف أتصرّف أو حتى بما أجيب. كلّ ما استطعتُ قوله كان: "أعطِني بعض الوقت". كان يلزم للسحر المضاد وقت إضافيًّا لينجح، فمِن الواضح أن غريمتي قويّة جدًّا.
لكنّ زوجي كان على عجلة مِن أمره، فَلم يرَ سببًا لنبقى سويًّا، لأنّه لم يعد يجد فيّ الإنسانة اللطيفة والمحبّة التي أُغرِمَ بها. عملتُ جهدي لإطالة المهلة، ريثما أذهب إلى الساحرة وأحثّها على التصرّف بسرعة، هي والقوّات التي هي مِن خارج عالمنا.
أحمد ربّي أنّ يوسف رآني في إحدى الليالي وأنا أشرب مِن القارورة التي تحتوي على المحلول السحريّ. ركَضَ إليّ صارخًا بي: "ما الذي تشربينَه!؟". لم أعرف بماذا أجيب فبدأتُ بالبكاء. أخَذَ مِن يدي القارورة وبدأ يتفحّصها ويشمّ محتواها، إذ اعتقَدَ أنّني أريد إنهاء حياتي بشرب نوع مِن السمّ. ثمّ شرِبَ بدوره كميّة قليلة جدًّا ونظَرَ إليّ باندهاش قائلاً: "تشربين الماء؟" لم أفهم ما قالَه، فأسرَعتُ بأخذ المحلول منه لخوفي مِن أن يُصاب بأذى قائلة: "لا ليست ماء بل شيء خاص... لا يجدر بكَ شربه."
ضحكَ يوسف عاليًّا معتقدًا أنّها دعابة، ولكن عندما رأى كم أنا جدّيّة، طلَبَ منّي إخباره عن مصدر القارورة. وأمام رفضي القاطع، بدأ يُهدّدني بإرسالي إلى البلد في اليوم التالي. عندها بحتُ له باكية بالحقيقة.
إستمَعَ زوجي إليّ بصمت وحزن في آن واحد، لأنّه أدركَ مدى يأسي وحاجتي لإرضائه والحفاظ عليّ. لكنّه تأسّفَ كثيرًا مِن لجوئي إلى الدجّالين في حين كان بإمكاني الرضى بمشيئة الله ومتابعة حياة زوجيّة سعيدة. وبعد أن وبّخَني بقوّة، أخذَني بين ذراعَيه وأكَّدَ لي أنّها كلّها أوهام وأنّ لا مفعول للسحر إلاّ على الذين يؤمنون به.
إضافة إلى ذلك، أكَّدَ لي أنّ العاملة هي التي تضع السحر في البيت لحثّي على مقابلة الساحرة ودفع المال لهما. لِذا طلَبَ منّي مراقبتها جيّدًا، وجعلَني أعده بألا أفضح نفسي وأن أواصل الإدّعاء بأنّني أؤمِن بالسحر.
راقبتُ العاملة جيّدًا ولكن مِن دون جدوى، وبدأتُ أظنّ حقًّا أنّ زوجي مخطئ بالذي قالَه لي. فخطَرَ ببالي أن أقول لها إنّني لم أعد قادرة على الإنتظار، خاصّة أنّني لم أرَ أيّ إثبات حسّي لسحر العشيقة المزعومة. وبعد أيّام معدودة، دخلَت العاملة غرفة نومي ووضعَت تحت فراشي كيسًا صغيرًا. في المساء نفسه، قالت لي إنّ الساحرة تريدني أن أنظر تحت فراشي، بعد أن جاءَت لها رؤيا مِن عالم آخر. نظرتُ إلى العاملة وابتسمتُ لها قائلة: "أنتِ مطرودة... لقد لعبتِ عليّ بما فيه الكفاية". أمّا هي، فغضبَت كثيرًا وصرخَت فيّ: "ستندمين! ستهبط عليكِ ويلات الدنيا بأسرها! سأحوّل حياتكِ إلى جحيم لا مثيل له!" لم أجِبها لأنّني تذكّرتُ ما قالَه يوسف:" لا مفعول للسحر إلا على الذين يؤمنون به". وأنا لم أعد أؤمِن بالشعوذة لأنّني رأيتُ المحتالة بعَينيَّ تخبّئ السحر. رحَلت النصّابة ورحَلَ معها الهمّ والخوف وانتظار ما لم يكن ليحصل لأنّ لا وجود له. أعدتُ الطاقم القديم إلى البيت مَعتذرةً، وأنسَيتُهم ما فعلتُه بهم بحسن معاملتي لهم.
لم أحمل إلا بعد سنتَين وبفضل مراقبة الطبيب وأدوية وحقَن عديدة. أبصَرَ إبني النور، وهو اليوم مراهق قويّ يُثبت لي يوميًّا بوجوده أنّ الله بحكمته أقوى مِن كلّ شيء.
حاورتها بولا جهشان