لا تلمُسني!

كتَمتُ سرّي جيّدًا، وقبلتُ أن أتزوّج لأنّ ذلك كان مطلوبًا منّي. لكنّ الحقيقة كانت أنّني أكرَهُ الرجال لا بَل أمقتُهم. أجل، يقشعرُّ بدَني إن تواجَدتُ مع أحَدهم في أيّ مكانٍ كان. وزوجي كان أوّل رجُل أوجِّه له الكلام لأكثر مِن دقائق معدودة.

ولأنّني كنتُ أعي أنّ ذلك الكُره لَم يكن مسموحًا أو مقبولاً، خاصّة أنّ صبايا سنّي كنّ تحلِمنَ بالحبّ والشبّان والزواج، مثّلتُ دور الفتاة التي تهوى الصنف الخشن، وغشَّيتُ الجميع. مُمثِّلة بارعة كنتُ بالفعل! سأُطمئِنُ بالكم على الفور، لستُ أهوى النساء أيضًا، ولقد سألتُ نفسي في ما مضى السؤال نفسه حين أدركتُ أنّني لستُ كالباقيات. مِن أين جاء هذا الكُره القويّ؟ لَم أجِد آنذاك جوابًا لذلك.

 

وهكذا إقترَنتُ بيوسف، شابّ وسيم وعاقِل، وهنّأني الكلّ. كنّا قد تعرّفنا إلى بعضنا بواسطة أقرباء، وقبِلتُ أن أُواعدَه لأُحافِظ على صورتي الاجتماعيّة. بعد ذلك، حاولتُ إبعادَه عنّي ليدَعني وشأني، إلا أنّه زادَ تعلّقًا بي وانتهى المطاف بي مُتزوّجة منه!

يوم زفافي كان شبيهًا بيوم مأتمي، فأدركتُ أنّني سأعيشُ حياة يائسة وبائسة حتى آخِر لحظة، وقد أنجِبُ منه صغارًا يُشبهونَه أيضًا! الحلّ الوحيد كان ألا أدعَه يلمسني على الاطلاق، الأمر الذي سيقودُه إلى تطليقي بعد فترة قصيرة. أجل، فكرة جيّدة!

وبدأ عذاب يوسف. فمنذ الليلة الأولى أوضحتُ له أنّني لن أنامَ معه في السرير نفسه. المسكين تصوّرَ أنّ قراري نابعٌ مِن خوف وحياء العروس، وأنّني سأكون زوجة بكلّ للكلمة مِن معنى بعد أيّام قليلة. رحتُ إلى الغرفة الأخرى حيث استقرَّيتُ... بصورة نهائيّة!

جاءَت العائلة في اليوم التالي للمُباركة، ومثّلنا دور الثنائيّ السعيد فابتسَمَ الجميع وغادروا ممنونين. حاوَلَ يوسف في الأيّام التي تلَت أن يتقرَّبَ منّي أو على الأقلّ أن يُقنعَني بالنوم في الغرفة نفسها، إلا أنّني هدّدتُه بقتل نفسي إن هو لمَسَني! نظَرَ زوجي إليّ بتعجّب لكنّه لَم يقُل شيئًا، بل بانَت على وجهه علامات الحزن العميق. لَم يؤثِّر حزنه بي بل تصوّرتُ أنّه سيُطلقُ سراحي قريبًا... وكنتُ مُخطئة!

بعد ذلك، تصرَّفَ يوسف كأيّ رجُل مُتزوّج، ولَم يُثِر معي موضوع "الواجبات الحميمة" على الإطلاق. كنتُ ممنونة له مِن ناحية، لكن مِن ناحية ثانية لَم أطمئنّ له. ماذا كان يُحضّرُ لي، وأيّ رجُل يرضى بزوجة لا تسمحُ له بمُمارسة "حقوقه الزوجيّة"؟!؟

خرَجنا إلى المطاعم والأصدقاء، ورقَصنا وأكَلنا وضحِكنا سويًّا، وبدأتُ أشعرُ معه بنوع مِن الارتياح أنساني ارتيابي مِن نواياه. على كلّ الأحوال، إن حاوَلَ زوجي لَمسي، سأُدافِعُ عن نفسي بقوّة وأهربُ منه! إلا أنّ لا شيء حدَثَ على الاطلاق.

بعد مرور بضع أشهر على هذا النحو، خطَرَ ببالي أنّ يوسف قد يحصلُ على مراده مِن امرأة أخرى. هكذا إذًا... زوجي يخونُني! إلا أنّني هدّأتُ مِن روعي، فكيف أُحاسبُه على خيانتي في حين أمتنِعُ مِن إعطائه ما يُريدُه؟ لكن مِن جهة أخرى، بإمكانه تطليقي وعَيش حياته على مزاجه. لا، لن أقبَل بوجود امرأة أخرى! رحتُ إلى يوسف وسألتُه:

 

ـ هل ترى امرأة غيري؟

 

ـ لا، ما هذا السؤال الغريب؟!؟

 

ـ بلى! إعترِف!

 

ـ أقسمُ لكِ!

 

ـ أراكَ مُرتاحًا وسعيدًا.

 

ـ لأنّني مُرتاح وسعيد!

 

ـ لكنّنا لا... أقصدُ... تعرِف ما أقصدُ!

 

ـ هذا لا يعني أنّني لستُ سعيدًا معكِ. أنتِ إنسانة طيّبة وحنونة، أتذكُرين حين أُصِبتُ بالإنفلونزا؟ لقد عامَلتِني بحبّ.

 

ـ هذا ليس بحبّ، فلقد عامَلتُكَ كزوجة.

 

ـ النتيجة هي نفسها، أنتِ اعتنَيتِ بي جيّدًا وسهرتِ عليّ إلى حين شفيتُ.

 

ـ لا أُريدُكَ أن تتصوّر أشياء لا وجود لها.

 

ـ إطمئنّي، لستُ مِن النوع الخياليّ. أعرفُ أنّكِ لا تُحبّيني، لا بل تكرهيني.

 

ـ أنا لا أكرهُكَ، أنا فقط لا...

 

ـ أكملي.

 

ـ تُصبِح على خير.

 

رحتُ إلى غرفتي وبكيتُ، مُدركةً الأذى الذي أُسبّبُه لزوجي، لكنّ الأمر لَم يكن بِيَدي. لَم يكن يجدرُ بي أن أتزوّج. الحقّ يقَع على مُجتمعنا البالي!

مرَّت سنة على هذا النحو، وكنتُ مشغولة البال بصورة دائمة إذ أنّني كنتُ مُتأكّدة مِن أنّ ليوسف عشيقة، وأنّه يقضي معها أوقاتًا سعيدة ويضحكُ معها ويقولُ لها كلمات غزَل وحبّ. لماذا لا يُطلّقني ويكون معها بصورة دائمة؟ هل كان يُعاقبُني أم أنّ تلك المرأة كانت مُتزوّجة؟ لماذا لا يعترفُ لي بتلك العلاقة بدلاً مِن النكران؟ فهو كان يعلَم أنّ مِن حقّه أن تكون له حياة حميمة طبيعيّة وأنّني لن أقِفَ بِدَرب سعادته. وذات مساء لَم أعُد أحتمِل الوضع، وصبَبتُ غضبي وقلَقي عليه بطريقة عنيفة للغاية، إذ أنّني بدأتُ أصرخُ وأبكي وأُهدِّد بينما هو بقيَ ينظرُ إليّ بِصمت، الأمر الذي زادَ مِن غضبي لدرجة أنّني انقضَّيتُ عليه وعضيتُه بقوّة رهيبة في ذراعه. لحظة ما فعلتُ ذلك، أدركتُ ما حصَل وبدأتُ أعتذِر منه وأتوسّله لِمُسامحتي. أمّا هو، فحزِنَ كثيرًا مُمسِكًا بذراعه الذي كان قد بدأ بالانتفاخ. رحتُ معه المشفى حيث قال للمّمرضة إنّ كلبًا مُشرّدًا هاجمَه، لكنّ المرأة علِمَت مِن آثار الأسنان التي على ذراعه أنّها فعلة إنسان. ثمّ هي نظرَت إليّ نظرة عتاب واستفسار وقالَت لي جانبًا:

 

ـ لا أدري لماذا تفعلين شيئًا كهذا، لكن مِن الظاهر أنّكِ مُستاءة للغاية. لكن لو أنّ زوجكِ رجُل عنيف أو مُتنمِّر، فهو يستحقّ هذه العضّة.

 

ـ بالعكس، إنّه زوج مُمتاز.

 

ـ إذًا لدَيكِ مُشكلة كبيرة، وأنصحُكِ بالمُعالجة النفسيّة. فقد يأتي يوم وتؤذينَه مُجدّدًا وبطريقة أخطَر. تعالي المشفى غدًا وقابلي هذا الدكتور.

 

كتبَت المُمرّضة اسمًا على ورقة صغيرة أعطَتها لي، لكنّني لَم أكن مُقتنِعة بضرورة رؤية أخصّائيّ نفسيّ.

عُدنا إلى البيت صامتَين، ودخلتُ غرفتي لأبكي فيها على ما آلَت إليه الأمور بيننا. وفي الصباح، كنتُ قد حضّرتُ حقيبتي لأرحَل وأتركَ يوسف وشأنه ليتمكّن مِن إيجاد زوجة أفضل منّي. لكن حين مدَدتُ يدي إلى حقيبة يدي لِجَلب المفاتيح، وجدتُ الورقة الصغيرة ونظرتُ إليها وكأنّها تتكلّم معي. فقلتُ عاليًا:

 

ـ صحيح أنّني لستُ على ما يُرام، صحيح ذلك.

 

أعَدتُ حقيبة أمتعتي إلى الغرفة ورحتُ المشفى حيث قابَلتُ الطبيب. جلستُنا الأولى كانت بمثابة تعارف فلَم أشعُر بالإحراج أو الانزعاج. أخذتُ موعدًا آخَر وعدتُ إلى البيت حيث أعدَّيتُ الطعام وقمتُ ببعض التنظيفات. كنتُ سعيدة ومهمومة: سعيدة لأنّني قمتُ بخطوة مُهمّة، ومهمومة مِن كثرة خوفي مِن اكتشاف أمور تخصّني. يا إلهي... هل أنا مجنونة؟

علاقتي اليوميّة بيوسف بعد حادثة العضّة صارَت مُشنّجة، إذ خجِلتُ منه كثيرًا وهو بقيَ بعيدًا عنّي. المسكين، كيف لي أن ألومَه؟ لَم أقُلّ له أنّني أتعالَج، فمَن يدري كيف ستكون نتيجة المُعالجة؟

لن أطولَ بالتفاصيل وأروي لكم ما حدَثَ في جلسات الطبيب النفسيّ، فالذي اكتشفتُه بعد أشهُر قلَبَ عالمي بشكل فظيع. فالمُعالِج قامَ بتنويمي مغنطيسيًّا بعد أن تعذَّرَ عليه الوصول إلى ثنايا عقلي الباطنيّ، فالذكريات الأليمة التي كنتُ أحملُها كانت مدفونة جيّدًا. وتبيّنَ أنّ كُرهي للرجال سبَبه أحَد أقاربي الذي تحرّشَ بي مرّات عديدة عندما كنتُ طفلة. لن أقولَ مَن هو، لكنّه كان جدًّا قريبًا منّي. وفظاعة الأمر، وعدَم فهمي آنذاك للذي يحصل، ونكراني للأمر، كلّ ذلك حملَني على كَبت الأمر بشكل تام. إلا أنّني صرتُ خائفة وغاضبة مِن الرجال لأقصى درجة وأعتبرُهم خطَرًا عليّ. شرَحَ لي الطبيب كلّ ذلك بعد أن تذكّرتُ كلّ ما حصَلَ وبدأتُ بالبكاء، وشرَحَ لي أيضًا أنّ المُعتدي هو إنسان مريض ولا يُمثِّلُ باقي الرجال. أعطَيتُ الأخصّائيّ الإذن باطلاع يوسف على ما اكتشفناه، فلَم أكن قادرة على البوح له بذلك بنفسي.

جلَسَ زوجي إلى جانبي في العيادة وبدأ الطبيب بالكلام. رأيتُ على وجه يوسف علامات الاندهاش ثمّ الغضب وبعد ذلك الحزن، فعانقَني بقوّة بينما كنتُ أبكي. أعطى الطبيب زوجي تعليمات عن كيفيّة مُساعدتي، وكيف على الأمور بيننا أن تُعالَج بتأنٍّ وصَبر. وعدَني زوجي بأنّ كلّ شيء سيكون على ما يُرام.

اليوم لدَينا ولدان وأنا زوجة سعيدة. صحيح أنّ الأمر لَم يكن سهلاً في البدء، لكنّ حبّ يوسف لي شفاني. على كلّ الأحوال، أحبَّني زوجي منذ البدء ولَم يكفّ عن حبّي بالرغم مِن الذي مرَّ به معي ولَم يخُنّي يومًا. لن أجِدَ أبدّا شخصًا مثله، فقليلون هم مَن يُحبّون هكذا. فأيّ رجُل مُتزوّج يقبَل بزوجة تمنعُه مِن الاقتراب منها لأكثر مِن سنة؟

كلّنا نحملُ جروحًا نفسيّة والبعض منها عميقة وتمنعُنا مِن العَيش بسلام وسعادة. والطبّ النفسيّ موجود لمُساعدتنا ومواكبتنا إلى حياة سليمة ومُتوازنة. لن أشكُر كفاية تلك المُمرّضة، فلولاها لبقيتُ سجينة ماضٍ رهيب وخسِرتُ زوجي العظيم.

ماذا حدَث للوحش الذي تحرّشَ بي وأنا صغيرة؟ لقد ماتَ بعد انتهاء مُعالجتي بقليل، وأسِفتُ أنّه لَم يتسنَّ لي مواجهته أو فضحه. على كلّ الأحوال، هناكَ مَن سيُحاكمه أفضَل منّي حيث هو ذهَبَ!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button