لا تبعدوا أخي عنّي!

كانت حياتي منذ البدء غريبة عجيبة ومليئة بالأحداث غير الاعتياديّة... فالناس لدَيها بالفطرة استعداد لتصديق ما هو خياليّ وماورائيّ، حتى لو اقتضى الأمر إيذاء الآخَر وحتّى أقرَب الأشخاص.

فمنذ ولادتي حلََّت النِّعَم على بيتنا كما قيلَ لي لاحقًّا، فنالَ والدي ترقية هامّة في وظيفته، وورثَت والدتي قطعة أرض مِن خالة لها توفّيَت في الغربة. أُذيعَ الخبَر أنّ المولود الجديد، أيّ أنا، جاءَ إلى الدنيا حاملاً الهدايا المُبارَكة، فحصلتُ على دلال يفوقُ ما كنتُ سأنالُه كوني ذكرًا والابن البِكر، فتصوّروا كيف كانت طفولتي! بعد ذلك، بدأ الأقارب يأتون إلى دارنا حاملين أوراق اليانصيب، يُطالبون بأن أجلِسَ بالقرب منهم أمام التلفاز خلال السحب... حتى يربحوا الجوائز الماليّة!

في المدرسة وجدتُ سهولة كبيرة في الاستيعاب والحفظ، وكنتُ دائمًا أوّل صفّي. بعد ذلك، إزدهَرَت أحوالنا فانتقلَنا إلى مسكن جديد وأنا إلى مدرسة خاصّة.

ووُلِدَ أخي الصغير... وانقلبَت حياتنا! كان الأمر وكأنّ ذلك المولود حجَبَ عنّا كلّ الخَير الذي جلبتُه يوم أتَيتُ إلى الدنيا!

في البدء، حاوَلَ أهلي طبعًا عدَم تحميل وائل، أخي الصغير، مسؤوليّة تراجع أوضاعنا، فهما في آخِر المطاف والدان مُحبّان، لكنّ الأمر كان واضحًا كالشمس. حتّى الناس بدأوا يتكلّمون عن الذي أسموه "وجه النحس" مع أنّه كان لا يزال رضيعًا. حزِنتُ كثيرًا مِن أجله وكرِهتُ الناس وألسنتهم المؤذية!

بقيَ وضعنا يتراجَع إلى أنّ قالَ رجُل يُقال عنه إنّه حكيم ولدَيه خبرة في الناس والدنيا، إنّ على أهلنا أن يُفرّقوا بيني وبينه فلربّما يعودُ الخَير إلى البيت. ماذا؟!؟ أنا لَم أصدِّق أنّ اخًا وُلِدَ لي لأبتعِد عنه بعد ذلك؟ بكيتُ كثيرًا وفعلتُ المُستحيل، لكنّ أبوَيّ قرّرا أن يبعثا وائل إلى جدّتي في القرية بعد أن يبدأ بالمشي. أيّها الجهلة! كيف سمعتُم مِن الناس؟!؟

وهكذا رحَلَ وائل وأنا بقيتُ لوحدي وسط والدَين خجِلا مِن أن ينظرا إلى عَينَيّ، أنا الفتى البالِغ السادسة مِن عمري. بعد ذلك، سكنَني غضبٌ أبقيتُه في داخلي وشعورٌ بالظلم نيابة عن أخي الحبيب.

مرَّت الأيّام والأشهر واصطلحَت أحوالنا شيئًا فشيئًا، فارتاحَ ضمير أبي وأمّي لأنّهما رأيا أنّ إبعاد وائل كان صائبًا. أمّا بالنسبة لجدّتي، فهي لَم تتأثّر بفأل أخي السيّء، وفسَّرَ الناس ذلك بأنّها عجوز ولا آمال ومشاريع مُستقبليّة لها. أمّا أنا، فكنتُ أدركُ أنّ كلّ هذه الأمور خزعبلات، حتّى كَوني أجلبُ السَّعد لمَن حَولي. رأيتُ وائل مرّات قليلة خلال أعوام، أوّلاً لأنّ أبوَيّ كانا لا يزالان يُحبّذان بُعدنا عن بعض، وثانيًّا لأنّهما وضعاني في مدرسة داخليّة.

وخلال وجودي في تلك المؤسّسة، سمِعَ المُدرّسون والطلّاب أنّني أجلبُ الحظّ وعاملوني جميعًا كالملك، أيّ أنّ حياتي كانت هنيئة ومُيسّرة في كلّ الظروف. لكنّ قلبي كان حزينًا للغاية، إذ أنّ أعزّ زميل لي كان بالفعل غريبًا بالنسبة لي وليس مِن لحمي ودمي. وحده وائل كان جزءًا منّي وحُرِمتُ منه قسرًا.

حصدتُ كالعادة أفضَل العلامات، وأنهَيتُ المرحلة المدرسيّة بتفوّق فعدتُ نهائيًّا إلى بيت أهلي. كنتُ قد غبتُ عنهم لأشهر طويلة بدون انقطاع، بسبب الامتحانات الرسميّة وحاجتي إلى عدَم الالتهاء بل التركيز. وما لَم أعرِفه، هو أنّ جدّتي توفّيت في تلك الفترة بالذات، فعادَ وائل إلى بيتنا أخيرًا. وكَم سُررِتُ برؤيته! عانقتُ أخي الصغير وأنا أبكي مِن الفرَح وهو كذلك، بينما نظَرَ إلينا والدانا بترقّب وخوف. فوقفتُ وسط الصالون قائلاً عاليًا:

 

ـ منذ الآن سنعيشُ كالعائلة الحقيقيّة، لن يرحَل أيّ منّا إلى أيّ مكان! أفهمتَ يا بابا؟ أفهمتِ يا ماما؟!؟

 

سادَ صمتُ رهيب لَم يؤثِّر عليّ أبدًا، وأخذتُ بِيَد أخي ورحنا الغرفة لنتبادَل الأخبار.

في المساء، أخذَتني أمّي جانبًا وقالَت لي همسًا كَي لا يسمعُها وائل:

 

ـ أحبُّ أخاكَ كثيرًا، وإبعاده عنّا ليس بداعي خوفنا مِن خسارة النِّعَم، بل لحمايتكَ.

 

ـ هذا كلام فارغ يا ماما... شعْوذات وخرافات قرويّة... أنظري إلى العالَم المُتقدِّم والاخترعات والانجازات التي وصَلَ إليها. أمّا نحن، فلا نزال نُعلّق أهمّيّة على أمور لا أساس لها. تقولين إنّكِ تُحبّين وائل، لكن ليس بالقدر نفسه الذي تُحبّيني أنا. لماذا؟ هل لأنّني جلبتُ لكم الرخاء والسَعد؟ إنّه ظلم ولن أقبَل به بعد الآن!

 

ـ ستندَم يا إبني، فقد قيلَ لي إنّكَ ستُعاني كثيرًا!

 

ـ كفى! قيلَ لكِ؟؟؟ مَن قالَ لكِ هذا الكلام ومِن أين جاء بهذا اليقين؟ إنتهى الموضوع!

 

مِن حسن حظّه، إعتقَدَ أخي أنّه عاشَ عند جدّته كَي لا تبقى لوحدها كَونها عجوزًا، فهكذا صوّروا له الوضع. وحسب قوله، قضى وائل سنوات هنيئة مع جدّته بالرّغم مِن شوقه لي ولوالدَينا. لَم أُحاوِل إطلاعه على السبب الحقيقيّ طبعًا، فذلك قد يُدمّره ويحمله على كرهي.

تسجّلتُ في جامعة ليست بعيدة عن منزلنا، كي لا أضطرّ لترك البيت مُجدّدًا بل قضاء أكبر وقت مُمكن مع أخي والتعويض عن الزمَن الضائع. لكن حصَلَ أن رسبتُ في إمتحان دخول الكلّيّة، الأمر الذي أحبطَني إلى أقصى حدّ كَوني تلميذًا بارعًا في كلّ المواد. فتّشتُ عن إختصاص آخَر، فاختَرتُ مواد لا أحبُّها على الاطلاق كَي لا أبقى في البيت سنة كاملة مِن دون تعلّم. تسجّلتُ في اختصاص لا يتطلّب إمتحان دخول وعَزمتُ على العمَل للعودة إلى اختصاصي الأوّل.

في تلك الأثناء إلتقطَ والدي بكتيريا عانى منها لوقت طويل، وتناولَ المضادات الحيويّة لمدّة شهرَين كاملَين، الأمر الذي أجبرَه على أخذ إجازة طويلة مِن عمَله. لِذا صرتُ أعمَل في مقهى ليلاً لأصرِف على العائلة، وتعِبتُ كثيرًا. سمعتُ والدَيّ وهما يتحدّثان عن أمر رسوبي الامتحان ومرَض أبي، فأسكتُّهما بسرعة كَي لا يسمَع وائل كلامهما عنه وجَلبه النحس إلى البيت.

إستمرّ الوضع بالتدهور حين وقعَت أمّي عن السلالم وكسَرت رجلها في أماكن عديدة، فاهتمَّيتُ ووائل بها وبأبي. مِن حسن الحظّ أنّ أخي لَم يرَ في الأمر إلا أحداثًا مُتفرِّقة لا علاقة بينها، واستطاعَ التركيز على مدرسته. أمّا أنا، فانشغَلَ بالي كثيرًا، فهل سيُقرّرُ أهلي إبعاده مُجدّدًا؟

لكن قَبل نهاية سنتي الجامعيّة التي بالكاد إستطعتُ مُتابعتها، ضربَتني سيّارة مُسرِعة فانتهى بي المطاف في المشفى. كانت رِجل أمّي قد شفيَت وتحسّنَت صحّة أبي، فتمكّنا مِن المكوث معي لأنّ أصابتي كانت بليغة. وأوّل شيء قالَته لي أمّي كان:

 

ـ سيرحَل وائل. أم تُريدُ أن تموت؟!؟

 

ـ أرجوكِ يا ماما، ألا ترَين أنّ الوقت ليس مُناسبًا لهكذا كلام؟ فأنا أتألَم كثيرًا الآن وفكرة تحميل المسؤوليّة لأخي ستزيدُ كثيرًا مِن مُعاناتي. إيّاكما أن تُعاقبا أخي على شيء لَم يفعله. هو لَم يجلب البكتيريا لأبي، بل المياه أو الخضار الملوّثة، وهو لَم يدفَعكِ عن السلالم بل أنتِ وقعتِ لوحدكِ، وهو لَم يضرُبني بالسيّارة بل سائق مُتهوِّر.

 

ـ وجهه نحس علينا!

 

ـ إنّه إبنكِ! يا إلهي، هل أنتِ أمّ حقًّا؟!؟ خوفكِ مِن المجهول وغير المُتوقَّع يحملُكِ على نسيان عاطفتكِ كأمّ.

 

ـ إذًا إرحَل أنتَ. نستطيع تحمّل فأل أخيكَ السيّء لكنّني أخافُ عليكَ منه. ماذا ستختار، الرحيل أم ترحيله؟

 

ـ سأرحلُ أنا.

 

وبعد أن شفيتُ تمامًا، تركتُ البلَد إلى أوروبا حيث خالي، وودّعتُ وائل على مضض داعيًا له بالتوفيق. أسِفتُ على ما يحصلُ لعائلتنا، لكن ما عسايَ أفعَل حين يكون الوالدان قليلي التفكير والتحليل ويتأثّران بالكلام الفارغ؟

بعد وصولي إلى بيت خالي، رحتُ فورًا إلى الدرس بدخول جامعة حيث تفوّقتُ. فهمتُ أنّ رسوبي في البلد كان سببه أجواء البيت السلبيّة وزعَلي على أخي. لِذا فعلتُ جهدي لأحصلَ على شهادة جامعيّة وعمَلٍ حتى أجلِبَ وائل إليّ بأسرع وقت.

وهذا ما حصَلَ، ففي غضون سنوات قليلة، لحِقَ بي أخي بالرغم مِن مُمانعة والدَينا اللذَين خافا عليّ منه. لكنّني كنتُ قد كبرتُ وكذلك وائل، ولَم نعُد نتأثّر بأهلنا إلا مِن ناحية إحترامهما وحبّهما.

بقيَت والدتي تتّصل بي يوميًّا لترى إن كنتُ أُعاني مِن تأثير فأل أخي السلبيّ عليّ، لكن ما مِن شيء حصَل،َ بل كبرنا وتخصّصنا وتزوّجنا وأنجَبنا كسائر الناس.

أيّها القرّاء، لَم يكن وجهي فأل خَير على أهلي، بل جئتُ إلى الدنيا في مرحلة جيّدة بالنسبة لهما ماديًّا وصحّيًّا وإجتماعيًّا. تفوّقي في المدرسة سببه إستعدادي للحفظ السريع والفهم السهل، الأمر الموجود عند العديد مِن الطلّاب. أمّا بالنسبة لوائل، فهو كان ضحيّة بريئة ذنبه الوحيد أنّ ولادته تزامنَت مع أحداث بشعة أتَت مُتتالية. أضاعَ المسكين سنوات عديدة مِن عمره بعيدًا عن أمّه وأبيه وأخيه وكادَ أن يُرحَّل مرّة أخرى. ماذا كان سيكون مصيره لولا وقفتُ إلى جانبه؟ أيّها الناس، الحياة كالدولاب، تتقلّب تارة إيجابًا وتارة سلبًا ولا يُؤثِّرُ على مجراها سوى خالقها الذي هو وحده القادر على ذلك مِن دون سواه.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button