كيف أحبَبتُ هكذا إمرأة؟

أحبَبتُ دلال لِدرجة لا توصَف، فكيف لي أن أتحمَّل كلّ الذي بدَرَ منها لولا ذلك التعلّق غير المشروط؟ وقليلون هم الذين علِموا بالذي دارَ بين جدران منزلنا لأنّني فعلتُ جهدي لإخفائه. كَم أنّني مُمثِّل بارع! لكن اليوم، وبعد أن رحلَت زوجتي إلى دنيا الحقّ، قرَّرتُ التكلّم. والسبَب الوحيد الذي حملَني على سَرد قصّتي، هو لتفريغ قلبي مِن الغضب والكُره والخوف والامتعاض، بغية الوصول أخيرًا إلى السلام الداخليّ الذي تمنَّيتُه لسنوات طويلة. فلقد هدَرتُ قسمًا كبيرًا مِن حياتي مِن أجل إنسانة أنانيّة وحقيرة.

جمالُ دلال هو الذي جذبَني أوّلاً إليها خلال حفل زفاف حضرتُه ذات يوم، لكن أيضًا كيف أنّ كلّ الشبّان الموجودين حاموا حَولها. فأمِلتُ أن أكون الذي يفوزُ ولو باهتمامها، ومَن يدري لاحقًا بقلبها؟ وشاء القدَر، لمُصيبتي، أن تقبَل دعوتي للرقص، فامتلأ جسدي كلُه بشعور غريب حسبتُه حُبًّا لكنّه كان شعورًا بالانتصار والفخر. رقصنا سويًّا طوال مدّة الحفل، ورأيتُ مِن حولي نظرات الغيرة والتساؤل: لماذا إختارَتني دلال أنا بالذات؟ للحقيقة لَم أكن مُميّزًا بشيء، لكنّ تلك الصبيّة علِمَت على الفور أيّ صنف مِن الشبّان أنا: إنسان هادئ ومُطيع وأهوى النساء ذوات الشخصيّة القويّة. فهكذا كانت أمّي التي كانت في نظري ستّ الستّات، وهكذا يجب أن تكون زوجتي. ويا لَيتني انتبهَتُ للحزن الدائم الموجود في عَينَيّ أبي، وإصراره على التغيّب عن البيت قدر المُستطاع، لفهمتُ أين يكمنُ الخطر في هذا الصنف مِن النساء.

 

بدأنا زواجنا بمجموعة قوانين سنَّتها دلال، في ما يخصّ البيت وسَيره، واعتبرتُ أنّ ذلك مِن حقّها إذ أنّها سيّدة المكان. ولَم أعرِف حينها أنّها تختبرُ مدى تجاوبي معها. لِذا هي صعَّدت سقف القوانين عامًا بعد عام. لَم نُنجِب لأنّ زوجتي لَم تكن قادرة على ذلك، وهي زفَّت لي الخبر وكأنّها تُطلعُني على ما سنأكلُه ظهرًا أو مساءً، مُعلنةً أنّ عليّ تقبّل الوضع كما هو. لَم أُمانِع مع أنّني كنتُ أحلمُ بأن نأتي إلى الدنيا بمخلوق يُشبهُها، فاكتفَيتُ بحياة بالقرب منها وحسب. فقد كنتُ مفتونًا بها لدرجة لا توصَف، بالرغم مِن تنبيهات أبي بشأنها يوم عرّفتُه عليها. هو لَم يقُل ذلك بوضوح، لكنّه رأى فيها صورة عن أمّي، واكتفى ببعض الجُمَل التي مفادها أنّ عليّ التريّث قَبل أن أتزوّج كي لا أندَم لاحقًا. غضبتُ منه، المسكين... فوحده كان يعرفُ ما سيحلّ بي. أمّي، مِن جانبها، رحبَّت بدلال وأعطَتها بعض التعليمات في ما يخص "إسعادي"، لكنّها عنَت حتمًا "ترويضي".

حياتنا الحميميّة كانت مبنيّة على نظام "المُكافأة"، إذ أنّ زوجتي لَم تكن تقبَل أن ألمسها إلا إذا حصَلَت على طلَبها الذي كان يتراوَح بين أمور صغيرة وأخرى كبيرة وباهظة. لكنّ راتبي لَم يُساعدني كثيرًا على تلبية تلك الطلبات الكبيرة، الأمر الذي أدّى إلى فترات امتناع طويلة. إلا أنّ حبّي لِدلال لَم يكن قائمًا على حاجات الجسَد بل على العواطف، لذا إستطعتُ التحمّل طالما هي تُحبُّني.

 

بعد حوالي السنتَين، قرّرَت زوجتي أنّها تُريدُ جني المال، فبدأَت تبيعُ لسيّدات المنازل، تارة المساحيق وتارة الأواني البلاستيكيّة. وصارَ بيتنا يعجُّ بالنساء اللواتي اجتمعنَ للاستماع إلى شرح دلال عن ضرورة اقتناء مُنتجاتها. فرحتُ لها لأنّها كانت مُتحمّسة للأمر وبدَت لي أكثر سعادة. إلا أنّ تجارتها هذه لَم تدُم، بل سئمَت منها لأنّها أرادَت المزيد، المزيد مِن المال والتفاعُل مع الناس. لِذا راحَت تعمل في محلّ للمجوهرات مِن ذهب وماس وكلّ ما يبرُق. لَم أتوقّع أن تأخَذَ حياتنا مُنعطفًا جذريًّا بسبب حبّها للمال، فهي لَم تتربّى فقيرة أو بالعَوز بل حصَلَت على ما أرادَته خلال طفولتها.

بدأَت دلال تشتري لنفسها الملابس والأحذية الأنيقة، وتلبسُ مِن تلك المجوهرات المعروضة في المحلّ. سألتُها عن الأمر فقالَت لي إن صاحب المحلّ طلَبَ منها أن تكون بمثابة دعاية مُتنقِّلة لابتكاراته. لِذا كان عليها "التنقّل" في السهرات التي لَم يكن مسموحًا لي حضورها لأنّني لَم أكن فردًا مِن فريق العمَل. سكتُّ لأنّ زوجتي صارَت أكثر ليونة معي وتقرّبَت منّي جسديًّا في تلك الفترة. ظننتُ حقًّا أنّ زواجنا في مساره الصحيح، ولكن كنتُ مُخطئًا.

ذات يوم عادَت دلال مِن إحدى سهراتها الأنيقة باكية، إذ أنّها أضاعَت سوارًا مُرصّعًا بالماس وكان عليها بالطبع تسديد ثمنه لصاحبه. لكن كيف؟ هي توسّلَت إليّ لمُساعدتها وهدّدَتني بقتل نفسها إن لَم أفعَل شيئًا. وهي ذكّرَتني أنّ لدى أبي قطعة أرض كافية لتغطية ثمَن السوار. لكن كيف لي أن أقنَعَ والدي بِبَيع رزقه الوحيد المُتبقّي مِن أجل زوجة لَم يتقبَّلها؟ رفضتُ رفضًا قاطعًا ووعدتُها بأنّني سأجدُ طريقة أخرى، مُطمئنًا إيّاها بأنّني لن أسمَح لأحد بسجنها. تحوّلَت حياتي إلى جحيم بسبب البكاء والنحيب الذي ملأ البيت يوميًّا والتهديدات بالانتحار المُتتالية. وفي آخر المطاف رحتُ لأبي أقنعُه برهن الأرض، ووعدتُه بإرجاع المال بأسرع وقت كي يستعيد رزقه. تدخّلَت أمّي لصالحي وهو قبِلَ أخبرًا. أعطَيتُ المال لدلال لكنّني لَم أنسَ أن أقولَ لها بأنّ عليها أيضًا المُساهمة في جَمع المال مِن أجل فكّ الرهن عن الأرض. إلا أنّها لَم تتجاوب معي على الاطلاق ولَم أرَ منها قرشًا واحدًا. وأمام استحالتي ردّ ما أخذتُه، فقَدَ أبي قطعة الأرض إلى الأبد.

وُلِدَ في قلبي امتعاض تجاه دلال لَم يدُم، إذ هي بادَلتني بالمثل مع أنّني لَم أفعَل لها شيئًا، وصارَت عدائيّة معي لدرجة أنّني أخذتُ أسترضيها بشتّى الطرق مِن أجل استعادة حبّها لي. حبّ لَم يكن موجودًا في الأصل.

 

مرَّت السنوات قامَت دلال خلالها بسفرات عديدة مع صاحب محل المُجوهرات، بحجّة فتح محّلات وفروع في بلدان الخليج العربيّ. للحقيقة لَم أُمانِع أن تغيب زوجتي مع ذلك الرجُل لأيّام وأسابيع، ولَم أتخيّل أنّ الأمر مُريبًا، إلى حين جاءَني اتّصال مِن زوجة الجوهرجيّ تطلبُ منّي إبعاد زوجتي عنه. وهي استعملَت ألفاظًا قاسية وبذيئة تجاه دلال فدافعتُ عنها بشدّة. إلا أنّ المرأة نعتَتني بالغبيّ وأقفلَت الخطّ غاضبة. هل يعقَل أن تكون زوجتي على علاقة مع مديرها؟ لِذا منعتُ زوجتي مِن السفَر مُجدّدًا وتفاجأتُ بردّة فعلها: شتمَتني دلال وراحَت تكسرُ أغراض البيت صارخة ومُهدِّدة لِدرجة أنّ بيتنا بدا وكأنّ عاصفة ضربَته. وفي اليوم التالي، رحلَت دلال مع أمتعتها، بصورة دائمة. هل قسوتُ عليها؟ هل ظلمتُها بتلميحاتي بخيانتها؟ يا إلهي، ما عليّ فعله لتعودَ إليّ؟ إتّصلتُ بها مرّات لا تُحصى إلى أن قرّرَت أخيرًا الإجابة. عندها اعتذرتُ منها ووعدتُها بأنّني لن أقِفَ مُجدّدًا بوجه ما أسمَته "مُستقبلها المهنيّ وتحقيق ذاتها". عادَت دلال إلى البيت مُنتصِرة وأنا صرتُ زوجًا مهزومًا نهائيًّا.

كتمتُ أخبار زوجتي عن أبوَيّ وباقي عائلتي، لا بَل صرتُ أخترِع قصصًا رومانسيّة عنّا، ومثّلتُ دور الزوج السعيد بينما هي حتمًا في أحضان غيري. فكنتُ قد تأكّدتُ مِن الأمر حين اكتشفتُ صدفة مُراسلات عاطفيّة على هاتفها مع أكثر مِن رجُل. لَم أقُل لها شيئًا خوفًا مِن أن ترحَل مع عشيق ما، لكنّ قلبي امتلأ بالغضب والشعور بالإذلال. لماذا لَم أتركها حينها وفتّشتُ عن امرأة صالحة ومُحبّة؟ لأنّني وبكلّ بساطة لَم أستطِع تصوّر نفسي مِن دون دلال. كانت تلك المرأة قد استحوذَت على كياني كلّه وكنتُ أسيرها الضعيف. بالطبع لَم نعُد نلتقي في السرير، فكان ممنوعًا عليّ لمسها، خاصّة أنّها انتقلَت إلى غرفة ثانية بحجّة أنّها دائمة التعَب بسبب عمَلها الشاق. لَم نعُد نستقبلُ أحدًا في منزلنا على الاطلاق، وصرتُ سجين كذباتي وادّعاءاتي بالسعادة الزوجيّة.

إستمّرَ الوضع سنوات طويلة، إكتفَيتُ خلالها بالذهاب إلى عمَلي والعودة إلى البيت، لأجده إمّا فارغًا أو مسكونًا مِن قِبَل زوجة لا تتبادَل الكلام معي، أو تكتفي بإطلاق طلبات أو مُلاحظات بخصوص قلّة منفعتي في حياتها. مِن جهتي، إعتدتُ على الأمر وأمَلي الوحيد كان أن تملّ دلال مِن حياتها الصّاخبة وتعود الصبيّة التي أحبَّتني. أجل، كنتُ واثقًا مِن أنّها أحبَّتني يومًا، بالفعل كنتُ غبيّ! على كلّ الأحوال، ما دامَت هي لا تزال تعيشُ معي تحت سقف واحد، كان ذلك يعني أنّ شيئًا ما يربُطها بي، أليس كذلك؟ لكنّ الواقع كان أنّها تقومُ بعلاقات مع رجال مُتزوّجين ليصرفوا عليها الكثير للحفاظ على سرّيّة العلاقة، وكان عليها أن تُبقي لنفسها مكانًا تعيشُ فيه تحت غطاء الزواج الشريف.

وبعد أكثر مِن عشر سنوات مِن زواجنا، أُصيبَت دلال بمرض خبيث. أخذتُها إلى أمهَر الأطبّاء لكنّ موتها كان محتومًا. قد يظنّ المرء أنّ زوجتي تابَت بعد أن علِمَت أنّ نهايتها قريبة، لكنّها زادَت امتعاضًا تجاهي وأفرَغَت كلّ غضبها مِن حالتها عليّ. بقيتُ إلى جانبها أخدمُها وأسهَر عليها بينما هي لَم تتوقّف عن شَتمي وإهانتي.

ولحظة ما أغمضَت دلال عَينَيها إلى الأبد، تفاجأتُ بنفسي أُطلِقُ تنهّد ارتياح. تصوّرتُ أنّني سأبكي كلّ دموعي، إلا أنّ غيابها عنّي أزالَ ثقلاً أقنعتُ نفسي أنّني قادرٌ على تحمّله. رحَلت دلال ورحَلَ معها ضعفي ورضوخي وتقبّلي للإذلال والإهانات. ماتَت الطاغية والأنانيّة والقاسية، وعادَت إليّ حياتي أخيرًا.

مثّلتُ دور الزوج المفجوع أمام ذويّ وهم واسوني وأحاطوني. وحده أبي العجوز همَسَ في أذني: "متى يأتي دوري؟ كَم أحسدُكَ!". نظرتُ إليه بحزن بعد أن رأيتُ أخيرًا في عَينَيه السبب الحقيقيّ لحزنه الدائم.

 

لستُ أبحَث عن أعذار لضعفي تجاه دلال وتقبّلي لكلّ ما فعلَته بي، إلا أنّني كنتُ بالفعل وكأنّني تحت تأثير سحر ما. صحيح أنّ تربية أمّي لي عوّدَتني على الرضوخ، لكن أن أتغاضى عن الخيانة والفجور، لَم أتصوّر ذلك مُمكنًا على الاطلاق!

ماذا يحلُّ بنا عندما نُحبّ وكيف لنا أن نُحبّ هكذا أشخاصًا؟ الجواب هو حتمًا عند المعالجين النفسانيّين الذين يُعالجون الألوف مِن الذين يقبلون الذلّ بصمت، شأن تلك النساء المسكينات اللواتِي تعانَينَ مِن طغيان أزواجهنّ. لكن هناك أيضًا رجال في مِثل حالتي يُخفون عذابهم عن مُجتمع لن يفهَم أنّ الأمر ليس مُرتبطًا بِنقص بالرجولة بل بعوامل نفسيّة وتربويّة. فلو كنتُ ناقص الرجولة أو معدوم الشخصيّة، لمَا كنتُ اليوم زوجًا سعيدًا وأبًا لتوأمَين. فلِحسن حظّي تعلّمتُ درسًا قاسيًا وفهمتُ ثنايا عقلي وقلبي. صحيح أنّني أضعتُ أجمَل سنوات حياتي، إلا أنّني أعيشُ الآن بهناء لَم أتصوَّر وجوده.

فالحبّ مِن طرف واحد ليس حبًّا بل خضوع، وتضحية ذاهبة سدىً لن توصِلُ صاحبها سوى للعذاب والذلّ. ويحقُّ لكلّ منّا أن يعيش سعيدًا مع شريكه ويتقاسَم معه كلّ ما هو جميل في هذه الدنيا.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button