كنتُ لعبة بين يديها

إن كنتُ قد وصلتُ إلى ما أنا عليه اليوم، فذلك يعود إلى تلك المرأة التي لعبَت منذ أوّل لقاء لن، دوراً أساسيّاً في حياتي. كانت أحلام متزوّجة آنذاك مِن رجل أعمال قويّ جداً، له مكانة في مختلف المجتمعات ونفوذ يتخطّى حدود البلاد وكانت في العقد الخامس مِن حياتها، بينما كنتُ لا أزال في الخامسة والعشرين. ولم أتصوّر أبداً أنّ إمرأة بجمالها وثراءها قد تنظر إلى موظّف بسيط كان قد بدأ لتوّه حياته المهنيّة. ولكنّ هذا حصل عندما كنتُ أحضر إحدى حفلات الشركة، حيث إختلط موظّفون ومدراء ومدعوّين مرموقين. وفي ذلك المساء تلاقَت نظراتنا وعلمتُ فوراً أنّ تلك السيّدة ستدخل حياتي بشكل أو بآخر. هي التي جاءت إليّ حاملة كأسها وحقيبة يد صغيرة مرصّعة بالأحجار باليد الأخرى وسألَتني عن إسمي. فأجبتُها بصوت خافت:

- أمير...

- إعتقدتُ أنّ الأمراء يتحلّون بالعزم والشجاعة... ما بكَ ترجف هكذا؟

- أنا آسف... لم أتوقّع أن تتحدّثي معي...

ضحكَت بصوت عالٍ ثمّ تابعَت:

- كم أنتَ لطيف...

وسألَتني عن وظيفتي وعمري وحالتي الإجتماعيّة، ثمّ أدارَت ظهرها بعدما قالَت:

- إسمي أحلام... وأنا زوجة ذلك الرجل المملّ... لا يتحدّث إلّا عن العمل... هل أنتَ مملّ أيضاً؟

وقبل أن أجيب، كانت قد إختفَت بين المدعوّين. لا أخفي أنّني لم أنَم جيّداً تلك الليلة لأنّ صورة أحلام لم تفارق بالي وضحكتها الإستفزازية بقيَت ترنّ في أذنيّ حتى اليوم التالي. ولكنّني نسيتُ ذلك اللقاء، ربّما لأنّني لم آمل أن أراها مجدداً. ولكنّني كنتُ مخطئاً لأنّني إستُدعيتُ بعد بضعة أيّام إلى مكتب مدير شؤون الموظّفين الذي قال لي مِن دون مقدّمة:

- لا أدري ما الذي فعلتَه لتستحقّ هذا ولكنّني تلقّيتُ أوامر بِنقلكَ إلى مكتب خاص بكَ مطلّ على البحر.

لم أستطع الإجابة لِشدّة إستغرابي ولم أكن أبداً أشكّ أنّ لأحلام دوراً بما حصل، حتى أن رنّ الهاتف في مكتبي الجديد وسمعتُ صوتها يقول:

- ما رأيك بمِنظر البحر؟

- لا أدري كيف أشكركِ سيّدتي...

- يمكنكَ دعوتي إلى الغداء اليوم... لديّ بعض الوقت قرابة الظهر... مطعم "السمكة الزرقاء"... الثانية عشر والنصف...

وأقفلَت الخط وإبتسمتُ، لأنّني كنتُ سأراها وأجلس معها وآكل برفقتها. وصلتُ قبلها لأنّ هذا ما يجب فعله في هكذا مناسبة وعندما دخلَت صالة المطعم، بدأ قلبي يخفق بقوّة لشدّة جمالها وأناقتها. وقفتُ لها وبعد أن ألقَت التحيّة عليّ وشعرتُ بأناملها الرقيقة داخل يدي جلسنا لنأكل. كان الطعام فاخراً وعندما إنتهينا وحان وقت الدفع، أصرَّت أحلام أن تسدّد الفاتورة:

- دعني أفعل... لَن تستطيع الدفع... على الأقل الآن... سيأتي يوم وستتمكّن مِن الذهاب إلى أيّ مطعم دون أن تزعجك الفاتورة.

- وكيف يحصل هذا وأنا موظّف عادي...

- سأساعدكَ

- ولِمَ تفعلين هذا؟

- كم أنتَ غبيّ!

وفهمتُ قصدها مليّاً عندما إتصلَت بي في ذات يوم ودعَتني إلى مِنزلها. في البدء ظننتُ أنّها تقيم حفل عشاء هي وزوجها ولكنّني كنتُ المدعوّ الوحيد وكان الزوج مسافراً. لم تخفي أحلام عنّي مرادها:

- إسمع يا أمير... أنا إمرأة وحيدة... الرجل الذي تزوّجته منذ سنين أصبح مملّاً ويقضي معظم وقته في الخارج وأنا بحاجة إلى وجود أحد معي... أنتَ تعجبني كثيراً... وأظنّ أنّني أيضاً أعجبكَ.

وكانت محقّة بما قالَته. وفي تلك الليلة أصبحنا عشّاقاً. وبدأنا نتواعد في بيتها عندما كانت الفرص متاحة أو في شقّة صغيرة خارج المدينة كانت تملكها لهكذا مناسبات. وبدأ أيضاً تقدّمي السريع في الشركة. وبالطبع أصبح الكل في مكان عملي يتساءل عن سبب ترقيتي المستمرّة ولم يعد يحبّني أحد، لأنّني لم أكن أشقى مثلهم لنيل راتبي، بل كل ما كنتُ أفعله كان الجلوس وراء مكتبي طوال النهار. وبعد سنتين على هذا النحو، مات زوج أحلام بنوبة قلبيّة ورأت عشيقتي أنّه حان الأوان لنرتبط رسميّاً ونعيش علاقتنا على العلَن. وللحقيقة لم أكن أريد الزواج مِنها رغم إعجابي الشديد بها ولكنّني لم أستطع الرفض بسبب كل ما فعلَته لي وخوفاً مِن أن أفقد كل شيء. وهكذا أصبحنا زوجة وزوج وبعد ثلاثة أشهر على دفن المرحوم، إنتقلتُ إلى المِنزل الكبير وهناك أطلعَتني أحلام على أعمالها وقرّرَت أنّني سأترك عملي في الشركة لِمتابعة ما بدأه زوجها السابق منذ سنين طويلة . كان العبء ثقيلاً عليّ لأنّني وبسببها لم أكن متمرّساً بعالم الأعمال بل صعدتُ السلّم دون كفاءة. ولكنّها طمأنتي بالقول:

- لا تخف... سيكون لكَ مستشارين وكل ما عليكَ فعله هو وضع إمضاءك في أسفل الصفحة.

وبعد فترة وجدتُ أنّني لم أعد أكنّ لأحلام ذلك الإعجاب الذي لم يتحوّل إلى حبّ رغم محاولاتها بأن تقرّبني مِنها. وفارق العمر بيننا بدأ يبدو ثقيلاً عليّ وحدث ما كان مكتوب أن يحدث: باتت الفتيات الشابات تجذبني لأنّني كنتُ بحاجة إلى مَن يفهمني. حاولتُ السيطرة على نفسي والإمتناع عن مغازلة أي أحد ولكنّني وقعتُ في حبّ إحدى الموظّفات. كانت بُشرى جميلة وشابة وذكيّة، أيّ المرأة المثاليّة بنظري. وبعد ان أفصحتُ لها عن مشاعري، قالَت لي أنّها لن تقيم علاقة مع رجل متزوّج خاصة معي، لأن زوجتي كانت أحلام ولأنّها كانت تدرك مدى قوّتها ونفوذها وأنّها قد تنوي الإنتقام مِنها. وافقتُها الرأي وحاولتُ إيجاد حلّاً يُرضي الجميع، أي أن أنفصل عن التي كان لها الفضل في نجاحي المهني والإجتماعي. ولكنّ أحلام لم تكن مستعدّة أبداً للتخلّي عن جائزتها وعندما طلبتُ مِنها الطلاق قالَت لي بكل برودة:

- كنتُ أعلم أنّ هكذا يوم سيأتي ولكن ليس بهذه السرعة. أعلم أنّني أكبركَ بأكثر مِن خمسة وعشرين سنة ولكنّني ما زلتُ أتمتّع بصحة جيّدة... لقد إستثمرتُ بكَ الكثير مِن المال والوقت والطاقة وإذا كنتَ تريد حرّيتكَ عليكَ أن تسدّد لي كل هذا...

كانت على علم أنّني غير قادر على تسديد أي شيء وأنّني مدين لها بكل ما أملك، لذا تراجعتُ عن مشروعي مع بُشرى وأكملتُ حياتي مع زوجتي. وأصبتُ بالكآبة ولم أعد ألمس أحلام، لأنّني فقدتُ أي رغبة بالتي أصبحَت سجّانتي. أمّا هي فلم تبالي وبقيَت تتصرّف وكأنّ شيئاً لم يكن. عشنا هكذا أكثر مِن سنة حتى اليوم الذي جاءت زوجتي إلى مكتبي وقالَت لي دون مقدّمة:

- لقد سئمتُ مِنكَ... لم تعد تسلّيني ولم تعد تشبع غرائزي... ورغم فارق العمر أشعر أنّكَ أنتَ الأكبر سنّاً بيننا... جئتُ لأقول لكَ أنّ لي عشيقاً... وإن كنتَ تمانع حدوث ذلك فيمكنكَ الرحيل... مِن دون أخذ أيّ شيء طبعاً.

ولأنّني لم أكن أملك شيئاً فعليّاً، قبلتُ البقاء معها حسب شروطها أيّ أنّها تستطيع فعل ما تريده وأنا لا. وبقينا ثنائيّاً سعيداً أمام الناس لمدّة خمس سنوات ثمّ طفح الكيل بعدما أصبحتُ وحيداً تماماً أقضي وقتي في العمل حتى آخر الليل لكي لا أعود إلى المِنزل وقررتُ الرحيل حتى لو فارغ اليدين. أعطَتني أحلام الطلاق دون تردّد ربّما للتمكّن مِن الزواج مِن عشيقها الذي لم يكن يبلغ الثلاثين مِن عمره. وأصبحتُ عاطلاً عن العمل أبحث عن وظيفة لأعيش. وجدتُ أخيراً عملاً كمحاسب في مؤسّسة صغيرة أجني ما يكفي لآكل وأدفع أيجار الشقّة الصغيرة التي وجدتها في إحدى الأزقّة. ورغم فقري كان لي عزاء واحداً: كنتُ أخيراً حرّ سيّد نفسي.

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button