كنتُ  سيّدة القرار حتى أن أصبح لي كنّة

لطالما كنتُ من يأخذ القرارات عن الجميع. فكان أبي يطلب رأيي في كل شيء ويأخذ به، لأنّني كنتُ الوحيدة التي نالت شهادة عالية في العائلة وكنتُ أتمتّع بمنطق صائب ورؤية بعيدة. حتى جيراننا، كانوا يأتون لإستشارتي بما يختصّ حياتهم العمليّة والشخصيّة، حتى أن إقتنعتُ فعلاً أنّني أفهم بكل شيء.
وعندما تزوّجتُ إخترتُ بالطبع رجلاً يؤمن بي ويقبل أن آخذ القرارات لوحدي ويعرف كيف يتنحّى لي. عشنا هكذا سعيدين، هو يدبّر المال وأنا أدير المنزل كما يجب. ورزقنا بولد أسميته منير، تيمّناً بوالدي. وكبِر إبني وهو يعلم أنّ أمّه تعرف ما يجب فعله وما يجب تجنبّه وكانت حياتنا تسير كعاقرب الساعة. عملتُ جهدي لكي يدخل منير أفضل كليّة طب في كل المنطقة وحرمنا أنفسنا من كل شيء حتى يصبح إبننا طبيباً ماهراً. وبعد سنين طويلة، إستطعتُ أن أفتخر بما فعلته وبلقب ِ"أمّ الدكتور". وبما أنّ منير إبن أمّه، هو أيضاً كان يحب أن يكون كل شيء كما يجب. وبدأ يمارس مهنته بتفاني وجديّة وبدأ إسمه يتنقّل من فم إلى فم. وبعد بضعة سنين، وجدتُ أنّ حان الوقت أن يتزوّج إبني وأن يؤسس عائلة تشبه عائلتنا. فعندما فاتحته بالموضوع قال لي:

- لا وقت لديّ للتفتيش عن عروس... لم لا تفعلين هذا نيابة عني؟ ذوقكِ رفيع وتعرفينني أكثر من أي شخص آخر وتغارين على مصلحتي. لن أجد أفضل منكِ للقيام بهذه المهمّة.

سررتُ أنّه وكّلني بإيجاد زوجة المستقبل وحتى لو لم يفعل، كنتُ سأختارها أنا. وبدأ بحثي، لأنّني أردتُ له أفضل فتاة في العالم، فكان إبني بالنسبة لي، الرجل المثالي ويستحقّ شخصاً مثله. زرتُ الصديقات والأقارب وشكّلتُ شبكة تحريّات واسعة وأعطيتهم مهلة أقصاها ستة أشهر، لأنّني كنتُ قد حددتُ موعد الزواج قبل إيجاد العروس. وبدأ هاتفي يرنّ كل دقيقة وتصلني صور ومواصفات فتيات وأرفضهنّ الواحدة تلو الأخرى، تارة لقلّة جمالهنّ وتارة أخرى لقلّة شهادتهنّ أو سمعة أهلهنّ. حتى أن وجدتُ أخيراً التي قد تناسب منير. كانت ريما رائعة الجمال ولها شهادة في الصيدلة وأبوها تاجر معروف. طلبتُ رقم أمّها ودبّرتُ موعداً معها. إستقبلَتني المرأة بأذرع مفتوحة، لأنّ إبني كان قد أصبح مشهوراً وأطلعتُها على نيّتي بتزويج ولدينا. أريتها صورة إبني ووجدَته وسيماً. أكّدتُ لها أنّ إبنتها ستعيش جيّداً ولكن فقط إن كانت فتاة مطيعة. لم أخفي عليها أنّني كنتُ أنوي التدخّل بحياتهما الشخصيّة، ليس من باب الفضول، بل لتسهيل أمورهما. قالت لي أمّ العروس:

- إبنتي ملاك! أحياناً أنسى حتى أنّها موجودة في البيت... تسمع كلامي وتنفّذ ما أطلبه منها دون أن تجادل... أنا متأكّدة أنّ لا رأي خاص بها!

سررتُ كثيراً لما سمعته وتأكّدتُ أنّني أحسنتُ الإختيار ومن بعدها نظّمتُ عندي في البيت لقاء للعروسين وأُعجِبا ببعضهما كما تأمّلتُ. بدأا بالخروج سويّاً وبعد حوالي شهر, جاء إليّ إبني وشكرني على إدخال ريما على حياته وأخبرني أنّه يريد أن يقضي باقي حياته معها. عندها قلتُ له بنبرة لا تتقبّل الجدل:

- تعلم يا حبيبي كم أنا وحيدة بعدما ماتَ أبوك... والبيت كبير عليّ...

- سنعيش معكِ، فلا يمكن أن أترككِ وحدكِ يا أمّي... أنتِ أعزّ إنسان على قلبي...

هذا ما كنتُ أودّ سماعه منه، لأنّني ربيّته ليهتمّ بي عندما أكبر وكان قد حان الوقت لأحصد ما زرعته. ونظّمتُ له عرساً لن ينساه أحد قبل وقت طويل وبعد أن عادا من شهر العسل، جاء العروسين إلى المنزل ليعيشا معي حتى آخر يوم في حياتي. كانت ريما فتاة لطيفة، تذهب في الصباح إلى صيدليّتها وتعود في المساء لتناول العشاء والمكوث معي ومع زوجها في الصالون، نتحدّث سويّاً ثمّ يذهبان إلى غرفتهما. كم كنتُ سعيدة! كان كل شيء يجري تماماً كما تصوّرته منذ لحظة ولادة إبني. لم يبقى سوى الحفيد وكنتُ أنوي على أن يولد بأسرع وقت، لذا إنتظرتُ الفرصة المناسبة لأقول لريما عندما كنّا مجتمعين:

- أرجو أن لا يكون عملكِ هو الذي يمنعكِ من الإنجاب... إذا كان هذا السبب فبإستطاعة منير إعالتكِ إن تركتِ الصيدليّة.

- أترك عملي؟ درستُ سنيناً عديدة لأفتح الصيدليّة ولا شيء أو أحد يمكنه تغيير ذلك...

- ولكن... ألا تريدين أولاداً؟

- هذا شأني وشأن منير... عندما يحين الوقت سنجد حلّاً.

نظرتُ إلى إبني وإنتظرتُ منه أن يقول شيء ولكنّه بقيَ صامتاً، فشعرتُ بغضب شديد ينتابني. كانت كنّتي قد وقفَت في وجهي وتجرّأت على معاندتي ولم يساندني منير! لم أكن مستعدّة للسكوت عمّا حصل، فلو فعلتُ لضاع كلّ ما عملتُ عليه لسنين. ولن أقبل أن تتفوّق عليّ فتاة صغيرة جاءت إلى بيتنا بفضلي أنا! قررتُ أن أُري إبني ما قد يحصل عندما لا يجاريني، فإدّعيتُ المرض. نمتُ في سريري وبدأتُ أصدر أنيناً عالياً لدرجة أنّ منير إستفاق من النوم وركض إلى غرفتي. سألني إن كنتُ بخير فأجبته:

- لا... لستُ بخير... أنّني أحتضر... كل هذا بسببكَ... كيف تسمح لزوجتكَ بالتحدّث معي هكذا؟ ألا تحبّني ولو قليلاً؟ من الأفضل أن أموت... لم يعد عندي سبب لأعيش...

وبانت على وجهه علامات الهمّ الشديد وكان على وشك أن يعدني بأنّ يتصرّف، عندما دخلَت زوجته الغرفة وبِيدها آلة لفحص الضغط ووضعتها حول ذراعي ثمّ قالت:

- ضغطكِ ممتاز حماتي... أنا أكيدة أنّكِ ستكونين بخير... هيّا منير لنعود إلى النوم، فعلينا أن نستفيق باكراً غداً.

وأخذَته وتركاني لوحدي أغلي من الغضب. كانت كنّتي عكس ما وصفتها أمّها لي وأدركتُ أنّها غشّتني. وفي تلك الليلة، قررتُ أنّ على الدخيلة أن ترحل، فقبل مجيئها كنّا نعيش بهناء. وأملي الوحيد كان أن يكون منير ما زال ولو قليلاً الصبي المطيع الذي لم يقل لي لا ولو  مرّة واحدة. لم أنتظر لأتحدّث معه، فبعد ذهابه إلى عيادته بقليل، لحقتُ به إلى هناك وإنفردتُ به. ومِن نظراتي علِم إبني أنّني آتية لمناقشة أمراً خطيراً. قلتُ له:

- إسمعني يا إبني... صحيح أنّني إخترتُ لك عروسكَ ولكنّني لستُ معصومة عن الخطأ... وبما أنّكَ لم تنجب منها بعد، فبإمكانننا تصليح الوضع وبسرعة.

- ولكن... ما الذي لا يعجبكِ بها؟

- كل شيء! إنّها وقحة وتريد أن تفعل ما تشاء!

- مثلكِ يا أمّي... أليس هذا ما تفعلينه؟

- أجل ولكن...

- ريما إنسانة محبّة وحنونة وأنا سعيد معها.

- منير! أنتَ سعيد معي فقط!

- أنتِ أمّي ولستِ زوجتي... أشكركِ على كل ما فعلتيه لأجلي ولكنّني لم أعد صغيراً وأصبح لديّ حياة خاصة بي وأديرها كما أشاء.

- لا أستطيع العيش مع تلك المرأة! عليكَ التصرّف وبسرعة!

- سأتصرّف... لا تخافي يا أمّي...

- هذا هو الإبن الذي ربيّته!

- سأجد شقّة أنتقل إليها مع ريما وهكذا لن تكوني مجبرة على العيش معها بعد الآن.

كاد أن يُغمى عليّ عند سماع هذا، فلم أتصوّر أبداً أنّه قد يتركني لوحدي ويذهب مع تلك الوقحة. عندها وجدتُ نفسي مُجبرة على القبول بالوضع الجديد. تابعتُ:

- أنا لا أقصد أنّني لا أستطيع أبداً العيش معها، بل أنّ الأمر صعب عليّ وأنا بحاجة لبعض الوقت لأتأقلم. وهي الأخرى يمكنها التنازل عن بعض الأمور لكي نعيش بهناء.

ضحِكَ منير وقال لي:

- لا تخافي يا أمّي... لن أترككِ يوماً... ولكن كبرياءكِ كاد أن يسبّب لنا المشاكل... ريما شابة وعليكِ إحتضانها ومساعدتها لأنّ لديكِ خبرة أكبر بالحياة.

سررتُ لِسماع هذا، فكان منير لا يزال يقدّرني. ورغم عدم إمتناني بالوضع الجديد، تقبّلتُ فكرة تقاسم صلاحيّاتي مع إمرأة أخرى. جرَت الأمور جيّداً بعد ذلك الحديث وتعلّمنا جميعاً أن نعيش سويّاً وبعد سنة تقريباً، جاءت ريما وأخبرَتني أنّها حامل. طرت مِن الفرح وقبّلتُ كنّتي بحرارة. ثم قالت لي والبسمة على وجهها:

- سيكون لولدي أفضل جدّة في العالم... شرط أن يكون له رأيه الخاص!

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button