كنت الوحيد الذي يعرف حقيقة امي

جاؤوا من أنحاء البلاد وحتى من خلف المحيط، لحضور مأتم مريم أمّي، لكثرة محبّة الناس لتلك المرأة الرائعة، التي كرّسَت حياتها لمساعدة المساكين من الفقراء والمرضى. ولقد نظمّنا لها مقرّ عزاء في المؤسّسة التي أنشأتها منذ سنين، بمال أبي الذي لم يستطيع رفض أيّ طلب لها لكثرة حبّه لها. كانت تعرف ما تريد وكيف تطلبه دون أن ينتبه أحد على أنّها تفرض إرادتها وأنّها لن تقبل أن يقول لها أحد لا. وأظنّ أنّ الوحيد الذي عرف طبيعة شخصيّتها الحقيقيّة، كان أنا أيّ إبنها الوحيد. وبالرغم أنّها أعطت إنتباهها وحبّها لكلّ الناس، حرمَتني من أيّ نوع من الحنان. ولو قلتُ ذلك علناً، لكنتُ قد جوبهتُ بالإستنكار العام. ولكي يفهم المرء إمرأة مثلها، عليه الرجوع إلى البداية والنظر إلى سيرة حياتها التي بقيَت معظمها سريّة.
ولدَت أمّي في عائلة متوسطة الدخل من أب وأمّ عملوا جهدهما لتأمين حياة كريمة لأولادهم الستة. ولكنّهما فضّلا دائماً ابنتهما البكر مريم، التي كانت الأذكى والأجمل من بين إخوتها وأعطاها كل ما يلزمها لشقّ طريقها دون عناء. أدخلاها إلى مدرسة عالية المستوى، بينما أرسلا باقي أولادهما إلى مدارس حكوميّة. ربّما كانا يشعران بأنّه سيكون لها مستقبلاً لامعاً أو ربّما أبهرا ككل الناس الذين صادفوا طريقها بشخصيّتها. وكبرَت أمّي وسط الدلال ودرّّبت باقي الأسرة على الطاعة المطلقة وعدم مناقشة رغباتها. وبعد أن أصبحَت مراهقة جميلة، قرّر أبوها أنّ حان الوقت بأن تجد عريساً مناسباً، أيّ من الطبقة التي حلِم أن ينتمي إليها. ولم يدم بحثه طويلاً، ففتاة مثلها تجد بسهولة من يرغب بها، لذا جاء شاب وسيم مع أمّه طالباً يدها.
كان الجميع مسروراً بما فيهم مريم، خاصة بعد أن علمَت بأنّه يملك أراضي واسعة ومنزلاً كبيراً. حدّد موعد الزفاف بسرعة وبعد فترة قصيرة أصبحَت سيّدة ذات شأن رفيع. أحبّت والدتي هذه الحياة السخيّة مع رجل لا يرى سواها ولكنّها لم تتوقّع أنّ حماتها ستكون معها كلّ الوقت وأنّها ستحاول فرض إرادتها عليها وكان طبعاً هذا الأمر مرفوضاً عندها بعدما عاشَت حياتها تأمر الجميع. وبدأت المشاكل بين المرأتين ووجد زوجها نفسه وسط معارك ضارية ووقع في حيرة من أمره، لا يعلم إلى أيّ جانب عليه الإلتفاف ولكنّ أمّي كانت لا تزال شابة وحماتها تتحلّى بخبرة أكبر في فنّ السيطرة، لذا خسرَت مريم الحرب وفضّلت الإنسحاب على الخضوع. لذا طلبَت من زوجها الطلاق بعد أن أقنعته على أن يترك لها بضع قطع من الأراضي ومدخولاً يكفيها لتعيش بكرامة. وعملَت جهدها لكي تبقى على صلة مع الذين تعرّفَت إليهم خلال فترة زواجها القصير، بعدما ألّفَت لهم قصصاً عن معاملة حماتها السيّئة لها حتى أن كسبَت ودّهم وحمايتهم. وهكذا حصلَت والدتي على المال والأصدقاء وتخلّصت من وصاية إمرأة اخرى عليها.
ولم يمرّ سنة على طلاقها، حتى أن وجدَت زوجاً آخراً ولكنّ هذه المرّة كان يتيم الأبوين ولا أشقاء له، وكان لديه حساباً كبيراً في المصرف وحبّاً كبيراً لها وذلك الرجل كان أبي. وبعد أن أصبحَت زوجته، وضعَت يدها على كل ما يمكنها أخذه، خوفاً من أن يأتي يوم وترى نفسها خارج اللعبة. ولكنّ والدي لم يكن ينوي الذهاب إلى أيّ مكان لكثرة إنبهاره بها وأعطاها الصلاحيّات التي تسعدها وتريح بالها. وهكذا وجدَت نفسها على رأس مبلغ كبير من المال والنفوذ الذي يأتي معه. وبدأت تبني لها هالة، لتجعل من نفسها أمثولة من الكمال، بعيدة جداً عن الحقيقة، لأنّها لم تعرف يوماً كيف تحبّ ولم تحاول حتّى فتح قلبها لأحد.


وبعد سنيتن، قرّرت مريم أنّ عليها الإنجاب لكي تفتخر أمام الناس أنّها خصبة وبأنّها قادرة على إعطاء هبة الحياة والإعتناء بمخلوق صغير تربّيه على أن يكون كاملاً مثلها. وبالطبع لم تسأل رأي أبي بهكذا قرار، لأنّها كانت تعرف ما يجب فعله ومتى. وأنجبَتني وفرحَت لأنّني ولدتُ كاملاً جسديّاً وعقليّاً ولا أدري ما كانت ستفعله بي لو كان لي عاهة ما. ولكن لكثرة إنشغالاتها الإجتماعيّة، جاءت لي بمربيّة وأستطيع القول بأنّها لم تلمسني يوماً كما تفعل الأمّهات ولم تغنّي لي لكي أنام ولم تجلس قربي عندما كنتُ أمرض. كانت تدّعي الحبّ فقط عندما نكون وسط الناس ولكن حين نكون وحدنا في البيت، كانت تتركني مع المرأة التي أخذَت مكانها. وبالطبع درّبَتني لكي أكون مطيعاً لها وألّا أناقش أبداً قرارتها، لأنّها وحسب قولها كانت تعلم ما يجب فعله أكثر من أيّ أحد.
وأسّسَت جمعيّة تُعنى بالفقراء ولاحقاً بالأيتام وعندما كنتُ أرافقها لزيارة أولئكَ الأطفال، كنتُ أراها تحملهم وتقبّلهم وسألتُ نفسي إن كانت تحبّهم أكثر منّي أو أنّها تلعب دور الأمّ الحنونة. أتاني الجواب لاحقاً، عندما تأكّدتُ أنّها غير قادرة على أن تحبّ أحداً سوى نفسها. كانت طفولتي حزينة، فلم يكن لديّ أصدقاء سوى الذين إختارَتهم بسبب نسبهم، فلم أحبّهم، لأنّهم كانوا كأهلهم وكأمّي أناس فارغين. أمّا أنا فكنتُ أحبّ جميع الناس وأهوي التنزّه في الطبيعة واللعب مع الحيوانات. ومعهم كنتُ آخذ قسطي من الحبّ الحقيقي الذي لا شروط له ولا حدود. كنتُ أحبّ الجلوس مع أبي الذي كان يروي لي المغامرات والقصص ويشاطرني حبّي للشجر والأرض ولكنّ هذا التقارب كان يغضب أمّي التي كانت تبعدني عنه بإرسالي إلى غرفتي تحت ذريعة أنّه يفرط بالإنتباه إليّ وأنّني لن أصبح رجلاً هكذا.
ومرّت السنين وزادَت أمّي قوّة وأبي ضعفاً وأنا كرهاً لهذا الجوّ ولم أعد أريد سوى شيئاً واحداً، هو الأبتعاد قدر المستطاع من سجني وسجّانتي. لذا قررتُ الهروب من البيت. ولأنّني كنتُ لا أزال في الرابعة عشر من عمري، لم أفكّر أنّ لا مكان لي أذهب إليه وإكتفيتُ بأخذ بعض الحاجات ووضعها في حقيبة صغيرة. مشيتُ لساعات طويلة، لا أعرف إلى أين أصل ولكن عندما هبط الليل، إنتابني الخوف وعدتُ إلى البيت. هناك وجدتُ أمّي جالسة على كرسيّها تبتسم. ثمّ قالت لي:


- مسكين أنتَ... إعتقدتَ فعلاً أنّكَ تستطيع الإفلات منّي؟ ألا تعلم أنّكَ لاشيء من دوني... أنتَ مثل ذلك الضعيف... أعني أباكَ... يا ليتكَ كنتَ مثلي... عد إلى غرفتكَ... سنرى بشأن عقابكَ غداً.


وعدتُ إلى نقطة الصفر مع فارق كبير: كنتُ قد أهديتها إنتصاراً ساحقاً كانت بإنتظاره حتماً. وفي اليوم التالي، جاء أبي إلى غرفتي وقال لي أنّه خاف أن أكون قد تهتُ وأنّه أراد الذهاب للبحث عنّي ولكنّ أمّي منعته من ذلك، لأنّني كنتُ سأعود عند هبوط الليل. أسفتُ لأنّها كانت على حقّ ولأنّ والدي كان بهذا الضعف وأدركتُ انّني لن أجد فيه يوماً الحماية التي يؤمنها عادة الآباء لأولادهم. ومنذ ذلك اليوم إستسلمتُ لإرادتها وفعلتُ كل ما أرادتني أن أفعل دون أيّ نقاش. إختارَت لي مهنة الطب، فدخلتُ كليّة العلوم مع أنّني لم أكن أريد أن أصبح طبيباً ووعدتُ نفسي سرّاً أن يأتي يوم وأهتمّ به بالحيوانات ولكن بعد أن أتخلّص نهائيّاً من كيد أمّي.
وبعد أن تخرّجتُ، دبّرَت لي مستشفى أعمل فيه من خلال معارفها العديدة وجاء الوقت طبعاً لأنّ يكون لي زوجة. وهنا أيضاً قبلتُ أن تختار لي عروساً ورضختُ لمشيئتها. كانت خطيبتي حسنة المظهر وبنت رجل غنيّ طبعاً وتزوّجنا وعشنا مع أمّي وأبي. وكانت والدتي مسرورة جداً أنّها وجدَت طريقة للثأر ممّا فعلته بها حماتها السابقة، فعملَت جهدها لتنكيدحياة زوجتي دون أن يُسمح لي بالدفاع عنها. كرهتُ نفسي لأنّني كنتُ ضعيفاً وجباناً مثل أبي ولكن في تلك الفترة، كنتُ مجرّداً من أيّ إرادة وكنتُ أتفرّج على الذي يحدث وكأنّني أشاهد فيلماً على التلفاز متمنيّاً أن ينتهي العرض بأسرع وقت. وجاءت النهاية بعد ولادة إبنتي بقليل وكان ذلك من حسن حظّنا جميعاً. ففي ذات ليلة، وقعَت أمّي عن سلالم مؤسّستها ونُقلَت إلى المستشفى في حالة خطرة. ركض الجميع ليراها، أمّا أنا فإنتظرتُ حتى المساء لأنّني لم أكن أعرف إن كنتُ حزيناً أم فرحاً وبعد أن فكّرتُ مليّاً، وجدتُ أنّني لا أزال إبنها، فعندها قصدتُ غرفتها. عندما دخلتُ عليها وجدتُها ملقاة في سرير أبيض مغمضة العينين. إقتربتُ منها لأضع قبلة على جبينها لأنّني لأوّل مرّة شعرتُ بضعفها ما جعل منها إنسانة عاديّة ولكنّها فتحَت عينيها وقالت لي بغضب:


- أين كنت؟ الجميع أتى لزيارتي إلّا أنتَ! أتريد أن يسخر منّي الناس؟ مكانكَ قربي... إلى الأبد!


- ولكن لديّ زوجة وطفلة.


- لديكَ أمّكَ فقط! أنجبتُكَ لهذا الغرض! أنتَ موجود بسببي ومن أجلي! هل فهمت؟

 

عندها نظرتُ إليها ورأيتُ الوحش الذي بداخلها وقررتُ الرحيل. تركتها هناك وعدتُ إلى عائلتي وأخذتُ قراراً بأن أجد شقّة أعيش فيها مع أحبّائي بعيداً عن الأذى والأنانيّة. ولكن بعد بضعة أيّام، أخبروني أنّ والدتي فارقَت الحياة وآخر كلمة تفوّهَت بها كانت: "إبني..." ومع أنّ الجميع إعتقد أنّها قالت إسمي لكثرة حسرتها على تركي، كنتُ أعلم أنّها كانت تأمرني بأن أركض إليها وأركع امام سلطتها.


حاورته بولا جهشان 

المزيد
back to top button