كل ما كان يهمّني كان الحسب والنسب

ما أصبحتُ عليه، هو تراكم سنين تدريب قامَت به والدتي، التي لم ترى في الناس سوى مصدر منفعة. لا أدري لماذا كانت هكذا وما السبب الذي جعل منها إمرأة بلا قلب أو إحساس. الذي أعرفه أنّها عملَت جهدها لتصنع منّي نسخة طبق الأصل عنها ونجحَت بذلك. فمنذ ما كنتُ صغيرة، كانت تسألني عن زميلاتي في المدرسة لمعرفة إسمهنّ وطبيعة عمل والدهنّ وأحوالهنّ الماديّة وبعد التحقيق، كانت تسمح لي بالتعاطي معهنّ حسب المعلومات التي حصلَت عليها. فكان من المحرّم عليّ أن يكون لي صديقة فقيرة أو حتى متوسطة الأحوال وكانت تبرّر هذا القرار بالقول:

- الفقر يجرّ الفقر... ولا منفعة من هكذا أناس... عليكِ إيجاد فتيات ثريّات، تساعدكِ على الوصول إلى ما تريدينه ومجرّد مصاحبتهنّ يكفي لتنالي إمتيازات كثيرة... الحياة غابة خطرة ولن تنجحي بإجتيازها سوى عبر الناس الأقوياء بمالهم ونفوذهم... لا تظنّي أنّ أشخاص مثل أبيكِ يستطيعون إسعادكِ... أنظري إلى أحوالنا... تزوّجتُ مِن فاشل بعدما غشّني وقال لي أنّه قويّ وثريّ... لن أدعكِ تقعين بفخّ كهذا... سأعلّمكِ ما تعلّمته خلال كل هذه السنين، لتصلي إلى العُلى...

وأعترف أنّني كنتُ أنظر إلى والدتي بفخر وإعتزاز لأنّها كانت تعرف ما تريد، على عكس والدي الذي كان مكتفي بحالته ولا يتمتّع بأيّ طموح. على كل الأحوال، كان هو أيضاً نادماً على زواجه من أمّي ولا يأتي إلى البيت سوى في الليل ليأكل وينام. لذلك كنّا نفعل وكأنّه ليس موجوداً وكان الجميع سعيداً هكذا.وحصل كما أرادَت أمّي، فأصبح لديّ صديقات مِن أرقى المستويات والمجتمعات، حتى أن جمّعتُ حولي بنات كل من يستطيع مساعدتي أنا وأمّي بكل ما نطلبه، فإذا أردنا قرضاً من المصرف، حصلتُ عليه من إبنة المدير وفي حال قررنا تغيير فرش المنزل ذهبنا إلى أفضل معرض للمفروشات، أي عند والد تلك الصديقة وإشترينا ما شئنا، بأفضل الأسعار ودفعنا بالتقسيط المريح. حتى ذهابي إلى الجامعة كان مسهّلاً بفضل معارفنا القويّة ودخلتُ أفضلها دون عناء. وهناك كررتُ ما فعلتُه بشأن أصدقائي في المدرسة وأحطتُ نفسي بما ظننتُ قد يليق بالفتاة الراقية التي لا تعرف سوى الأفضل والأقوى.
وفي تلك الحقبة من حياتي، كنتُ بلا قلب أو شعور، أحسب الناس أرقاماً وألقاباً فقط ولا أنظر إلى مَن هم مختلفين عن ذلك، لِدرجة أنّني كنتُ أفضّل ألّا يكونوا موجودين أصلاً. لم أتصوّر يوماً أنّ حياتي ستأخذ مجرى آخراً مخالف تماماً لما تصوّرناه أنا وأمّي. فعندما كنتُ في السنة الثانية وعلى وشك نيل إجازتي في العلوم السياسيّة، حصل أن وقعتُ عن سلالم الكليّة. ركضَ إليّ شاب لم أره من قبل وساعدني على النهوض. وعندما رأى أن رجلي قد كُسِرت، حملَني وأخذني إلى سيّارته ليقودني إلى المستشفى. وعندما وقعَت عينيّ على سيّارته القديمة والقبيحة صرختُ له:

- أنزلني فوراً! لن أركب بهذا الشيء!

- المهمّ أن آخذكِ إلى الطبيب... أغمضي عينيكِ وأصمتي!

لا أدري إن كانت لهجته الصارمة أو وجع رجلي سبب إمتثالي لأوامره ولكنّني فعلتُ كما طلب مني. وصلنا إلى المستشفى بعد قليل وإهتمّوا بي هناك. بقيَ الشاب حتى أن إنتهيتُ من وضع الجبس وعندما كان يستعدّ لأخذي إلى المنزل قلتُ له:

- من تكون؟ لم أركَ من قبل في الكليّة!

- إسمي فؤاد وأدرس العلوم السياسيّة... أنا في السنة الأخيرة وأعمل في المطعم الموجود في آخر الشارع لدفع أقساط جامعتي...

- آه... فهمتُ الآن... يعني أنّكَ فقير...

- أجل ولكنّني أحضّر لمستقبلي... سأصبح سفيراً بعد بضعة سنوات.

- أنتَ؟ هاهاها! أيّها المسكين... ألا تعلم أنّكَ بحاجة إلى مال ونسب لخوض الحياة الدبلوماسيّة؟ أنا مِن ناحيتي لديّ كل هذه الفرص.

- نسيتي المهارة... على كل حال إصعدي لآخذكِ إلى بيتكِ.

- لا... سآخذ سيّارة أجرة... شكراً.

وأدرتُ له ظهري ليفهم أنّ حديثنا إنتهى وأنّ عليه أن يرحل، فلم أرَ أي منفعة من الحديث مع شخص فقير مثله ولم أكن أريد أن يراني أحداً برفقته. بقيَ ينتظر معي حتى جاءت سيّارة الأجرة وأخذَتني. وفي اليوم التالي سألَني زملائي عن رجلي، فكانوا جميعاً حاضرين عند وقوع الحادث ولكنّهم لم يحاولوا مساعدتي، بل بقيوا يتفرّجون على فؤاد وهو يحملني إلى المستشفى. وأعترف أنّني كنتُ مستاءة لعدم تدخّلهم وقلّة إهتمامهم بي، بالرغم أنّني كنتُ أعلم أنّ صداقتهم لي كانت شكليّة فقط. وفي ذلك النهار تمنيّتُ أن يكون لي أصدقاء يهمّهم أمري فعلاً وسألتُ نفسي لماذا حتى تلك الفترة لم يخطر على بالي أن أتعرّف على أناس طيّبين. وشعرتُ بالحاجة إلى رؤية فؤاد لأستعيد تلك اللحظات القليلة التي ذُقتُ فيها طعم الحنان. فقصدتُ المطعم الذي يعمل فيه وجلستُ إلى إحدى الطاولات وإنتظرتُ حتى يراني. ركضَ إليّ وعانقني بقوّة:

- هذا أنتِ! كيف تشعرين اليوم؟ إنشغل بالي كثيراً عليكِ ولكنّني لا أملك رقم هاتفكِ.

- جئتُ صدفة... نسيتُ أنّكَ تعمل هنا...

- إذاً أنا مسرور أنّكِ إخترتِ هذا المكان.

وتكلّمنا بينما كنتُ آكل ما طلبتُه ووجدتُ الحديث معه لطيفاً، لدرجة أنّني بقيتُ هناك حتى إنتهاء دوامه وخرجنا سويّاً وأوصلني إلى منزلي. ولكن في ذلك النهار، رآني أحد زملائي مع فؤاد في سيّارته وركض يخبر الجميع. وفي اليوم التالي أصبحتُ محط كلام وسخرية كل مَن كان مثلي يهتم فقط بالمظاهر. حاولتُ تبرير وجودي معه بأنّها صدفة ولكن لم يصدّقني أحد. عندها قلتُ لهم:

- وهل تتخيّلون للحظة أنّني أستطيع أن أكون مع هكذا شخص؟ إنّه فقير ويعمل في مطعم! أرأيتم سيّارته؟ أخجل أن أركب فيها ولكنّني أشفقتُ على هذا الشاب وأسديتُ له خدمة بالصعود معه... حتى أنّني نسيتُ إسمه!
ولكنّني لم أكن أعلم أنّ أحد أصدقائي كان يسجّل كلامي ليُسمعه لِفؤاد، ليكفّ عن رؤيتي لأنّهم كانوا جميعهم يرفضون أن يكون لهكذا شخص علاقة بأيّ منّا. وبعد أن برّأتُ نفسي مِن فؤاد، حسبتُ أنّني أستطيع الذهاب لرؤيته وكأنّ شيئاً لم يكن. وفوجئتُ بإستقباله لي في المطعم:

- ها قد عدتِ... صدفة أيضاً؟

- لا... جئتُ لأراكَ.

- لماذا؟

- لأنّكَ إنسان طيّب ومحبّ.

- ورغم كل ذلك نكرتيني أمام أصدقائكِ الأغنياء وأولاد الحسب والنسب. لا تنكري... جاء أحدهم وأسمعني ما قلته عنّي... أخذتكِ إلى المستشفى عندما لم يكن أحد يقترب منكِ ليساعدكِ وخجلتِ مِن السيّارة التي أسعفَتكِ ومِن الذي بقيَ معكِ... مِن أي صنف أنتِ؟ تقولين أنّكِ نسيتي إسمي؟ أنصحكِ بأن تحفظيه جيّداً هذه المرّة لأنّكِ ستسمعينه كثيراً... لستُ ثريّاً ولكنّني غنيّ بأخلاقي ومحبّتي للناس... قلبكِ ميّت ولا أحسدكِ على حياتكِ... أرجوكِ أن ترحلي الآن وألّا تعودي أبداً.

لم أقل شيئاً لأنّه كان على حق. خرجتُ من المطعم بصمت، عالمة أنّني وبسببي فقدتُ الإنسان الوحيد الذي مِن بين كل معارفي، يتمتّع بالقيم العالية. وعدتُ إلى حياتي السابقة ولكنّني إبتعدتُ عن هؤلاء الأصدقاء الذين لا يحبّون أحد وأنهيتُ دراستي. وبعد أشهر قليلة حصلتُ على وظيفة جيّدة في إحدى المراكز الحكوميّة وكنتُ مكتفئة بما حصلتُ عليه بفضل علاقات أمّي. صحيح أنّني كنتُ أطمح إلى أكثر مِن ذلك ولكن كل المناصب العالية كانت مأخوذة وكلّ ما تبقّى لي كان أن أنتظر دوري حسب ما قاله أحد الوزراء لوالدتي. ومرّت الأشهر والسنين ودعيتُ في أحد الأيّام إلى مأدبة عشاء في وزارة الخارجيّة. وهناك فوجئتُ برؤية فؤاد، فركضتُ إليه لألقي التحيّة على أمل أن يكون أنساه الوقت ما فعلتُه به. إبتسمَ عند رؤيتي وقبل أن يقول أي شيء قلتُ له:

- لفد تغيّرتُ كثيراً والفضل يعود لكَ... أرجو منكَ أن تنسى ما حصل... إن كان بإمكاني مساعدتكَ بأي شيء... لديّ علاقات هنا...

- هذا من لطفكِ...

وإنضمّ إلينا شخص ثالث وقال لي وهو يدلّ على فؤاد:

- هل تعرّفتي إلى سعادة السفير؟

ونظرتُ إلى فؤاد ورأيته يبتسم قائلاً:

- مِن الواضح أنّني لستُ بحاجة إلى مساعدتكِ يا آنسة.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button