كانت أمّي تحبسني لِتذهب إلى عشيقها

إن سألتُم أيّ إنسان عنّي، ستكون ردّة فعله الحيرة لِصعوبة وصف شخصّيتي، لأنّني وبكل بساطة رجل معدوم الإحساس والشعور. هل ولِدتُ هكذا؟ أكيد لا، لأنّ الطفل هو صفحة بيضاء يَكتُب عليها أهله قصصهم وآمالهم، وإن كانو هؤلاء الناس غير جديرين بأن يربّوا ولداً، فسيخلّفون وراءهم كائناً بائساً، مجبولاً بالعِقَد النفسيّة.
بدأت قصّتي بعد ولادتي بقليل، حين قرّرَت أمّي أن يكون لها عشيقاً، فعَلِمَ أبي بالأمر، وبعد شجارات عديدة وتهديدات ومناكفات، قرر أن يطلّقَها. وكنتُ الورقة التي راهَنَ عليها كلَيهما، فبدأا بالمطالبة بي فقط لِقهر الآخر. وربِحَت والدتي المعركة بالرغم أنّها لم تكن تريدني، فوجَدت نفسها مربوطة بِولد صغير يعيق عيشها. ووجَدت طريقة لِتركي لوحدي بينما تذهب هي لِملاقاة عشيقها، وكات هذه الطريقة، حجزي بين الشرفة الحديديّّة والشبّاك الذي كانت تغلقه لكي لا أدخل إلى المنزل. وهكذا كنتُ أقضي ساعات تحت الشمس أو المطر، غير قادر على التحرّك أو الإختباء حتى أن تعود وتفكّ سراحي. وإن وجَدتني باكياً، كانت تضربني لأسكت لكي لا أفسد مزاجها. وبقيَت تتركني على الشرفة حتى رأتني الجارة التي تسكن في المبنى المقابل وجاءَت مع ناطورنا لإنقاظي، ظانة أنّني حجزتُ نفسي سهواً. وبقيَت تلك المرأة معي في البيت حتى عادَت أمّي ووجَدتها عندنا ما أغضَبها كثيراً. وبعد أن طردَتها بعنف وصرخَت لها:"هذا منزلي وهذا أبني وأفعل ما أريده بكليهما." نزِلَت عند الناطور وهدّدته بالطرد إن سمح َلأحد مرّة ثانية بالدخول إلى شقتّنا. ومنذ ذلك الوقت، لم تعد والدتي قادرة على تركي على الشرفة، خوفاً مِن أن يُفضحَ أمرها، فبدأت بحجزي في الحمام وإقفال الباب علّي بالمفتاح. وبقيتُ أقضي أيّامي هناك حتى أن جاء الوقت لأذهب إلى المدرسة.
وأتذكرّ أنّني كنتُ أفعل جهدي لكي لا يرى أحداً الكدمات التي كانت تتركها أمّي على جسدي كلمّا فتحتُ فمي. وتعلّمتُ أنّ أتألم بصمت، لكي لا أنال عقابي وحبستُ مشاعري السيّئة والجميلة منها. ومرّت السنين على هذا النحو وعندما أصبحتُ قادراً على الوقوف بوجهها ورفض معاملتها البشعة لي، بدأَت تخفّ حدّة الضربات حتى أن وقَفَتِ كليّاً. ولم يكن السبب فقط أننّي بلغت سنّ الرابعة عشر، بل أيضاً أنّ أمّي كانت قد بدأت إحتساء الكحول وتعاطي المخدّرات، الأمر الذي تركَها بحالة ثبات شبه دائمة.
وفي ذات يوم، جمعتُ أمتعتي في كيس كبير وتركتُ المنزل أثناء نوم أمّي، لأذهب وأدقّ باب جدّتي والدة أبي، ولأنّها لم تراني إلا مرّة عندما ولدتُ، لم تتعرّف العجوز إليّ حين وقفتُ أمامها. وبعد أن أثبتُّ لها مَن أنا، بدأت بالبكاء وغمَرتني قائلة:"أخبروني أنّك مُتَّ عندما كنت طفلاً... أدخل يا حبيبي وأخبرني كيف أمضيتَ كل تلك السنين." ولأنّني لم أكن معتاداً على أخبار أحد أيّ شيء، خاصة بما يتعلّق بحياتي الخاصة، فكذبتُ عليها وإخترعتُ قصّة جميلة مليئة بأحداث لم تحصل. وعندما سألَتني عن أمّي، قلتُ لها أنّها تزوّجت مجدّداً وبالرغم أنّها أصرَّت على أن أعيش معها في بيتها الزوجي، رفضتُ عرضها لكي أعطيها فرصة لِتكون سعيدة. وعلِمتُ مِن جدّتي أن والدي لقى مصرعه بالغربة، حيث كان يعيش بعدما أخبرَته أمّي أنّني توفيتُ مِن جرّاء الحمّى ووجدَ أنّه لم يعد يربطه شيئاً قي البلد.
عاملَتني العجوز بلطف وأعطَتني مايشبه الحنان لأنّها هي الأخرى لم تكن تجيد التعبير عن عواطفها. ولكي نستطيع العيش بكرامة، فتّشتُ عن عمل لأنّ ما كان تتقاضاه مِن معاش المرحوم جدّي لم يكن لِيكفينا. وهكذا وجدتُ وظيفة عند بقّال الحّي، أساعده في المحل وأحمل الطلبات إلى المنازل. وكان الزبائن يعطونني الإكراميّات كلّما أوصلتُ لهم أكياسهم وهكذا بدأتُ أجني بعض المال أصرفه على نفسي. وأظنّ أنّني كنتُ سأبقى على تلك الحالة لِمدّة طويلة لولا ما حدثَ في ذات نهار.


كنتُ أوصل طلبيّة إلى أحد المنازل حين رأيتُ رجالاً ينزلون السلالم بسرعة. وإصتدمَ أحدهم بي ووقَعت أكياسي أرضاً، فعملتُ على لمّها. ولكنّ الرجل صَرَخ للآخرين: "لقد رآنا الفتى!" فأجابَه رفيقه: "إجلبه معنا وسنرى لاحقاً ما سنفعله به." وشدّوني معهم وأجبروني على الصعود في سيّارة كانت مركونة قرب المبنى وأخذوني ألى منزل وسط أحياء شعبيّة. هناك وضعوني في غرفة وأقفلوا الباب عليّ وسمعتُهم يتشاورون بشأني. ثم فتحوا الباب وقال لي رئيسهم:

 

ـ نستطيع قتلَك ولكّننا لصوص ولسنا مجرمين...ومِن الأكياس التي كنتَ تحملها، لا بدّ أنّكَ تعمل عند بقال ولن يصعب علينا إيجاده... إن تفوّهتَ بكلمة واحدة عنّا سنقتلَك ونقتل كل مَن تحبّه."

 

عندها ضحكتُ وقلتُ:

 

ـ لا أحبّ أحداً... وحياتي ليست مهمّة بالنسبة لي... ولكنّني لن أقول شيئاً لا لأنّني خائف منكم ولكن لأنّ الأمر لايعنيني... يمكنكم سرقة مَن تشاؤون..."

 

ورأيتُ الدهشة على وجوههم، فلم يتوقّعوا ردّة فعل كهذه، بل أن أبدأ بالبكاء والتوسّل إليهم. ثم إبتسمَ رئيسهم وقال لي:

 

ـ وما رأيكَ بالعمل معنا؟ أنتَ تعرف المنازل كلهّا ويمكنك مساعدتنا... لم أرَى أحداً مثلَك مِن قبل... لا أمانع أن تنضمّ إلينا...

 

وقبلتُ عرضه لأنّني أردتُ الحصول على المال ولأنّني لم أحبّ يوماً هؤلاء الزبائن الذين يعيشون بسخاء ويعطونني قروشاً.

ومِن بعدها، بدأنا السرقات وأصبحَ لي أكثر ما يكفيني وفعلتُ الشيء الوحيد الجيّد في حياتي وهو أن أضع جدّتي في مؤسّسة ليعتنوا بها بعدما بدأت تفقد عقلها وأوصيتُ موظفو الدار بالإهتمام جيدّاً بها وأعطيتُهم أكثر مِمّا طلبوه. وبعمر الخمسة والعشرين سنة، كان لدّي سيّارة فخمة ومنزل وألبس أجمل الثياب وأخرج مع العديد مِن الفتيات. ولكنّ الناس لم تحبّني، ربّما لأنّني لم أكن أحبّهم ولم أخفي ذلك عنهم. حتى النساء كانت تسألني عمّا كان يدور في عقلي وعن شعوري تجاههّن لِكثرة غموضي وقلّة عاطفتي. وكيف لي أن أحبّهنّ، حين كنتُ أرى فيهنّ صورة أمّي؟
ولكن حياتي الصاخبة لم تدم طويلاً، فبعد فترة قرّرتُ ترك العصابة والعمل لوحدي ولكنّني لم أكن فالحاً بالتخطيط، فأُلقيَ القبض عليّ بسرعة ودخلتُ السجن. والغريب في الأمر انّني لم أنزعج كثيراً مِن الحبس، ربمّا لأنّني كنتُ معتاداً على ذلك منذ صغري ووجدتُ المكان ملائماً لي، لِدرجة أنّني بدأتُ أعمل في المشغل الخاص بالسجن وفي المكتبة حيث كنتُ أطالع في الكتب وأكتسب المعرفة التي لم تهمّني مِن قبل. وبعد فترة، أصبحتُ محطّ ثقة الجميع مِن السجناء إلى الحرّاس الذين كانوا يرَون فيّ السجين المثالي ويستغربون عدم نيّتي في الخروج. وبعد خمس سنوات، حان وقت إطلاق سراحي، فبكيتُ. كانت تلك الدموع الوحيدة التي ذرفتُها منذ ما كانت أمّي تضربني. وحين رأى المسؤولون شدّة تعلقّي بالسجن، قرّروا توظيفي عندهم، تارة في المطبخ وتارة في المشغل مقابل مبلغاً صغيراً ولكن كافياً. وهكذا بدأتُ أخرج في الصباح إلى عملي وأعود إلى البيت لأنام وأصبحَت حياتي ذهاباً وأياباً إلى ما وراء القضبان التي كانت تشبه تلك التي رأيتُها في صغري على الشرفة والتي حجَزت شعوري وأفكاري وطموحي وحوّلتني إلى كائن شبه ميّت في داخله. وبالطبع لم أتزوّج ولم أنجب ولم أحبّ حتى. ولماذا أفعل؟ تأذّى جسدي كثيراً، فلن أدع أحداً يؤذي شعوري أبداً.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button