منذ ما تركتُ التدريس الجامعيّ، لم يكن لديَّ أدنى فكرة عن كيف أنّ حياتي قد أثّرَت في أحَد طلّابي بشكل عميق. كنتُ دائمًا أظنّ أنّني أقومُ بواجبي فقط: أُدرِّس، أُعلِّم، أُساعِد. لكنّني لَم أكن أعرف أنّ هناك أشخاصًا في تلك الفصول يتذكّروني بعد سنوات، وأنّني كنتُ لهم أكثر مِن مُجرّد أستاذة، بل كان لي دور في حياتهم أكبَر مِمّا كنتُ أتصوّر. في تلك الفترة، كنتُ قد انتقَلتُ إلى العمَل الاداريّ في الكلّيّة، بعدما قدَّمتُ ما يكفيني للتعليم وشارَفتُ على التقاعد.
فذات يوم، وصلَتني رسالة الكترونيّة غير مُتوقّعة مِن "نور"، إحدى طالباتي المُتميّزات في السنوات الأخيرة. كانت فتاة هادئة، نادرًا ما تتحدّث، لكنّها كانت تملُك موهبة واضحة في الكتابة، وعقلًا ناضجًا جدًّا بالنسبة لعمرها. تخرّجَت قبل سِتّ سنوات، وبعد ذلك، لَم أسمَع عنها إلّا عبر أخبارها التي كنتُ أقرأها بين الحين والآخَر. فنور أصبحَت بسرعة كاتِبة معروفة في مجال الأدب، وكنتُ فخورة جدًّا بذلك.
ولكن رسالتها كانت مفاجِئة، فقد كتبَت فيها كلمات مؤثِّرة، شكرَتني فيها على التأثير الذي تركتُه في حياتها وعلى كلّ شيء تعلّمَته منّي. كتبَت كيف أنّني كنتُ مصدر إلهام لها، وعن كيفيّة تغيير نظرتها للحياة بسبب النصائح التي قدّمتُها لها خلال تدريسها. أثَّرَت تلك الكلمات فيَّ بشكل عميق، فحتّى ذلك الحين لَم أكن أُدرك كَم كان تأثيري كبيرًا عليها.
وأضافَت في الرسالة: "أنتِ السبب في أنّني أصبحتُ الشخص الذي أنا عليه الآن، ولولاكِ لَما استطعتُ أن أُحقِّق النجاح الذي حققَّتُه. كانت نصائحكِ لي في الجامعة هي نقطة التحوّل في حياتي، وأتمنّى لو أستطيع أن أردّ لكِ بعض الجميل".
لقد كانت كلماتها مدعاة للفخر، وأثارَت في داخلي شعورًا بالرضا. لكن بعد أن قرأتُ الرسالة أوّل مرّة، إكتشفتُ أنّها لَم تنتهِ عند هذا الحدّ. ففي آخِر الرسالة، طلبَت منّي نور شيئًا غريبًا، لا بل غير قانونيّ تمامًا: "بما أنّكِ صرتِ مسؤولة إداريّة ولدَيكِ القدرة على الوصول إلى شتّى السجلات، أريدُ منكِ أن تساعديني في الحصول على معلومات تخصّ شخصًا مُهمًّا في المجال الأدبيّ كان هو أيضًا مِن طلّاب الكلّيّة منذ سنوات طويلة، معلومات قد تكون بغاية السرّيّة، ولكنّني بحاجة إليها لأتمكّن مِن المضيّ قُدمًا في مشروعي الأدبيّ. أنا أعلَم أنّ هذا طلَب غير عاديّ، لكنّني أحتاج إلى مساعدتكِ لأنّ ذلك الكاتب مُنافِس لي، وأعلَم تمام العِلم أنّه لَم يكن فالحًا في الدراسة لا بل رسَبَ، على خلافي. وهذا ليس عدلًا!".
في البداية، شعرتُ بالصدمة، فكيف يُمكن لطالِبة كانت تحت إرشادي أن تطلب شيئًا كهذا؟ كيف يُمكن لشخص قد بدأ حياته بنصيحتي أن يطلب مني شيئًا ينتهِك القوانين؟
كتبتُ ردًّا لها، ولكنّني لَم أُرسِله. فقد فكّرتُ في الأيّام التي قضيتُها مع نور في الجامعة، وكيف اتّضَحَ أنّها كانت تتطلَّع إليّ كمُرشِدة وموَجِّهة. لكن مِن جهّة أخرى، لطالما كنتُ أؤمن بأهمّيّة الأخلاق والمبادئ في الحياة، وأنّ الإنسان يجب أن يُحافظ على ضميره، سواء كان في حياته الشخصيّة أو المهنيّة. وأن تتوقّع منّي نور أن أخرق القانون، فذلك دلَّ على قلّة معرفتها بي.
بعد أيّام مِن التفكير، قرّرتُ أن ألتقي بنور شخصيًّا. أردتُ أن أفهم بالتحديد لماذا طلبَت منّي هذا الطلَب، وكيف يُمكن أن تتغيَّر شخصيّتها بهذه الطريقة بعد أن أصبحَت مشهورة، مُصمِّمة على عرض مُساهمتي عليها بشكل يُساعدها على تخطّي مخاوفها التي تدفعُها إلى فضح غيرها لتَلمعَ أكثر. إتّفَقتُ معها على لقاء في مقهى قريب، وحين دخلتُ المكان، رأيتُها جالِسة في الزاوية، تحملُ كتابًا في يدها كما اعتادَت دائمًا. ولكن كان هناك شيء مختلف في نظرتها الآن، كانت تبدو أكثر جدّيّة، وأكثر قوّة، ولكن أيضًا أكثر غموضًا.
جلستُ أمامها بصمت للحظات، ثم قلتُ:
- نور، لَم أكن أتوقّع منكِ هذا الطلب. ما الذي دفعَكِ إلى التفكير في شيء كهذا؟
نظرَت إليَّ وكأنّها كانت تُفكِّر في كيفيّة الإجابة على سؤالي، ثمّ قالَت بصوت هادئ:
- أعلم أنّ ما طلبتُه منكِ غريب، وقد تجدينَه غير مقبول، لكن الحقيقة أنّني في مرحلة حاسِمة مِن حياتي المهنيّة، والمُنافسة في هذا المجال تكون شرِسة جدًّا. وما طلبتُه ضروريّ للمضيّ قُدمًا في مشروعي الأدبيّ. فالكتابة تحتاج إلى أن تكوني قريبة من الواقع، وفي بعض الأحيان، يجب أن نبحث عن الحقيقة في الأماكن التي لا يراها الآخرون.
شعَرتُ بمزيج من الصدمة والخوف، فكيف يُمكن لشخص كنتُ أعتقد أنه يمتلك قيَمًا عالية أن يتورّط في هذا النوع مِن الطلبات؟ كانت نور دائمًا تضع المبادئ فوق كل شيء، والآن هي تطلب منّي مساعدتها في تدمير سُمعة إنسان آخَر. فقلتُ لهذا بحزن:
- لقد علّمتُكِ دائمًا أنّ النجاح لا يأتي عبر الطرق المُختصرة. كنتُ دائمًا أقول لكِ إن النجاح الحقيقيّ يحتاج إلى صبر، وأمانة، وأخلاق. هل أنّ النجاح قد غيّركِ أم كنتِ هكذا منذ البداية؟
حاولَت نور أن تُبرّر موقفها، فقالت:
- أنا لَم أُغيّر قناعاتي، لكنّني أدركتُ أنّ في بعض الأحيان يجب أن ندوس على الآخَرين مِن أجل تحقيق أهدافنا. لا أريد أن أخيِّب أملَكِ، ولكن هذا هو الطريق الوحيد لأزيحَ ذلك الكاتب مِن دَربي. أريدُكِ أن تساعديني فقط في هذه المرحلة، ثمّ ننسى الموضوع.
كانت نظرتها مليئة بالإصرار وبشيء مِن الشرّ، فأجبتُها بصراحة أرَدتُها حاسِمة:
- نور، لا يمكنُني مساعدتكِ في هذا الأمر. ما تطلبينَه ليس فقط مُخالفًا للقانون، بل هو أيضًا يتعارَض مع القيَم التي يجب أن تظلّ ثابتة في حياتنا. ربما تظنّين أنّ النجاح يأتي بسرعة، لكن الحقيقة أن النجاح الحقيقيّ يحتاج إلى وقت، والتزام، و...شرَف. وخلال الأيّام التي تلَت رسالتكِ لي، بحثتُ عن أعمال ذلك الكاتب، والصراحة أنّه أفضَل منكِ. لا تغضبي، أرجوكِ، بل خذي كلامي كنقطة انطلاق نحو الأفضل. وكَونه لَم يكن فالِحًا في الجامعة، لَم يمنَعه على ما يبدو مِن الوصول إلى مرحلة مُتقدِّمة وعميقة في التعبير وصياغة أفكاره وتمريرها لقرّائه. فالكتابة الحقيقيّة لا يُمكن تعليمها على مقاعد الدراسة بل تأتي مِن القلب ومِن معرفة عميقة للمشاعر والنفس البشريّة. صحيح أنّكِ كنتِ تلميذة لامِعة، لكنّكِ لستِ موهوبة مثل الذي هذا الذي يُنافسُكِ... وهو سيبقى مُتفوِّقًا عليكِ طالما رأيتِ الكتابة كوسيلة للشهرة والربح المادّيّ. أكتُبي بقلبكِ أوّلًا وبفكركِ ثانيًا. هذه آخِر نصيحة أُعطيها لكِ، وأعلَم كَم تهتمّين بنصائحي.
- أهتمّ بنصائحكِ؟ ها ها ها! صدّقتِ كلامي المعسول لكِ؟ كنتُ أريدُ إقناعكِ بمُساعدتي. فلقد اتّصلتُ بكِ فقط حين علِمتُ أنّكِ صرتِ إداريّة، وقَبل ذلك كنتُ قد نسيتُ أمركِ تمامًا! فالحقيقة أنّني أجدُكِ أستاذة فاشِلة وإلّا كنتِ الآن كاتبة ومؤلّفة! ماذا أنجَزتِ في حياتكِ سوى التدريس؟؟؟
- التدريس هو أعظَم مهنة على الاطلاق... لكنّني لا أتوقّع أن تفهَم إنسانة مثلكِ ما يعني ذلك. ليُسامحكِ الله ويُهديكِ لأنّكِ في ضياع تام. على كلّ الأحوال، لن تطول سيرتكِ ككاتبة، فلا يُمكنُكِ غشّ قرّائكِ إلى الأبد. الوداع يا نور.
وقفتُ وأنا أشعرُ بشيء مِن الراحة، بالرغم مِن أنّني فقدتُ ما كنتُ أراه في نور. كانت لحظة صعبة، لكنّني علمتُ أنّني فعلتُ الصواب.
إختفَت نور مِن حياتي كلّيًّا... ومِن أخبار الصحف ورفوف المكتبات. نسيَها الناس لأنّها لَم تهتمّ بهم بل فقط بنفسها. فالكاتب الحقيقيّ ليس مُلك نفسه، بل هو مُلك قرّائه.
حاورتها بولا جهشان