قبيحة ولكن...

حين آتَت تلك المرأة للعَيش والعمَل في حيّنا، تفاجأنا بها تفتَح دكّانًا ليس بعيدًا عن ذلك السوبر ماركت الضخم، فوصفناها بالمجنونة. فكيف لها أن تُنافِس تلك المؤسّسة الضخمة التي لها فروع في كل أنحاء البلاد واسعار تنافسيّة؟ رحتُ أشتري بعض الحاجيّات مِن الدكّان كمُبادرة تشجيعيّة ليس أكثر ورأيتُ دانيا، صاحبة الدكّان. وجدتُها قبيحة وتساءلتُ كيف لها أن تجلِس وراء الصندوق وتُخاطِب الزبائن. ثمّ خجِلتُ مِن نفسي لِحكمي على مظهرها، فهي قد تكون إنسانة لطيفة وطيّبة. تبادَلتُ معها بضع كلمات ثمّ خرجتُ مع أكياسي. رويتُ لزوجي ما خطَرَ ببالي وهو أنّبَني قائلاً:

 

- قد تُنجِبين يومًا إبنة ليست جميلة الملامِح ويُصنّفها الناس كما فعلتِ مع تلك المرأة.

 

وافقتُه الرأي ثمّ نسيتُ الموضوع طبعًا، خاصّة أنّني عدتُ أشتري حاجيّاتي مِن السوبر ماركت حيث أجدُ كلّ طلباتي بأسعار جيّدة.

لكنّ فارس زوجي بقيَ يشتري بعض الأمور مِن الدكّان، "لِمُحاربة هَيمنة المؤسّسات الكبيرة التي تخنقُ الصغيرة" وأنا إفتخَرتُ به. كذلك فعَلَ أخي وابن عمّي والكثير مِن الجيران... الذين كانوا كلّهم رجالاً. لَم أنتبِه للأمر في البدء، لكنّ أمّي هي التي أثارَت الموضوع أمامي يومًا:

 

- أمرٌ غريب... كلّما أمرُّ بالقرب مِن الدكّان أراه مليئًا بالزبائن... وليس الزبونات! ما سرّ هذا المكان يا تُرى؟

 

ضحكتُ في بادئ الأمر، لأنّ دانيا كانت تفتقِد لكلّ ما بإمكانه جذب الرجال إليها، لكن بعدما قمتُ بالتحقّق مِن حديث والدتي، وجدتُ أنّها على حقّ! لِذا في إحدى الأمسيات، حين كنتُ وزوجي عند عمّي حيث نجتمِع في كلّ نهاية أسبوع لأنّنا نسكنُ كلّنا الحَي نفسه، قرّرتُ أن أسأل الموجودين عن الأمر، لكن بطريقة مازِحة. أنكَرَ الجميع علاقة دانيا بعدد الزبائن، وتحجّجوا بأنّ استقبالها جيّد والأسعار مقبولة وصغر المكان يُمكِّنُهم مِن إيجاد طلباتهم بسرعة. لَم أقتنِع تمامًا، ليس بسبب ما قيل لكن بسبب الطريقة التي قُدِّمَت فيها تلك الحجَج. كان هناك شيء مُريب، لكنّ الموضوع لَم يكن مُهمًّا بحدّ ذاته.

إلا أنّ الأحداث أخذَت مُنعطفًا آخَر حين قصدتُ الدكّان لأشتري علبة بسكويت وقرّرتُ حينها أيضًا شراء السكّر. عندها قالَت لي دانيا:

 

ـ لا تشتري السكّر، فلقد مرّ فوفو اليوم وأخذَ كيسًا.

 

ـ فوفو؟

 

ـ أقصد السيّد فارس.

 

هل سمعتُ جيّدًا؟!؟ كانت صاحبة الدكّان تُدلِّعُ زوجي؟ ولكثرة دهشتي، لَم أتمكّن مِن الاجابة أو التعليق، فخرجتُ مُستاءة بسرعة. عند عودة زوجي مِن العمَل، سألتُه كيف لِدانيا أن تُناديه "فوفو". هو تلبّكَ ثمّ أجابَ:

 

- ما بكِ تبحثين عن المشاكل دائمًا؟ يا لَيتكِ تبحثين عن عمَل وتلتهين عنّي قليلاً! ما دخلي بالذي قالَته تلك المرأة؟!؟

 

تفاجأتُ بردّة فعل فارس، فهو لطالما كان رجُلاً عاقلاً وهادئًا... هل أصبتُ وتَرًا حسّاسًا لدَيه؟

قرّرتُ مع أكبر عدد مِن نساء الحَي والأكثر ثرثرة الاجتماع عندي في البيت، وأثرتُ موضوع دانيا أمامهنّ قائلة:

 

- ما أقبحَها! لا أفهَم كيف لدكّانها أن يبقى مليئًا على الدوام!

 

وانطلقَت الألسُن وتشابكَت النظريّات والأحكام، وانتهى المطاف بنا نُقرّر أنّ علينا معرفة سرّ دانيا مهما كلَّفَ الأمر. أعدَّينا خطّة ذكيّة للغاية، وهي أن تتواجَد على الدوام إحدانا في الدكّان بالتداور، ونُراقبُ ما يحصل ونُقدِّم تقريرنا في نهاية الأسبوع. كنّا سنُحيط بدانيا مِن كلّ الجهات ليلاً نهارًا!

مرّ أسبوع كنتُ خلاله قد رحتُ بدوري إلى الدكّان مرّتَين أو أكثر، وانتظرتُ بفارغ الصبر تقرير نساء المجموعة لأنّني للحقيقة لَم أرَ شيئًا خارج المألوف يحصلُ في الدكّان. جلسَت النساء في حلقة دائريّة وسادَ صمتٌ غريب، ربّما لأنّ لا أحد كان يعرفُ مَن سيبدأ بالكلام. لِذا تطوَّعتُ وأخبرتُ الموجودات أنّني لَم أُلاحِظ شيئًا على الاطلاق. عندها قالَت إحدى النساء:

 

ـ بالطبع لن تُلاحظي شيئًا!

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ لا شيء، لا شيء. كنتُ أمزحُ معكِ.

 

ـ لماذا هذا الصمت؟ هيّا، دور مَن الآن؟ ما الأمر؟!؟

 

بعد حوالي الدقيقة، قامَت إحدى جاراتي مِن مكانها واقتربَت منّي وقالَت بِرفق:

 

ـ دعينا نذهب إلى منازلنا فلدَينا الكثير مِن الأعمال.

 

ـ لا! أُريدُ أن أعلَم ما يحصل! أُريدُ تقاريركنّ! قلبي يدقّ بسرعة فائقة، أرجوكِ!

 

ـ حسنًا... سأبدأ أنا وستتالى الموجودات في الكلام... إذا كان هذا ما تُريدينه.

 

ـ أجل، هذا ما أُريدُه.

 

واستمَعتُ بذهول إلى تقارير الموجودات، تقارير كلّها تتشابَه وتدورُ حول فارس ودانيا. فعلِمتُ أنّ زوجي يتواجَد بصورة شبه دائمة في الدكّان حين لا يكون في عمَله، ويتبادَل مع تلك المرأة أحاديث حميمة همسًا. فالعاشقان لَم يتصوّرا أنّ السيّدة الموجودة في الدكّان والتي تختارُ ما تشتريه بصورة بريئة هي بالفعل إحدى أفراد "الشبكة" التي ألّفناها. خلتُ أنّه سيُغمى عليّ، ليس فقط لذهولي بأنّ لزوجي علاقة مع امرأة غيري، بل أيضًا لأنّها قبيحة للغاية. فكلّنا نخالُ أنّ رجُلنا، إن قرَّرَ خيانتنا يومًا، سيختارُ امرأة فاتنة وجذّابة ذات قوام رائع. فذلك يُعزّينا بعض الشيء أو يعطي له ولو عذرًا صغيرًا لخيانته. لكن أن يغشَّني فارس مع تلك المسخ!!! ما الذي ينقصُه معي ليلتجئ إليها؟؟؟

حاولتُ وجاراتي تحليل دوافع فارس أو فهم سرّ دانيا، لكن مِن دون جدوى. الجواب كان حتمًا لدَيه أو لدى كلّ الرجال الذين كانوا يتوافدون إلى الدكّان الواحِد تلوَ الآخَر. لِذا جلَبنا أخي وأخَذنا نسأله مئة سؤال عن دانيا، لدرجة أنّه شعَرَ بالإحراج وبقيَ صامتًا. إلا أنّني نظرتُ إليه بغضب عارِم وهدّدتُه بأفظع التهديدات إن لَم يتكلّم. وهو قالَ أخيرًا:

 

ـ إنّها... إنّها مُختلفة.

 

ـ ماذا تقصدُ؟ فهي قبيحة!

 

ـ تمامًا. وهذا ما يجذبُني أليها. فأنوثتها ليست كما اعتَدنا أن نراها، بل ممزوجة بشيء آخَر، شيء غير اعتياديّ: قباحتها.

 

ـ لَم أرَ فيها أيّة أنوثة!

 

ـ لأنّكِ امرأة يا أختي. لكن في ما يخصُّنا، أعني نحن الرجال، فأنوثتها موجودة، وبقوّة.

 

ـ أنا آسِفة لكنّني لا أفهَم عمّا تتكلّم. أنا حتمًا وسط حلم مُزعِج! الآن قُل لي ماذا تعلَم عن دانيا وفارس.

 

ـ لا شيء! لا شيء!

 

ـ إنّكَ تكذب، أعرفُ ذلك لأنّكَ أخي وأعرفُكَ عن ظهر قلب!

 

ـ إنّها مسألة تخصُّكِ وفارس ولا دخلَ لي بها. أرجوكِ يا أختي كفاكِ!

 

طلبتُ مِن الجارات وأخي تركي لوحدي لأُفكّر بمُصيبتي، وحين عادَ زوجي مساءً قلتُ له:

 

ـ أعرفُ ما يدورُ بينكَ وبين دانيا. لا تنكُر! أُريدُ أن تقولَ لي إن كانت علاقتكما جدّيّة أم أنّها مُجرّد نزوة.

 

ـ أنا آسِف.

 

ـ أجِبني، أُريدُ أن أعلَم، فهذا حقّي!

 

ـ أحبُّها وأُريدُ أن أتزوّجها. لا تخافي، سأُطلّقُكِ قَبل ذلك.

 

كادَ قلبي أن يتوقّف عن الخفقان لدى سماعي تلك الكلمات، وحمدتُ ربّي أنّ زوجي غادر البيت على الفور. بكيتُ كلّ دموعي واتّصلتُ بأهلي وأقاربي وأصدقائي لأشكو لهم مُصيبتي.

طلّقَني فارس وتزوّجَ دانيا بعد فترة قصيرة... وباتَ يجلسُ مع زوجته في الدكّان. يا لوقاحته! لماذا لَم يأخذها بعيدًا عنّي وعن أهلي ومعارفي؟!؟ كيف سأتمكّن مِن رؤيته معها كلّما مرَرتُ أمام ذلك المكان اللعين؟ ماذا فعلتُ له ليُعاملَني هكذا؟ أم أنّها فكرة زوجته لتثبتُ للكُلّ أنّها إستطاعَت أخذ زوجٍ مِن زوجته بالرغم مِن قباحتها؟

إضطرِرتُ بعد فترة للانتقال إلى مسكن آخَر، كي أتفادى ذلك الثنائيّ اللعين الذي كان يعيشُ سعادته أمام الجميع وأمامَ عَينَيّ. وكَم تفاجأتُ لدى معرفتي أنّ رجال عائلتي ظلوا يقصدون الدكّان ويشترون حاجيّاتهم منه! أمّا النساء، فالتفَفنَ حولي بعد أن تراءى لهنّ أنّ أزواجهنّ قد يقَعون ضحيّة صائدة رجال كدانيا.

لكن بعد أقلّ مِن سنة، بعَثَ لي فارس رسالة مع أخي كتَبَ فيها عن ندَمه على الذي فعلَته، مُعرِبًا عن نيّته العودة إليّ. ماذا؟!؟ أُعيدُه؟!؟ الموت أفضل! علِمتُ مِن مصدر موثوق أنّ دانيا هي التي تركَته بعدما ألقَت بشباكها على رجُل آخَر، مُتزوّج أيضًا، واحتقَرتُ فارس أكثر بعد. فهو لَم يعُد إليّ بسبب ندَمه بل لأنّ زوجته ألقَته خارج حياتها. بقيتُ مُصرّة على عدَم قبول عرض فارس، بل منَعتُه مِن الاتّصال بي بأيّة طريقة. تكلّمَ الناس كثيرًا عن الذي حصَلَ ووُلِدَت نقمة عامّة ضدّ دانيا، "مُدمِّرة الزيجات".

وفي إحدى الليالي، شبَّ حريق ضخم في دكّان الفاسقة وأكلَته النيران كلّيًّا. فهِمَت دانيا الرسالة فتركَت الحَيّ مِن دون رجعة. لَم يعرِف أحدٌ مَن أضرَمَ النار بالمحلّ، ولَم تتوصَّل الشرطة إلى أيّ نتيجة في تحرّيّاتها. لن أكذِب عليكم وأقول أنّني أسِفتُ للذي حصل، بل العكس، وحتى اليوم أشكرُ في سرّي الفاعِل، كائنًا مَن كان!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button