فوجئتُ كثيراً بِحقيقة ولدَيّ

صحيح أنّنا لم نكن أغنياء ولكنّنا لم نكن فقراء. عملنا جهدنا أنا وزوجي لنؤمّن لولدَينا حياة كريمة وكنتُ أظنّ أنّ ذلك سيكون كافياً لهما. كان لدينا إبناً وإبنة وكانا في نظري أفضل الأولاد في العالم، أفتخر بهما أينما ذهبتُ وأري الناس صورهما وأتكلّم عنهما. وإعتقدتُ فعلاً أنّ عائلتنا مثاليّة، حتى أن إكتشفتُ أنّني في الحقيقة لا أعرف شيئاً عنهما. طفولتهما كانت هادئة وسعيدة ولكن عندما بلغا سنّ المراهقة تغيّرَت أشياء كثيرة دون علمي. قد يقول البعض أنّني كنتُ منهمكة في عملي في المصرف ولم أنتبه جيّداً لما يحصل ولكن هذا ليس صحيحاً، لأنّني فعلاً أمّ صالحة وحنونة، أغار على سلامة سير عائلتي ولكن هناك أولاد يتمتّعون بذكاء وإحتيال يفوق تصوّر الأهل. كل شيء بدأ عندما إكتشفتُ أن لدى إبنتي سعاد حقيبة يد باهظة الثمن. وبالرغم من المصروف الأسبوعي الذي كانت تحصل عليه، لم يكن بإستطاعتها شراء هكذا حقيبة. إستغربتُ للأمر وسألتها من أين أتت بها، فأجابتني وهي تبتسم:

- هل إعتقدتِ أنّها حقيبة أصليّة؟ يا ليتني أستطيع شراءها! إنها نسخة مزوّرة صُنعت في الصين...

كان التفسير منطقي ولم أجد سبباً لملاحقة الموضوع. وفي هذه الأثناء بدأت إبنتي بتخبأة كل ما يمكن أن يثير شكوكي وبما أنّها كانت مسؤولة عن تنظيف وترتيب غرفتها، لم ألاحظ شيئاً. ومن ناحيته، كان إبني عادل يتصرّف بطريقة غريبة، لم أعتاد عليها. فبدأ يغيب عن المنزل ويعود متأخّراً تحت حجّة الدراسة مع أصدقائه. وبما أنّه لم يكن يوماً مجتهداً، أبديتُ رغبتي بالتعرّف على هؤلاء الزملاء الذين بدأوا فجأة بالإهتمام بتدريسه. حاول التملّص من الموضوع ولكن أمام إلحاحي جلب إلى البيت شابين لم ينالا إمتناني. فكان لهؤلاء درّاجات ناريّة وبعد أن رحلا قلتُ لإبني:

- لم يعجبني شكلهما... من أين أتيت بهما؟

- لماذا يا أمّي؟ لأنّ لديهما طريقة عيش مختلفة؟ إنّهما زملائي في المدرسة وعلاماتهما عالية جداً... لا تحكمي على المظاهر.

- لا أريدك أن تختلط مع هكذا أناس... أنا متأكّدة أنّه يوجد في صفّك تلامذة آخرين.

- ولكن...

- لا تناقشني... أنا أكبر منكَ سنّاً وأعلم ماذا أفعل.

وذهبَ إلى غرفته وأقفل الباب وراءه بقوّة.

وعندما عاد زوجي في المساء أخبرتُه عن ولدينا فقال:

- إنّهما مراهقان... عليكِ إعطاءهما بعض الحريّة وإلّا ستخسرينهما... أنتِ متشدّدة أكثر من اللازم...

وأقنعني بأن أتغاضى عنهما بعض الشيء، فكان محقّاً بشأن تشدّدي، فأنا كبرتُ في عائلة هادئة وملتزمة وكنتُ قد قرّرتُ أن أربّي أولادي بهذه الطريقة ولكنّ الأيّام تغيّرت وما كان مقبولاً آنذاك أصبح مرفوضاً اليوم. وتابعتُ حياتي كالعادة ولكنّني بقيتُ أراقب أفراد عائلتي عن بعد. ولكن في ذات ليلة، حدث أن إتصلَت بنا الشرطة لتبلغنا أنّ إبننا قد أوقف لأنّه كان يقود سيّارة صديق له ولم يكن عنده رخصة قيادة لأنّه لم يبلغ بعد السنّ القانوني. ركضنا إلى قسم البوليس ورأينا هناك عادل ينتظرنا. عندما رآنا قال:

- أنا آسف... ولكنّ صديقي كان مريضاً وطلب منّي أن أقوده إلى المستشفى وأوقفتنا الشرطة قبل أن نصل.

- وأين صديقك الآن؟

- هو جالس هناك.

ذهبتُ لأرى ذلك الشاب لأعرض عليه إصطحابه إلى طبيب ولكنّني وجدته بأحسن حال. حينها فهمتُ أنّ إبني قد كذب علينا وطلبتُ من الشرطي إبقاءه في المخفر حتى اليوم التالي لكي يتعلّم الدرس. حاول زوجي التدخّل ولكنّني صرختُ به:

- سمعتُ منكَ في المرّة السابقة وها هي النتيجة! ماذا لو دهس إبنكَ أحداً؟ ماذا لو أذى نفسه؟ سيبقى هنا ليتعلّم أنّ تصرّفاته ليست مقبولة.

وأخذتُ زوجي وتركنا عادل هناك ورغم حزني عليه، أجبرتُ نفسي على تحمّل فكرة أنّ طفلي سينام في قسم الشرطة. وكنتُ سأكتشف لاحقاً أنّني فعلتُ الصواب، لأنّ أشياء كثيرة ظهرَت بعد ذلك. ففي تلك الليلة وأثناء إحتجاز إبني، خطر على بال شرطي هناك التفتيش عن معلومات عن سيّارة ذلك الصديق المتمارض وإكتشف أنّ سلسلة مخالفات قد سُجّلت ضدّها من بينها الإشتباه بتواجدها قرب مكان حدوث سطو على سوبرماركت. وقرّر هذا الشرطي التعمّق بهذه السرقة ووجد التقارير والشهادات التي دُوّنَت حينها وأنّ مواصفات إبني وصديقه تطابق ما ورد في الملّف. وبما أنّ عادل بقيَ عندهم، إغتنموا الفرصة للتحقيق معه على أمل أن يعلموا إن كان لديه ضلعاً بالسطو. ولحسن حظّهم أنّ إبني كان ما زال صغيراً في السن وغير متمرّس في الكذب والتستّر، فإعترف فوراً أنّه فرد من عصابة تسرق المحلّات وتفرّق الغنيمة على الجميع. وأتى المحقّقون إلى بيتنا وفتّشوا غرفة إبني ووجدوا فيها مالاً ومشتريات عديدة باهظة الثمن. بكيتُ لأنّني لم أستدرك الأمر قبل حصوله ولكنّ الشرطي أخبرني أنّ الأهل هم آخر من يعلم في هكذا قضايا. وعندما عادت سعاد من المدرسة وعلِمت بالذي جرى لأخيها، فوجئت كثيراً وأقسمَت لي أنّها لم تلاحظ شيئاً عليه لأنّه أكبر منها سنّاً ولا يُخبرها أسراره. طلبتُ منها أن تصارحني بكل ما قد يجري لها بحياتها لتفادي حصول أيّ مشكلة في المستقبل وأكّدَت لي أن كل ما يهمّها كان أن تنجح في المدرسة وتؤمّن لنفسها مستقبلاً لامعاً. شكرتُ ربّي أنّ أحد أولادي عاقل وتابعتُ قضيّة إبني الذي أُحيل إلى محكمة الأحداث، لأنّه كان ما زال قاصراً. وبعد فترة بدأت المحاكمة وبدأتُ أذهب إلى الجلسات تارة لوحدي وتارة مع زوجي على أمل أن يستطيع المحامي الذي وكّلناه أن يخفّف العقوبة التي سينالها إبني. وفي إحدى الجلسات تكلّم أفراد العصابة عن فرد آخر أفلَت من بين أيدي العدالة وطلب منهم القاضي أن يفصحوا عن هويته مقابل تخفيف في الحكم كون هذا الفرد عنصر أساسي في الفريق. حينها طلبتُ مقابلة عادل في السجن وتوسّلتُ إليه بأن يتكلّم لكي يخرج بأقصر وقت ويصحّح ما فعله ويحصل هكذا على فرصة ثانية في الحياة. ضحِكَ عند سماع هذا وقال لي:

- من الأفضل أن أظلّ ساكتاً...

- لا! يجب أن تفكّر بنفسك... هؤلاء الناس ليسوا أصدقائك... هم مجرمون إستغلّوا طيبتك لنيل مرادهم... أنتَ فتى صالح ولقد ربيّتكَ أنتَ وشقيقتكَ على الفضيلة والقيم... ربّما كان الذنب ذنبي... فلم أنتبه لما كان يجري... حتى أختك تفاجأت كثيراً وخاب أملها فيك...

- أختي؟ هاهاها! خاب ظنّها بي؟ هاهاها!

- لماذا تضحك هكذا؟ هل فقدتَ عقلكَ؟ توقّعتُ أن تخجل مِن نفسكَ، لأنّ شقيقتكَ لم تعد تنظر إليكَ كالسابق وكونكَ أخاها الكبير عليكَ أن تكون قدوة لها.

- كنتُ أظنّ أنّكِ ذكيّة ولو بعض الشيء... وها أنتِ بمنتهى الغباء!

- كيف تتكلّم مع والدتكَ هكذا؟؟؟ أنا لا أسمح لكَ...

- أقول غبيّة لأن فتاة صغيرة ضحكت عليكِ وبسهولة... يا أمّي... شقيقتي هي العنصر الذي تفتّش عنه الشرطة.

- إبنتي سعاد؟!؟ أنتَ تكذب!

- أبداً... هي التي خطّطَت لكل شيء... وللحقيقة فإنّها تخيفنا جميعاً...

- ولكنّها ما زالت في الخامسة عشر!

- صحيح أنّها صغيرة في السنّ ولكنّها أذكى منّا جميعاً...

وتركتُ السجن وركضتُ إلى المنزل لأرى إن كان كل هذا صحيحاً. لم أجد إبنتي في البيت، فإستغنمتُ الفرصة لأفتّش غرفتها. ووجدتُ فيها فساتين وساعات وحقائب يد ثمينة وعلِمتُ أنّ ما قاله إبني كان حقيقيّاً. وعندما وصلَت سعاد وجدتني جالسة على سريرها ومعي مقتنياتها الجميلة. وقفَت عند الباب وقالت:

- أنتِ على علم...

- أجل... ولكنّني أحاول فهم السبب الذي دفعكِ أنتِ وأخاكِ على سلك هذه الطريق.

- المال...

- ولكنّنا نعطيكم مصروفاً أسبوعيّاً!

- هذا ليس كافياً... أريد المال وبكثرة... أريد كل شيء... أريد شراء العالم بأسره!

- كان بإمكانكِ الإنتظار حتى تكبري وتعملي لتحصلي على مرادكِ.

- لا... لا أريد الإنتظار... هناك سبل أسرع.

نظرتُ إلى إبنتي وسألتُ نفسي مَن تكون هذه الفتاة الواقفة أمامي. ثمّ قلتُ لها:

- لن أدع أخاكِ يدفع الثمن لوحده.

- هل ستشين بي؟ أنتِ أمّيّ! لا يمكنكِ فعل هذا!

- سأفعل الصواب.

وأخذتَها بالقوّة إلى مركز الشرطة حيث إعترفَت بكل ما فعلَته وذهبَت هي الأخرى إلى سجن الأحداث. لم أترك ولدّيّ أبداً. كنتُ أذهب لزيارتهما وأتكلّم معهما عن الحياة وأصولها. أعتقد أنّهما أدركا أنّ ما فعلاه كان خطأً. لم يبقَ سوى أشهر قليلة لخروجهما وأنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر لأستعيد ولديّ الذين كبرا بسرعة.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button