غرامٌ أعمى

قد يفعلُ البعض المُستحيل باسم الحبّ، لكن هل أنّ ذلك الحبّ والحبيبة يستحقّان تلك التضحيّة والإقدام؟

كنتُ شابًّا كسائر الشبّان ولدَيّ أحلام ومُستقبَل واعِد أمامي، وأعيشُ حياة جميلة وهنيئة. حسبتُ فعلاً أنّني سأسيرُ على خطى والدي مهنيًّا واجتماعيًّا وعائليًّا، لِذا لَم أشغلُ بالي كثيرًا بالتفكير بعنصُر المُفاجأة، هو نفسه الذي يأخذُ حياتنا إلى مكان آخَر. وذلك العنصر كان اسمه فاديا.

كنتُ ابن عائلة مُقتدِرة وبعيدة كُل البُعد عن حياة ذوي الدَخل المحدود، والذين يعيشون في تلك الأحياء الشعبيّة حيث تحصلُ أمورٌ أحيانًا لا تتماشى مع القانون. كيف لي أن أعلَم بتلك الأشياء حين لا أتخالَط سوى مع أبناء بيئتي؟ هل أحاطَني أهلي أكثر مِن اللازم، أم أنّ على الناس أن يبقوا بعيدين عن بعضهم وفي مُجتمعاتهم الخاصّة بهم؟

أتَت فاديا مع صديقة صديقي إلى حفل أقامَه ابن عمّي في أحَد المُجمّعات البحريّة، وأُعجبتُ بها على الفور. أظنُّ أنّ ما لفَتَ نظري فيها كانت طريقة لبسها المُختلِف، إذ كان مِن الواضح أنّها تفتقِد للذوق الرفيع الذي اعتدتُ عليه في الصبايا التي تتواجَد في دائرتي. إلا أنّه كان مِن الواضح أنّها صبَّت جهدها لتكون "أنيقة" وأحبَبتُ ذلك فيها. إضافة إلى هذا الأمر، شعرتُ بوحدتها وسط هؤلاء الناس، الأمر الذي دفعَني إلى الوقوف إلى جانبها في ما اعتَبرتُه محنة صعبة بالنسبة لها. لو كان آخَرٌ مكاني لتجاهلَها كلّيًّا خوفًا مِن كلام الموجودين، إلا أنّني كنتُ أتحلّى منذ صغري بما يُسمّى "المروءة"، وهي خصال أحبَّتها والدتي فيّ وشجّعَتني عليها. فالوالدة كانت امرأة رومانسيّة تهوى قصص الحبّ والشِعر، على خلاف أبي الذي وضَعَ مشاعره جانبًا مِن أجل الأعمال والمال.

علِمتُ مِن فاديا أنّها تعملُ في متجَر صغير، وأنّها إبنة عائلة كبيرة مِن حيث عدد أفرادها، وأنّها لَم تستطِع مُتابعة عِلمها بسبب حاجتها إلى المال. ومِن دون أن أفكّر، قلتُ لها تلقائيًّا:

 

ـ لن تطول حاجتكِ إلى المال، أريحي بالكِ.

 

نظرَت إليّ الصبيّة بتعجُّب، فأخذتُ بِيَدها إلى حلبة الرقص ورقصنا حتى ساعات مُتأخِّرة من الليل. ومنذ تلك الأمسية، صِرنا سويًّا نتقاسمُ كلّ شيء مِن أسرارنا إلى أحلامنا. أحبَبتُ فاديا لشخصها ولِما تُمثِّله مِن براءة وإثارة. فكنتُ أجِدُ إثارة كبيرة بوجودي معها إذ أنّني أعيشُ حياة لَم يكن يجدرُ بي أن أختبرُها: الحياة العاديّة.

رفَضَ أبي تلك العلاقة بعد أن سألَني: "إبنة مَن تكون هذه الصبيّة؟" وأجَبتُه: "إبنة جزّار في ضواحي العاصمة". للحقيقة هو كادَ أن يختنِق مِن المُفاجأة والاستنكار، وأجابَ بجديّة تامّة: "ستقطعُ علاقتكَ بها على الفور". هكذا كان والدي، يُعطي الأوامر مِن دون تفسير أو حجَج. شعرتُ بِدَمي يغلي في عروقي فالتجأتُ إلى أمّي شاكيًا وباكيًا، وهي بكَت معي ربّما لأنّها تذكَّرَت أنّها لَم تعرِف الحبّ يومًا وبقيَ ذلك الأمر يؤلمها بشكل دائم. وعدَتني بأنّها ستُهدّئ مِن غضب أبي لكنّها فشلَت طبعًا.

بعد ذلك زادَ إصراري على فاديا، ورحتُ أتعرّف إلى أهلها الذين رحبّوا بي ونادوني بالـ "صهر" على الفور. كنتُ أعلَم أنّهم اعتبروني تذكرة خروج ابنتهم مِن الفقر، لكنّني لَم أكن أعلَم أنّهم رأوا بي مصدر ربح دائم. فبعد أيّام معدودة، بدأَت تنهال الطلبات عليّ بشأن ديون لا يستطيعون تسديدها، إلى حاجتهم إلى مُشتريات عديدة وتحسين في مسكنهم. إلا أنّني كنتُ لا أزال في الجامعة ولا مدخول لدَيّ سوى المصروف الذي أتقاضاه مِن أبي، المصروف نفسه الذي أعطَيتُه بالكامل لفاديا وأهلها. بقيتُ أرى حبيبتي بالسرّ، ويوم أطلعَني والدي على وجود احتمال أن أتزوّج مِن ابنة صديقه الثريّ، إدّعَيتُ القبول لأستطيع أن أسحَب منه بالمال لأعطيه لعائلة فاديا. خرجتُ مع "خطيبتي" بكلّ طيبة قلب ومثّلتُ دور العاشِق، وأخذتُ مُقابِل ذلك مبالغ لا بأس بها مِن أبي الذي كان ممنونًا منّي كثيرًا.

إستمرّ الوضع على هذا النحو لسنتَين، وكنتُ قد حصلتُ على شهادتي الجامعيّة وبدأتُ بالعمل في شركة والدي. وكان قد حان الوقت أيضًا لأتزوّج مِن خطيبتي، وحين قلتُ لفاديا إنّني سأبوحُ لأبي بالحقيقة صرخَت بي:

 

ـ هل أنتَ مجنون؟!؟ عندها سيحرمُكَ مِن المال والميراث! بل تزوَّج مِن تلك الصبيّة وأفعَل ما يُطلَب منكَ. لا تخَف، سأظلُّ معكَ وسأظلُ أحبُّكَ.

 

لَم أستوعِب كيف لحبيبتي أن تقبَل بأن أكون زوج امرأة أخرى، إلا أنّها أقنعَتني بأنّها الطريقة الوحيدة لنكون سويًّا، فبرأيها إغضاب أبي سيخربُ علينا حبّنا ويُفرّقُ بيننا إلى الأبد. لَم أرَ الفخّ الذي كان يُحاكُ لي، فكنتُ شابًّا مغرومًا بفتاة مُصرّة على الاستفادة منّي قدر المُستطاع.

تزوّجتُ مِن الصبيّة الأخرى وبدأتُ ألعَب دور الزوج الوفيّ والسعيد، بينما كنتُ أُلتقي بفاديا سرًّا في بيت أهلها ونقضي وقتنا في غرفتها نعيشُ حبّنا مِن دون أن يُزعجنا أحَد. رُزِقتُ بابن والكلّ فرِحَ لي، فنصحَتني عشيقتي بأن أضغط على أبي ليُخصّصَ حفيده بمبلغ شهريّ كعربون حبّ. وطبعًا كنتُ أُعطي ذلك المال لها، عالمًا تمام العلم أنّ ابني ليس بحاجة إلى أيّ مال ما دمتُ أعمَل لدى والدي الذي سأرِثُه عند مماته.

على مرّ السنوات تغيّرَت طبعًا أحوال ذوي فاديا مِن حيث المسكن وكلّ سبُل العَيش، فانتقلوا جميعًا إلى حَيّ جميل واقتنوا السيّارات والملابس الفاخرة، بينما كنتُ أقومُ بواجباتي تجاه عائلتي الصغيرة. لكنّني كنتُ أُريدُ أن أكونَ مع حبيبتي بشكل دائم، وبقيتُ أقولُ لها إنّني أنوي ترك زوجتي لأتزوّجها هي. إلا أنّها كانت ترفضُ وتُهددني بتركي نهائيًّا، الأمر الذي أخافَني إلى أقصى درجة. لحسن حظّها لَم تعرِف زوجتي بشيء على الأطلاق، لأنّني كنتُ حذرًا بخيانتي لها إلى أقصى حدّ، ليس فقط خوفًا مِن أبي لكن أيضًا كَي لا أجرحَ مشاعرها فهي كانت إنسانة رائعة حقًّا. لكن حبّها وتفانيها لي لَم يؤثِّرا بي لِدرجة التوقّف عن حبّ فاديا، للأسف.

شخص واحد علِمَ بعلاقتي بفاديا: والدي. فرجُل أعمال مثله يصعبُ التلاعب به، وإلا لمَا بلَغَ هذا الحدّ مِن النجاح والثراء. فهو بدأ يشكّ بأنّ شيئًا يحصل، فاستعانَ بتحرٍّ خاص طالبًا منه مُراقبتي وتزويده بتقرير أسبوعيّ. وانتهى به المطاف أن عرفَ بما يجري فطلبَني يومًا إلى مكتبه قائلاً:

 

ـ ستتوقّف عن رؤية تلك الماكِرة. نعم، أعلمُ بعلاقتكَ أو بالأحرى خيانتكَ.

 

ـ حسنًا، ما دُمتَ على علم بكلّ شيء، إعلَم أيضًا أنّني لا أنوي ترك فاديا. لستُ خائفًا منكَ يا أبي فحبّنا كافٍ لإسعادي.

 

ـ كَم أنّكَ غبيّ! أخجلُ منكَ، فلا يجدرُ بكَ أن تكون ابني! أنتَ مِثل أمّكَ تعيشُ في عالَم خياليّ! إصحَ!

 

ـ أحبُّها وأُريدُها!

 

ـ سترحَل مِن شركتي على الفور ولن تحصل على قرش واحد! أعلمُ أنّكَ ستعودُ إليّ باكيًّا لِذا لن نقولَ لزوجتكَ الحقيقة بل أنّكَ مُسافِر بداعي العمَل. هيّا!

 

ـ لن أعودَ أبدًا!

 

غضِبَت فاديا إلى أقصى درجة حين رأتني قادمًا إليها مع حقائبي، وعملتُ جهدي لإفهامها أنّنا سنكون بخير حالما أجدُ عمَلاً. ألَم أكن أحملُ شهادة جامعيّة؟ تبًّا لمال أبي! عشتُ وأهلها الذين عاملوني بجفاف غير اعتياديّ، وامتنعَت فاديا عن مُعاشرتي طالما لَم أُتابِع مدّهم بالمال بأيّة طريقة. سُعِدتُ بإيجاد عمَل في شركة بسيطة، إلا أنّ الراتب لَم يكن كافيًّا لهؤلاء القوم الذين صاروا يُعاملوني بازدراء ويوجّهون لي الملاحظات المؤذية جدًّا. مرَّت حوالي السنة على هذا النحو، كنتُ خلالها أُكلّمِ زوجتي وابني وأقولُ لهما إنّني أعملُ بكدّ في الخارج مِن أجلهما، فقط كَي لا أسبّب لهما التعاسة والشعور بالتخلّي. كان أبي يُعطيهما المال وكأنّه منّي ليُصدّقوا الكذبة. أُصبتُ بالكآبة لأنّ حبيبتي لَم تعُد تُحبُّني على الاطلاق، بل تتصرّفُ وكأنّني لستُ موجودًا وتخرجُ مع شلّتها لتعود في آخِر الليل وتنامُ في غرفة أخرى. كنتُ قد أصبحتُ عبئًا على أهلها وحجَر عثرة في طريق سعادة عشيقتي. لكنّني تمسّكتُ بها آملاً بأن تُحبّني مِن جديد بعد أن تعي تضحيّاتي.

إلا أنّني وجدتُ يومًا أمتعتي خارج البيت حين عدتُ مِن عمَلي، وفاديا تقولُ لي إنّها وجدَت رجُلاً آخَر أكثر كرَمًا منّي. وهي هدّدَتني بأنّها ستطلبُ الشرطة إن ضايقتُها أو أن حاولتُ الاتصال بها. شعرتُ بالخذلان واليأس وبكيتُ كالطفل وأنا أتوسّل إليها، إلا أنّها أقفلَت الباب بوجهي.

سكنتُ لفترة في شقّة صغيرة، فقد تُغيّرُ فاديا رأيها، لكنّها لَم تفعَل بل علِمتُ أنّها تزوّجَت وسافرَت. عندها رحتُ أدقُّ باب أبي الذي ابتسمَ حين رآني واقفًا أمامه. هو لَم يقُل شيئًا بل أخَذَ هاتفه واتصلَ بزوجتي ليقولَ لها إنّني سأعودُ قريبًا مِن السفَر.

إستقبلَتني زوجتي بفرَح عارِم وكذلك ابني وشعرتُ أنّني بالفعل عدتُ إلى داري. لَم أعلَم إلا بعد سنوات طويلة أنّها كانت تعرِف لماذا غبتُ عن البيت، ووثِقَت بأبي حين هو أكّدَ لها أنّني سأعودُ إليها حتمًا.

أخجلُ مِن نفسي لِما فعلتُه وكيف تمّ استغلالي. كدتُ أن أفقِدَ كلّ الذين يُحبّوني فعلاً، لأنّني كنتُ أعمى لِما يجري ويُحاك لي. فاديا كانت حبّي الأوّل وتجربتي الجنسيّة الأولى، ولَم أعرِف أنّ الحياة ستُعطيني الأفضَل والأنظَف. صحيح أنّني كنتُ غبيّاً!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button