عُقم أختي

قصّة أختي هي مثال للحدّ الذي يصل إليه المرء بغية إثبات نفسه وإرضاء كبريائه مهما كلَّفَ الأمر، وحتّى لو كان على حساب سعادته وصحّته وعلاقته مع الآخَرين. ولقد كنتُ شاهدة عاجزة على ما جرى لسلوى وكيف انتهى بها المطاف.

تزوّجَت سلوى بعدما سبقتُها بعامَين، وفرِحنا لها لأنّها وجدَت رجُلاً طيّبًا ومُحبًّا ومُقتدرًا، وحسبنا أنّها ستعيشُ سعيدة لآخِر أيّامها. إلا أنّ حياتها بدأَت تأخذُ مُنعطفًا جذريًّا، بعد أن مرَّ شهران على زواجها ولَم تحمَل. ستقولون أن ليس في الأمر ما يشغلُ البال، وأوافقُكم الرأي وكذلك باقي الناس. إلا أنّ سلوى إستاءَت كثيرًا، خاصّة أنّ القدَر شاء أن حمِلتُ أنا بعد شهر واحد مِن زواجي.

لِذا راحَت أختي عند طبيب قدير لِترى أين تكمن المُشكلة، وأوضَحَ لها الأخصّائيّ أّنّ لا داعٍ لانشغال البال على الاطلاق وأنّ الحمَل سيأتي مِن تلقاء نفسه قريبًا. هو رفَضَ فحصها أو إعطاء أيّ علاج لها، لأنّه ذو ضمير مهنيّ رفيع. لَم تتقبّل أختي كلام الطبيب بل تكلّمَت عنه بألفاظ قاسية، فبالنسبة لها هو جاهِل وخرِف وعليه ترك مهنته على الفور. حاولتُ ووالدتنا إقناع سلوى بأنّ لا لزوم للأطبّاء في هذه المرحلة، لكن مِن دون جدوى. فقد كان دائمًا ردّها لي: "أنتِ حمِلتِ بعد شهر واحد!".

ذهبَت أختي إلى طبيب لا يتحلّى بالضمير المطلوب، فأجرى لها فحوصات عديدة، وأعطاها أقراصًا لتقوية هرموناتها وتنشيط مبيضاتها. مرَّت أشهر طويلة مِن دون نتيجة، فعادَت سلوى إليه طالبةً منه التصرّف وإلا قصدَت غيره. عندها رأى الأخصّائيّ أنّه على وشك أن يخسَرَ مريضة لدَيه، فاقترَحَ أنّه مِن الجائز أن تكون المسالك مسدودة وعليه فتحها. كدتُ أُجنّ حين علِمتُ بما ينوي فعله الطبيب بأختي، وتوسّلتُ إليها لرؤية طبيب آخَر للتأكّد مِن ضرورة ذلك الإجراء.

إلا أنّ سلوى بقيَت مُصِرّة على إجراء العمليّة بعد أن أكّدوا لها أنّها ستصبحُ أمًّا في القريب العاجل.

 

تألّمَت أختي كثيرًا، لكنّها اجتازَت مرحلة ما بعد العمليّة بفضل اعتقادها بأنّها "أصلحَت العطل" الموجود فيها. لكن للأسف، لَم تنَل النتيجة المرجوّة إذ لَم يحصل الحَمل. عندها إنقلبَت شخصيّة ونفسيّة سلوى لتصير إنسانة جافّة وقاسية بالرغم مِن سنّها الصغير. إضافة إلى ذلك، هي بدأَت تكنُّ لي كرهًا وامتعاضًا مجّانَين لأنّني صرتُ أمًّا وبسرعة. إنقطعَت الصلة بيننا مِن جانبها، ولَم أعُد أعرفُ أخبارها إلا بواسطة أمّنا، فعلِمتُ أنّ سلوى عادَت إلى تناول الأقراص التي كانت تُحدِثُ عوارض جانبيّة عديدة لجسدها الذي عانى مِن العلاجات القاسية. علِمتُ أيضًا أنّها لَم تعُد تُبارِح منزلها بل انزوَت تمامًا وغرِقَت في الكآبة.

عندها قرّرتُ زيارتها بالرغم مِن رفضها، وحين قرَعتُ بابها وفتحَت لي، رأيتُ كيف أنّها انزعجَت مِن وجودي على عتبة بيتها. إلا أنّها أدخلَتني وأجلسَتني في صالونها:

 

ـ ماذا تُريدين؟ أتريدين التفرّج على أختكِ العاقِر التي فشِلَت في أبسط مُهمّة؟

 

ـ ما هذا الكلام؟!؟ جئتُ لأطمئنّ عليكِ، فأنتِ أختي وحبيبتي.

 

ـ حتّى الحيوانات تُنجِب... لكن أنا فلا!

 

ـ أصبري يا حبيبتي، صلّي، أو إنسي الموضوع برمّته. فليست كلّ النساء أمّهات.

 

ـ هاهاها! كلام جميل مِن فم إمرأة حمِلَت بعد شهر مِن زواجها!

 

ـ هذا هو قدَري.

 

ـ أنتِ لطالما حصلتِ على كلّ شيء أردتِه.

 

ـ هذا ليس صحيحًا! بل أنتِ كنتِ المُدللة بيننا. دعينا مِن هذا الموضوع. كيف حالُكِ؟

 

ـ كمّ أنّكِ سخيفة! كيف حالي؟!؟ صحّتي مُزرية، فلدَيّ أوجاع في جسدي كلّه وكأنّني عجوز... أمّا نفسيًّا، فالموت باتَ فكرة جيّدة.

 

ـ إيّاكِ أن تتكلّمي عن الموت! فالحياة أمامكِ ولدَيكِ زوج رائع.

 

ـ زوجي؟!؟ هو سئِمَ منّي بسرعة.

 

ـ أجل، بسبب ما فعَلتِه وتفعلينَه بنفسكِ! أين ذهبَت سلوى الفرِحة والمُفعمة بالحيويّة والمُتفائلة؟ فأنتِ لَم تعودي الفتاة التي هو أحبّها وأرادَ العَيش معها حتى آخِر أيّامه.

 

ـ هل إنتهَيتِ مِن إلقاء المواعظ؟ أنا تعبة وأريدُ أن أرتاح. مع ألف سلامة!

 

بقيَ لأختي حلّ واحِد إن هي أرادَت الانجاب، وهو التلقيح. فراحَت وزوجها لبدء الفحوصات والاجراءات اللازمة... وتبيّنَ أنّ المُشكلة تكمُن في صهري! أجل، لقد قرأتم جيّدًا، فلَم يخطُر أبدًا ببال سلوى أنّ عدَم وقوع حَملها سببه زوجها. لماذا؟ لستُ أدري، فلقد اعتقدتُ فعلاً أنّ الثنائيّ خضَعَ لفحص خصوبة كما يجب أن يحصل، خاصّة بعد كلّ الذي مرَّت به أختي. يا للمسكينة، أو بالأحرى البلهاء! وماذا عن هؤلاء الأطبّاء الذين ملأوا جيوبهم بفضل سلوى؟ ألَم يطلبوا تحاليل في ما يخصّ الزوج؟!؟ دجّالون لا يهمّهم سوى الربح! على كلّ الأحوال، لَم تعُد سلوى قادرة على الانجاب أكان زوجها عاقرًا أم لا، بسبب الأضرار التي لحِقَت بجهازها التناسليّ. حاوَلَ أخصّائيّ تقوية الحيوانات المنويّة الخاصّة بصهري مِن دون نتيجة، فالسبب كان خُلُقيًّا.

ركضتُ لمواساة أختي، لكنّها جابهَتني أيضًا بغضب وكأنّني السبب! نصحَتني أمّي أن أعطي أختي بعض الوقت لاستيعاب ما حصَلَ لها، فإلى جانب تعبَها الجسديّ وصحّتها المتدهورة، كان عليها التعاطي مع الذي طرأ عليها مِن جانب وضع زوجها الذي، بالفعل، لَم يكن يعلَم أنّه غير قادر على جلب ولَد إلى الدنيا. وتدمَّرَت حياتهما الزوجيّة إلى حدّ لا رجوع عنه، فتطلّقا وذهَبَ كلّ منهما في جهّته.

بعد فترة، سافرَت سلوى إلى الهند لتمكُث في مكان هادئ بين أناس راحوا مثلها لإيجاد الهدوء النفسيّ والفكريّ، وهناك هي تعلّمَت التأمّل والرجوع إلى ذاتها وتناول الطعام الصحّيّ. تتبَّعتُ أخبارها مِن خلال أمّنا، وتمنّيتُ أن تكون تلك الرحلة مُفيدة لها.

عادَت أختي مِن الهند بعد ستّة أشهر، وأوّل شيء فعلَته كان الاتّصال بي مُبديةً رغبتها الشديدة في رؤيتي. خفتُ حقًّا أن تكون سلوى لا تزال غاضبة منّي، لكنّني تفاجأتُ بها إنسانة أخرى. فوجدتُها هادئة ومُبتسمة وقالَت لي بعد أن عانقَتني:

 

ـ أنا آسفة جدًّا، فلقد حمَّلتُكِ ذنب كبريائي وجبروتي... غرتُ منكِ، وصمَّمتُ ليس فقط على تقليدكِ بل التفوّق عليكِ وذلك على حساب صحّتي وزواجي. لا تخافي، ذهابي إلى الهند وبحثي عن ذاتي لَم يؤثِّرا على إيماني بالله على الاطلاق، بل رحتُ إلى مكان تمكّنتُ فيه مِن رؤية داخلي المُتعَب لإراحته.

 

ـ أنا سعيدة مِن أجلكِ يا حبيبتي فلقد كنتُ قلِقة عليكِ كثيرًا وخفتُ أن...

 

ـ لا، بل العكس أصبحتُ أرى الحياة بصورة جديدة، فلقد تخلَّيتُ عن غروري وحبّي للذات. لَم يعُد يهمّني إن أنجبتُ أم لا، فحياتي لا تتوقّف عند ذلك ولستُ إمرأة ناقصة أو عديمة النفع، بل في بالي مشاريع كثيرة عليّ إنجازها.

 

مرَّت خمس سنوات عمِلَت خلالها سلوى على الانخراط في جمعيّات عديدة، حيث ساعدَت فئات مُختلفة مِن الناس الذين هم بحاجة ليس فقط للمال والأكل بل إلى الراحة النفسيّة. هي لَم تتخلَّ للحظة عن ديننا وممارسة الصلوات والصوم، بل وجدتُها مُتمسّكة بتعاليم الله أكثر مِن قَبل. فما تعلّمَته سلوى في الهند لا علاقة له بأيّ دين، بل هو طريقة عَيش وتفتيش عن الذات للتخلّي عن الأنانيّة التي تقفُ في طريقنا إلى السعادة.

وكَم سُرِرتُ عندما أخبرَتني سلوى أنّها وجدَت إنسانًا أحبَّته وأحبَّها، وحضَرنا زواجهما بفرَح لا يوصَف. تمنَّيتُ لها كلّ السعادة وحياة مليئة بالتفاهم، مع شخص كان يعلَم مُسبقًا أنّها غير قادرة على الإنجاب.

غير قادرة على الإنجاب؟!؟ ليس تمامًا!

فبعد أقلّ مِن سنة على زواجها الثاني... حمِلَت سلوى! أجل، فلقد ارتاحَ جسدها وصَفا ذهنها واختفى إمتعاضها، الأمور التي سهّلَت شفاءها التلقائيّ مِن الذي عانَت منه بعد العمليّة والعلاجات. وهذا إثبات واضح على قدرة الانسان على التغلّب على بعض الحالات المرَضيّة إن هو شفى روحه.

بالنسبة لي، حَمل أختي أعجوبة، ليس بالمعنى التقليديّ للكلمة، بل بالنسبة للتحوّل الذي حصَلَ لها، بدءًا مِن إستعدادها للتخلّي عن القلَق والغضب والغيرة الموجودين في قلبها، وتقبلّها لوضع رفضَته لمدّة طويلة. فحتّى لو لَم تكن قادرة على الانجاب على الاطلاق، تحوّلَت حياتها إلى الأفضل، ووجدَت الراحة النفسيّة والحبّ وهدَفًا تعمَل مِن أجله. فإنّ عدوّنا الأكبر هو نفسنا وما يقبَع في داخلنا مِن مشاعر سلبيّة تُعمينا وتدفعُنا إلى أذيّة الآخَرين، لا بل أنفسنا في المقام الأوّل.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button