عوقِبتُ لأنّني جميلة

أظنّ أنّ إمتعاض أمّي لي بدأ حين كنتُ في السنة الأولى مِن عمري، أي عندما قالَت لها حماتها:" مِن الجيّد أنّ الصغيرة تُشبِه أباها".

لَم أكن واعية في ذلك الوقت وعرفتُ بالأمر بعد سنوات كثيرة. للحقيقة، تلك الحادثة ألقَت الضوء على تساؤلات عديدة وبحث دامَ طويلاً هدفه معرفة سبب ترك والدَيَّ لي.

فالحقيقة أنّ أمّي لَم تكن حسناء على الاطلاق، بل العكس. وكانت بشاعتُها فاضحة، فهي لَم تستطِع إخفاءها تحت كمّيّات المساحيق التي استعملَتها، فالجراحة التجميليّة كانت في أوّلها آنذاك وللأثريّاء فقط. وشاءَت الظروف أن أحبَّها شابّ وسيم وطيّب هو أبي، الذي استطاعَ تخطّي حاجز المظهر واكتشَف قلب أمّي الجميل. لكنّ أهله لَم يكونوا مُستعدّين لتزويجه مِن أقبَح فتاة على بُعد أميال، فمانعوا بقوّة. هم إعتبَروا أنّه يستحقّ أفضل منها لأنّه وسيم، وهذا تفكير رجعيّ طبعًا، فكلّنا نعلَم أنّ الجمال الخارجيّ يأتي ويذهب والمهمّ هو ما يبقى. أستطيعُ تصوّر حزن والدتي لدى سماعها أنّها لن تعيشَ حبّها بسبب مظهرها، فمَن يُحبّ أن يُسمّى بالقبيح؟ إلا أنّ الذي كان سيُصبحُ أبي بقيَ مُصرًّا عليها، ووصَلَ الأمر به إلى تهديد والدَيه بالرحيل بعيدًا وحتى الانتحار. عندها قبلوا على مضَض، فهو كان وحيدهما. لكنّهما أقاما له زفافًا صغيرًا، وجمَعا أقرَب الناس إليهما كي يحدّان مِن إنتشار الخبَر. فأمّي، وبالرغم مِن تبرّجها وتصفيف شعرها وفستانها الأبيض، بدَت في ذلك اليوم أقبَح مِن أيّ وقت آخَر. ذرفَت جدّتي الأبويّة الدموع الحارّة لكثرة حسرتها على إبنها، بينما زغردَت جدّتي الأخرى مِن كثرة فرحها بأنّها إستطاعَت إيجاد مَن يأخذ إبنتها عنها.

لكنّ والدتي كانت بالفعل إنسانة طيّبة ومُحبّة، وعمِلَت بعد زواجها كلّ جهدها لتُنسي حماتها وحماها بشاعة شكلها، إلا أنّهما لَم يتمكّنا مِن مسامحتها قط. فسمِعَت الكثير مِن التهكّم والكلام المُبطّن، إلا أنّ أبي ساعدَها على تخطّي تلك الأوقات الصعبة بطمأنتها وإحاطتها.

ثمّ رأيتُ النور وشاء القدَر أن أكون جميلة كأبي. كان الجميع قد حبَسَ أنفاسه خوفًا مِن أن أكون قد ورثتُ ملامِح أمّي، لكنّني للأسف دفعتُ الثمَن غاليًا لسنوات طويلة. فلقد صبَّت أمّي كلّ إمتعاضها عليّ، ربّما لأنّني كنتُ صغيرة وضعيفة، ولأنّ جدّتي الأبويّة أخذَتني تحت جناحَيها وأحبَّتني لدرجة لا توصَف. فأرادَت أمّي مُعاقبة حماتها مِن خلالي، بعد أن أدركَت أنّني بجمالي لن أكون حليفتها.

فمنذ تعليق جدّتي حول شبَهي لأبي، بدأَت والدتي بتحطيم شخصيّتي ومعنويّاتي. فلَم أرَها يومًا تبتسمُ لي كما تفعل الأمّهات، أو تحضنني أو تُشجعّنُي على شيء أفعلُه، بل كانت جافّة معي أو غاضبة أو ساخِرة. عمِلتُ جهدي لإرضائها بجلَب أفضل العلامات في المدرسة، أو بالقيام بالأعمال المنزليّة بالرغم مِن صِغَري. لكن لا شيء كان كافيًا بالنسبة لها، فبقيَ قلبي حزينًا.

ولَم يغِب عن إنتباه أبي أو جدّتي ما كانت تفعله أمّي بي، فغمراني بالحب، مما زادَ مِن إمتعاض والدتي تجاهي. حلقة مُفزعة كنتُ ضحيّتها، للأسف.

أرادَت أمّي الانجاب مُجدّدًا، آملةً بأن تجلِبَ إلى الدنيا إبنة تُشبهُها وتُحارب معها معركتها ضدّ "الجميلَين"، أي أنا وأبي. إلا أنّ والدي نُقِلَ إلى الخارج بسبب عمله، وارتأى أنّ السفَر مع طفل صغير ليس مُلائمًا وأنّ إبنةً واحدة أقلّ مدعاة للتعَب. حضّرنا نفسنا للذهاب معه إلى أوروبا، إلا أنّ أمّي أقنعَته، ولا أدري بأيّة طريقة، أنّه مِن الأفضل لو أبقى مع أمّه. هل هو قبِلَ لأنّه كان يُحبُّها لدرجة تنفيذ كلّ ما تطلبه منه؟ النتيجة كانت أنّني ودّعتُ والدَيّ باكية لأعيشَ مع جدّتي. كيف تتخلّى أمّي عنّي هكذا؟ صحيح أنّ والدَيّ وعداني بجَلبي إليهما ريثما أكبر قليلاً، لكنّ شيئًا في داخلي قال لي إنّني باقية حيث أنا.

 

إهتمَّت جدّتي بي كما يجب، ووهبَتني كلّ الحنان الموجود لدَيها. وأعترفُ أنّني كبرتُ سعيدة معها. فهي استطاعَت أن تُنسيني أنّ الوقت يمرُّ، ولَم أرَ والدَيّ سوى مرّات قليلة حين جاءا لزيارتي وجدّتي... وأختي الصّغيرة التي تعيشُ معهما بصورة دائمة. أجل، أنجبَت أمّي بنتًا تشبهُها كما هي أرادَت، وأعطَتها حبّها ورعايتها. أمرٌ غريب، فعادةً القبيح هو الذي يُعزَل وليس الجميل، وهذا يثبتُ أنّ ليس هناك مِن معايير ثابتة للعِقَد النفسيّة.

حلِمتُ كثيرًا بأن أجتمِع بعائلتي وألعَب مع أختي، فهي كانت بالنسبة لي بمثابة لعبة صغيرة وهشّة، لكنّني كبرتُ كالغريبة في نظرهم هناك. وحده أبي كان يسأل عنّي باستمرار، ويعدُني بأنّنا سنعيشُ سويًّا قريبًا. لكن ما كان العائق أمام ذلك؟ ألَم أصبَح أكبَر ولا أحتاج إلى رعاية دقيقة كما هو الحال مع أختي الصغيرة؟ قدَّمَ لي أبي حججًا كثيرة أقنعَتني في البدء، لكن مع الوقت صارَ صعبًا عليّ تصديقها. كَم مِن الصعب على البنت أو الابن أن يُدركا أنّهما منبوذان!

مع الوقت، بدأَت حالة جدّتي الصحّيّة تسؤ، واهتمَّيتُ بها كما هي اهتمَّت بي منذ صغري، وخفتُ أن أخسرها. فإلى جانب حبّي الكبير لها، هي كانت الانسانة الوحيدة التي بقيَت لي، وتصوّرتُ حياتي مِن دونها فخفتُ كثيرًا. وأظنّ أنّ بقاءها على قَيد الحياة إلى حين صرتُ صبيّة كان جهدًا قامَت به كي لا تتركني لوحدي.

جاءَ أبي ليرى أمّه خلال فترة مرَضها، وكان لقائي به نوعًا ما باردًا، ليس لأنّه لَم يسعَد برؤيتي بل لأّنّني أبقَيتُ مسافة بيني وبينه لكثرة إمتعاضي منه. وفي المساء نفسه، هو قال لي على انفراد:

 

ـ ما بالكِ يا حبيبتي؟

 

ـ ما بالي؟!؟ كيف تسأل سؤالاً كهذا؟ ماذا تُريدُني أن أفعَل؟ أن أرمي نفسي في أحضان الذي ترَكَني أعيشُ مِن دونه؟ ماذا فعلتُ لكَ أو لكم جميعًا؟ قُل لي، ما ذنبي؟

 

ـ لا ذنب لكِ يا صغيرتي.

 

ـ لماذا إذاً أختي تعيشُ معكما وليس أنا؟ أهي أفضل منّي؟

 

ـ بل العكس. أنتِ أفضل منها، على الأقلّ مِن ناحية الشكل.

 

ـ وما دخل ذلك بما أقولُه؟

 

ـ بقاؤكِ هنا مع جدّتكِ أفضل لكِ مِن العَيش معنا، صدّقيني.

 

ـ أعذُرني لكنّني لا أُصدّقُكَ. صرتُ صبيّة وبالكاد أعرفُ أفراد عائلتي! أين حنانكما تجاهي وخوفكما عليّ؟

 

ـ جدّتكِ قامَت بعمَل رائع معكِ، وتركي لكِ معها نابع مِن يقين بحسن تربيَتها لكِ وإعطائكِ الحنان اللازم.

 

ـ لا أحد يحلُّ مكان الأم والأب! لماذا لا تُحبُّني يا أبي؟ أجِبني!

 

ـ أُحبُّكِ أكثر ممّا تتصوّرين... أُفكِّرُ بكِ ليلاً نهارًا. هدفي كان أن أُبعدكِ عن أمّكِ.

 

ـ ماذا تقصد؟

 

ـ لَم أكن أُريدُكِ أن تعرفي... حسنًا... خفتُ عليكِ منها. فإن كنتِ تذكُرين كيف كانت تُعاملُكِ أمّكِ حين كنتُ صغيرة ستفهمين قصدي.

 

ـ أذكرُ أنّها كانت دائمًا تصرخُ عليّ وتؤنّبُني... ربّما لأنّني كنتُ أُسيء التصرّف.

 

ـ لَم تفعلي أي شيء يستحقّ هذه المُعاملة، بل لطالما كنتِ طفلة هادئة ومسؤولة. لقد وصَلَ الأمر بأمّكِ لاستعمال العقاب الجسديّ معكِ، وحصَلَ أن شاهدتُ كيف أنّها كانت تفعلُ ذلك بكُره واضح.

 

ـ ولماذا تكرهُني أمّي؟!؟ ماذا فعلتُ لها؟

 

ـ لا شيء... كنتِ جميلة، وهذا كان كافيًا.

 

ـ أنا لا أُصدّقكَ يا أبي، إنّكَ تُبالغ!

 

ـ ثمّ أعربَت أمّكِ عن نيّتها التخلّص منكِ... كانت أحلام تدورُ في رأسها على مدار الساعة، فخفتُ عليكِ كثيرًا. وأنا مَن طلَبَ أن أُنقَل إلى الخارج لآخذها بعيدًا عنكِ. هناك أمِلتُ أن ترى طبيبًا نفسيًّا، إلا أنّها رفضَت إلى أن حمِلَت مُجدّدًا. خفتُ أيضًا على أختكِ منها لكنّها ولِدَت تُشبهُ أمّكِ فاطمأنَّ بالي.

 

ـ يا إلهي... لماذا لَم تطلّقها إن كانت أمّي مؤذية لهذه الدرجة؟ هل ضحَّيتَ بي يا أبي؟

 

ـ بالطبع لا، لكن بقيَ لي أمَل بأن تتحسّن حالتها وتتعلّم كيف تُحبُّكِ مِن جديد، فكلّ ولَد وبنت بحاجة إلى عاطفة الأم. إسألي جدّتكِ وهي ستؤكّد روايتي. أحبُّكِ أكثر مِمّا بإمكانكِ تصوّره.

 

أكّدَت جدّتي كلّ ما قالَه والدي وبكيتُ كثيرًا. أمّي تكرهُني فقط لأنّني جميلة على عكسها. إنّها إمرأة مريضة وخطِرة كان بإمكانها أذيّتي بشتّى الطرق، ناسيةً أنّني جزء منها لا يتجزّأ. نصحَني أبي بأن أتقبّل ما حصَلَ لي، فلا يسعُنا فهم مَن يُعانون مِن إضطرابات نفسيّة، وأن أمضي بحياتي. سهلٌ عليه أن يقولَ ذلك! فهو لدَيه عمَل في الخارج وزوجة وإبنة، أمّا أنا فلدَيّ جدّة مريضة وامتعاض مِن نبذي منذ صغري فقط لأنّني جميلة!

بعد سنة توفّيت جدّتي أثناء نومها وبكيتُها كثيرًا. وعادَ أبي لوحده ليهتمّ بأمور الإرث والبيت، وأعطاني مبلغًا كبيرًا مِن المال وتنازَلَ لي عن حصّته في البيت. توقّعتُ أن يعرضَ عليّ أن ألحَق به حيث هو، لكنّه لَم يفعَل.

وهكذا عشتُ لوحدي، ولن أشكُر كفاية جيراني الذين لَم يتركوني قط، بل صاروا بالفعل عائلتي الحقيقيّة. مِن المضحِك أن يتصرّف غرباء أفضل مِن أقرَب الناس، يا لغرابة الدنيا!

حصلتُ على شهادة جامعيّة وعلى عمَل جيّد، وحتى ذلك الحين لَم أكن أدري أنّني بالفعل جميلة وبإمكاني جذب الشبّان. لكنّني وقعتُ في الحبّ، وأنا مخطوبة الآن. إلا أنّني لن أدعو أبي أو أمّي أو أختي إلى زفافي، فهم أموات بالنسبة لي. يقولُ والدي إنّه فعَلَ ما فعلَه لأنّه يُحبّني، لكنّني أقولُ إنّه جبان وعديم المسؤوليّة وحسب، ولا عذر له. فلا أحد يترُك إبنته طوال حياتها بحجّة أنّه يخافُ عليها مِن أمّها، بل كان عليه حلّ تلك المشاكل معها حتى لو اقتضى تركها. أرجو مِن الله فقط أن أكون يومًا ما أمًّا صالحة، وأن أُحبّ أولادي كيفما كانوا، لأنّ الحبّ لا يعرفُ الشكل أو اللون.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button