بعد وفاة زوجي، شعرتُ بوحدة قاتِلة، خاصّة أنّنا لَم نُنجِب بسبب مشاكل كان يُعاني منها المرحوم. للحقيقة، كنتُ أحبُّه كفاية للعَيش لوحدي معه، فلَم نشعُر بالملَل على الاطلاق، بل عشنا سنوات سعيدة ومليئة بالفرَح والتسلية... إلى حين تفشّى في جسده ذلك المرَض الذي لا يرحَم. صارَعَ زوجي الحبيب الأوجاع وعبء الجلسات الكيمائيّة، إلى أن استسلَم جسَدَه وفارَق الحياة. بكَيتُه كثيرًا ولبستُ الأسوَد لأكثر مِن سنتَين، ثمّ تابَعتُ حياتي كأيّ أرملة مفجوعة. لحسن حظّي كان عمَلي يكفيني لأعيشَ بكرامة، فلَم أمدّ يدي لأحَد.
لَم أعُد إلى بيت أهلي كما تجري العادة عندنا عندما تفقُد امرأة زوجها، الأمر الذي خلَقَ امتعاضًا كبيرًا لدى أفراد عائلتي الذين قاطَعوني لفترة، قَبل أن يستوعبوا أخيرًا أنّني قادِرة على المُحافظة على سُمعتي والعَيش ضمن أصول تربَّيتُ عليها. أمر عجيب... مُجتمعنا يخالُ أنّ المرأة غير قادِرة على الاعتناء بنفسها مِن دون رجُل، أو أنّها ستقومُ بأمور غير شريفة بمُجرّد أنّها صارَت لوحدها! على كلّ الأحوال، لطالما كنتُ إنسانة واثِقة مِن نفسها وقادرة على تحمّل المسؤوليّة مهما كانت كبيرة. وهذا بالذات ما حمَلَ جيراني على انتخابي كرئيسة لجنة المبنى، بعد أن شاخَ الرئيس السابق ولَم يعُد قادِرًا على القيام بواجباته. عندها، قمتُ بتغييرات جذريّة لِمنفعة المبنى وسكّانه، وحوّلتُ المكان إلى جنّة يرغب الجميع العَيش فيها.
بعد أكثر مِن أربع سنوات على موت زوجي، إنتقَلَ للعيش بيننا رجُل في الأربعين مِن عمره وأمّه العجوز، واستقبلَهم الجميع بالترحاب لأنّ كامِل، هكذا كان اسمه، هو مُحام معروف، ويتمتّع بسُمعة جيّدة. لَم ألتقِ به إلى حين جاءَ موعَد اجتماعنا السنويّ الذي يضمّ السكّان كلّهم، لنتناقَش بالإنجازات التي قامَت بها اللجنة والمشاريع القادِمة التي ننوي تحقيقها. وخلال ذلك الاجتماع، قامَ كامِل ببضع تدخّلات وصفتُها بالذكيّة والصائبة، الأمر الذي حملَني على الانتباه إليه بشكل عام... وخاص. فالجدير بالذكر أنّ ذلك الرجُل كان ذا شخصيّة قويّة ووسامة واضِحة، واستغربتُ كثيرًا أنّه بقيَ عازِبًا إلى هذا الحين، فألف امرأة تتمنّاه حقًّا! كامِل، هو الآخَر، أثنى على جهودي خلال وبعد الاجتماع، حين اقترَبَ منّي وشكرَني على ما أقومُ به، طالِبًا الاذن بزيارتي وأمّه في المُستقبل القريب. أجبتُه بأنّ عليّ أنا زيارتهما كَوني المسؤولة عن المبنى وأصغَر سنًّا مِن والدته. إتّفقنا على موعد، وأعترفُ أنّني كنتُ أتطلَّع إلى ذلك الموعد بفارغ الصبر! فشيء في داخلي قالَ لي إنّ كامِل سيلعبُ دورًا مصيريًّا في حياتي. لا تُسيئوا فهمي، فلَم أنسَ زوجي، بل استوعَبتُ أخيرًا أنّه ماتَ ويحقُّ لي أن أحظى بحياة طبيعيّة في يوم مِن الأيّام.
حضّرتُ قالبًا مِن الحلوى، وقرَعتُ باب كامِل وأمّه وجلَسنا كلّنا في الصالون. دارَ الحديث في البدء حول المبنى وسَير العمَل في اللجنة، ثمّ سألَتني العجوز عن نفسي فأخبرتُها عن موت زوجي وعمَلي في الشركة. ولحظة سماعها أنّني أرملة، تغيّرَت ملامح أمّ كامِل وانغلقَت على نفسها، ولباقي وقت الزيارة أكمَلتُ الحديث مع ابنها فقط. شعرتُ بانزعاج كبير لكنّني تفهّمتُ الوضع أيضًا، لِذا عدتُ إلى شقّتي وباعتقادي أنّ ذلك المُحامي الجذّاب لن يُفكِّر بأيّ ارتباط بيني وبينه. لكنّني كنتُ مُخطئة لأنّه اتّصَلَ بي في المساء نفسه، ليُعرِبَ لي عن فرَحه بقدومي إليه، وأمّه طالبًا منّي رؤيتي مُجدّدًا! أتتصوّرون فرحَتي؟ يا إلهي، هل أنّكَ بعثتَ لي كامِل ليكون إلى جانبي، بعدما تعِبتُ مِن العَيش لوحدي والاهتمام بكلّ شيء بنفسي؟
تلاقَيتُ وكامِل بعد يومَين في مقهى جميل وتحدّثنا في أمور كثيرة، وعندما سألتُه لماذا لَم يتزوّج على الاطلاق، سكَتَ لثوانٍ قَبل أن يقول بجدّيّة:
ـ لأنّني لَم أجِد المرأة التي استحقُّها... هل أنّكِ هذه المرأة؟
للحقيقة لَم أتوقّع هذا السؤال فتلبّكتُ كثيرًا وتمتَمتُ:
ـ لا أدري... أعني ربّما... لا أعلَم...
ـ أنتِ على حقّ، أظنّ أنّني تسرّعتُ بالكلام.
ـ لا، لا!
ـ سنأخذُ وقتنا، لكن اعلَمي أنّني مُهتمّ لأمركِ... كثيرًا. أنا مُعجَب بكِ للغاية فأنتِ سيّدة جميلة وجذّابة وذكيّة.
ـ أشكرُكَ يا كامِل... هل لنا أن نعود؟
رحتُ إلى شقّتي لأدخل سريري وأبدأ بالحلم بِكامِل وحياتي المُستقبليّة معه، كما قد تفعل مُراهِقة. فلَم أتصوّر أن تكون لدَيّ هذه المشاعِر مِن جديد بعد زوجي. وللحظة شعرتُ بالذنب حياله، قَبل أن أُسكِت ضميري وأُتابِع أحلامي الزهريّة. تواعدتُ مع كامِل مرّة أخرى وأخرى وأخرى...
بعد فترة، سمِعتُ تلميحات مِن قِبَل الجيران، لأنّهم علِموا أنّ شيئًا يدورُ بيني وبين كامِل، وكانت تلك التلميحات مصبوغة بالفرَح والرِّفق لأنّهم كانوا يُحبوّني ويُريدون أن أجِد السعادة وأن أعرف يومًا طعم الأمومة. فالجدير بالذكر أنّني كنتُ لا أزال في الثلاثين مِن عمري وأستطيع الانجاب بسهولة. شكرتُ الجميع على اهتمامهم بحياتي العاطفيّة، وهم باركوا لي مُسبَقًا، الأمر الذي شجّعَني على قبول عرض كامل، إن هو أفصَحَ عنه بطريقة رسميّة.
وهكذا عشتُ قصّة حبّ لَم تكن موجودة فعليًّا لكن بصورة مُبطّنة، إلى حين سألتُ كامِل عن نواياه تجاهي بعد أن صارَ الناس يتكلّمون عن تأخّر ارتباطنا. هو أجابَني أنّ الوقت كفيل بتقرير مصيرنا، الأمر الذي لَم يُعجِبني. وأمام إصراري، إعترَفَ لي كامِل أنّ أمّه لا تُريدُني كنّة لها لأنّني أرملة، وأنّه، في نظرها على الأقلّ، يستحقّ أفضل منّي. كنتُ أشكّ بموقفها تجاهي، لكنّني لَم أتصوّر أنّها تعتبرُني أقلّ شأنًا مِن كامِل. أسِفتُ كثيرًا وطلبتُ منه أن نتوقّف عن رؤية بعضنا، فذلك على ما يبدو لن يوُدّي إلى أيّ مكان، وكنتُ أُريدُ الحفاظ على سُمعتي الجيّدة. حاوَلَ كامِل إقناعي بالعدول عن قراري، إلّا أنّني بقيتُ مُصِرّة. على كلّ الأحوال، لَم أكن أكيدة مِن أنّني أُريدُ رجُلًا يتأثّر برأي أمّه وهو في الأربعين مِن عمره. ألهذا السبب هو بقيَ عازِبًا حتّى الحين؟
لَم أعُد أرى كامِل إلّا صدفة في ردهة المبنى أو المصعد أو عند اجتماع ما للمبنى، وكنّا نلقي التحيّة على بعضنا بطريقة رسميّة. وخلال تلك الاجتماعات، لَم يعُد كامِل يُعطي رأيه أو يعرض علينا أفكارًا جديدة، بل يلتزِم الصّمت ويُحدِّق في الأرض. حزِنتُ مِن أجله، فعلى خلافه لَم ينهَزّ عالَمي، بل أسِفتُ فقط على عدَم نجاح تلك العلاقة وتحقيق أحلامي.
مضَت سنة على هذا النحو قَبل أن أتلقّى اتّصالًا مِن أمّ كامِل أدهشَني، فهي طلبَت منّي أن أزورَها لتتكلّم معي. لكن في هذه المرّة قلتُ لها: "تفضّلي وزوريني أنتِ يا سيّدتي، فأنا موجودة في شقّتي في المساء على الدوام". فمَن تظنّ نفسها لتطلبَني إليها حين تشاء؟
جاءَت أمّ كامِل وعلى وجهها علامات انزعاج، وكأنّها لَم تكن تُريدُ رؤيتي على الاطلاق. جلَسنا في الصالون وقدّمتُ لها كوبًا مِن العصير وبعض الحلوى، ثمّ هي أخذَت نفَسًا عميقًا وقالَت:
ـ إبني يُريدُكِ زوجةً له وهذه حياته... وقد تكونين إنسانة جيّدة.
ـ قد أكون؟!؟ أنا بالفعل إنسانة جيّدة! وكَوني أرملة ليس ذنبي على الاطلاق!
ـ أجل، أجل... ليس ذنبكِ.
ـ ماذا جئتِ لتقولي لي؟
ـ جئتُ أقولُ لكِ إنّ إبني يطلُب يدَكِ.
شعرتُ أنّ تلك المرأة كادَت أن تختنِق لدى قولها تلك الكلمات، لأنّها على ما يبدو لَم تكن أبدًا موافِقة على زواج ابنها منّي. إبتسَمتُ لِما اعتبَرتُه انتصارًا وقلتُ لها: "سأُفكِّر بالأمر".
والغريب في الأمر أنّني لَم أسمَع مِن كامِل أيّ شيء بهذا الخصوص، فتساءَلتُ إن كنتُ بالفعل أرغَب في هكذا شخص في حياتي. إلّا أنّ الأوضاع تغيّرَت حين هو اتّصَلَ بي طالِبًا جوابًا صريحًا منّي، مُضيفًا أنّ أمّه راضية تمامًا على زواجنا. تمَّت الخطوبة وهنّأني كافّة الجيران والأصدقاء والأقارب، بمَن فيهم أهل زوجي المرحوم الذين اعترفوا بحقّي في حياة عاطفيّة وعائليّة، ومَن يدري، الانجاب أيضًا. إتّفقتُ مع كامِل أن يعيشَ معي في شقّتي وتبقى أمّه لوحدها في شقّتها، لأنّني وبكلّ بساطة، لَم أتصوّر نفسي أعيشُ معها.
كنتُ سعيدة، لكنّ شيئًا ما كان يزعجُني، أيّ أنّ فرَحتي لَم تكن مُطلَقة، إلّا أنّني أزَحتُ عن بالي وقلبي ذلك الشعور وبدأتُ أُخطِّط للفرَح.
لكن بعد أسابيع قليلة، قالَ لي خطيبي:
ـ أظنّ أنّ عليكِ التنازل لي عن رئاسة مجلس المبنى.
ـ ولِما أفعَل ذلك؟
ـ لأنّني سأكون زوجكِ قريبًا.
ـ وما دخل هذا بذلك؟ هل لأّنّني امرأة وعليّ محو نفسي بوجودكَ؟!؟
ـ لا، أبدًا... لكن...
ـ على كلّ الأحوال، لقد تمّ انتخابي مِن قِبَل الجيران كافّة، فلَم أُنصِّب نفسي!
بعد ذلك، لَم يُثِر كامِل الموضوع مُجدّدًا... بل بدأ بالعمَل لِيترأس اللجنة سرّيًّا. فهو صارَ لدَيه علاقات جيّدة مع الجيران ويزورُهم مع أو بدون أمّه، ويُطلِعهم على خطط تحسين يُريد أن يراها تتحقّق في المبنى. صوَّرَ لهم أشياء كثيرة غير واقعيّة، وصدّقوه.
ويوم انتخاب الرئيس أو الرئيسة... فازَ كامِل عليّ! نظرتُ إليه باندهاش وهو ابتسَمَ لي بينما أدارَ جيراني نظرهم خجَلًا منّي. بعد الاجتماع، لَم أقلّ لخطيبي شيئًا كَي لا أفتعِل مشكلًا، بل هو قال:
ـ بالفعل، يُنتخَب الرئيس ولا يُنَصَّب!
سكتُّ لكنّني حفظتُ في رأسي ما جرى وتحضّرتُ لِما سيأتي.
يتبع...