عرضٌ وطلَب

نظرتُ إلى أبي مُستفسِرةً حين رأيتُ "خطيبته" واقفة إلى جانبه، وهو أدارَ وجهه ثمّ بدأَ يسألُني عن أولادي وصحّتهم. صحيح أنّني كنتُ أتمنّى له أن يجِدَ لنفسه رفيقة بعد أن عاشَ سنوات لوحده مذ ماتَت أمّي، لكن ليس تلك المرأة! فالتي اسمها رُلى كانت بالكاد أكبر منّي! إضافة إلى ذلك، طريقة لبسها وتبرّجها ونظراتها المُتشاوِفة لَم تكن أبدًا ما توقّعتُه مِن التي ستتزوّج أبي. جلَسنا حول مائدة الطعام وتفاجأتُ بوالدي يهتمّ برُلى وكأنّها طفلة صغيرة، ولولا وجودنا معه، أنا مُتأكّدة مِن أنّه كان سيُطعمها بِيَده! وضَعَ زوجي يدَه على رجلي ليقولَ لي بأن أهدأ وألا أتدخّل، لأنّه رأى ما رأيتُه ورأى أيضًا مدى إستيائي. ثمّ هَمَسَ لي حين دخَلنا المطبخ لوضع الأطباق الوسِخة:

 

ـ لا دخلَ لنا بحياة أبيكِ.

 

ـ بلى! إنّها غير مُناسِبة له!

 

ـ هو أحبَّها ويراها مُناسِبة. دعكِ منهما وادعِ لهما بالتوفيق.

 

ـ أبدًا! هذا أبي ولا أُريدُه أن يتأذّى، فتلك المخلوقة لا تُريدُ سوى ماله.

 

ـ وما أدراكِ؟ الكثير مِن النساء تُحِبّ الرجال الأكبر سنًّا.

 

ـ أكبر سنًّا؟!؟ إنّه بسنّ أبيها! رحمكِ الله يا أمّي... أنا مُتأكّدة مِن أنّها تتقلّب في قبرها الآن! ألا يخجَل مِن نفسه؟!؟

 

ـ ولِما يخجَل، فهو سيتزوّجها بالحلال.

 

ـ أنتَ تعلَم ما أقصد. سيندمُ والدي كثيرًا لو تزوّجها، فهي حتمًا ستخونه مع شابّ مِن عمرها، أو تنتظر موته لترِثه وتبدأ حياتها مِن جديد. فهو يُعاني مِن أمراض كثيرة.

 

ـ إذًا دعيه ينعَم بحبّ صبيّة في ما تبقّى له مِن حياة.

 

ـ أنتم الرجال تلتفّون حول بعضكم في هكذا أمور. هل أنتَ أيضًا ستحِبّ هكذا إنسانة في حال أنا مُتَّ؟!؟

 

ـ لا لزوم لهذا الكلام الآن. دعينا نعودُ إلى الداخل ونجلس معهما.

 

ـ لَم تُجِبني لكنّني حصلتُ على جوابي.

 

غادر أبي مع رُلى بعد نصف ساعة مِن دون أن يتسنّى لي التكلّم معه. على كلّ الأحوال لَم أكن لأدَعه يمضي بزواجه مِن دون أن أعطيه رأيي... وبصراحة!

لكن قَبل ذلك كان عليّ أن أتقصّى عن تلك الوصوليّة، فكنتُ أعرفُ اسمها والمنطقة التي تسكنُ فيها. الأمرُ كان سهلاً، فأوصاف رُلى كانت مُميّزة، وتبيّنَ لي أنّ الكثير يعرفُها خاصّة مِن خلال علاقتها بوالدي. فحديث الجميع دارَ حول فارق السنّ بينهما والاحتمالات العديدة لهكذا زواج. فكان مِن الواضح أنّ الرأي العام يُفكّرُ مثلي، أيّ أنّها تُريدُ أن تحصل على حياة مُريحة وأنّ ترِثه حين يموت. صحيح أنّه لَم يكن ثريًّا لكنّ راتبه التقاعديّ والبيت وقِطع مِن الأرض كانت كافية لتُنتشلها مِن الفقر التي هي فيه. فالواقع أنّ رُلى مِن عائلة مُتواضعة جدًّا وكبيرة وتعمل في مصنع للأحذية. وفرصتها الوحيدة كانت البحث عبر الانترنِت عن رجُل يهوى شبابها ودلالها، والله وحده يعلمُ كيف هي استغلَّت محاسنها لإقناع أبي بها! لكنّني أستطيع التكّهن بأنّها تخطَّت معه حدود الأخلاق... السافلة!

وبعد أن جمعتُ كلّ تلك المعلومات، رحتُ إلى ذلك المصنع وانتظرتُ رُلى عند المدخل بعد انتهاء الدوام. لَم أقُل شيئًا لزوجي طبعًا، فلقد لمستُ لدَيه اصطفافه إلى جانب والدي، فالرجال لا يرون أيّ خطب في إقامة هكذا علاقة. أمّا أنا، فلَم أكن لأقبَل أن تأخذ تلك المرأة مكان أمّي الحبيبة... آه لو تعرفون والدتي، هي كانت رمز الأخلاق والعفّة والتفاني! كيف يُفكّرُ والدي لثانية بِجَلب رُلى إلى البيت والنوم يومًا إلى جانبها حيث نامَت زوجته السابقة؟!؟

خرجَت رُلى مِن المصنع ورأتني واقفة أمامها وعلِمَت على الفور سبب وجودي. فقلتُ لها:

 

ـ لماذا أنتِ مع أبي؟ مِن أجل المال؟

 

ـ ما هذا السؤال؟!؟

 

ـ أجيبي مِن فضلكِ.

 

ـ بالطبع لا! فأنا أحبُّه.

 

ـ كلانا نعلَم أنّ ذلك ليس صحيحًا. إعترفي بالحقيقة.

 

ـ أقولُ لكِ إنّني أحبُّه!

 

ـ أستطيع مُساعدتكِ لو تخلَّيتِ عن فكرة الزواج منه. كَم تُريدين؟ أعطِني رقمًا.

 

ـ ظننتُكِ تُحبّين والدكِ وتُريدين رؤيته سعيدًا، فهو سعيد معي.

 

ـ إلى متى؟ إلى حين تُدركين أنّ الحياة مع رجُل مُسنّ هي بمثابة سجن ومقبرة لكِ فتبحثين عن شابّ من سنّكِ؟ كوني واقعيّة أرجوكِ.

 

ـ أبوكِ رجُل شابّ مِن الداخل ونمضي أوقاتًا سعيدة ومرِحة سويًّا. وهو يُشعرُني بالأمان والحبّ. لا تُتعِبي نفسكِ، فلن أُغيّر رأيي به.

 

ـ هكذا إذًا... ربمّا عليّ إيجاد طريقة أخرى لإبعادكِ عنه.

 

ـ لماذا تفعلين هذا؟ تخافين على ماله؟ أنت تعمَلين وزوجكِ ومنزلكما جميل، ماذا تُريدين أكثر مِن ذلك؟

 

ـ أُريدُ أن أُجنِّبَ أبي التعاسة حين يُدركُ حقيقتكِ وتتركينَه، فصحّته ليست جيّدة... تعلمين ذلك حتمًا.

 

ـ أجل، أعرفُ حالته الصحّيّة وهو يهتمّ بها مِن أجلي.

 

ـ لن أدعَكِ تُحطّمين قلبه!

 

ـ وماذا تفعلين الآن سوى تحطيم قلبه بإبعادي عنه؟

 

ـ الآن أفضل مِن لاحقًا، فهو ليس معتادًا عليكِ كثيرًا.

 

ـ لماذا تتصرّفين وكأنّكِ أمّه وليس ابنته؟ ما شأنكِ به؟ فلدَيكِ حياتكِ الخاصّة. ألا تثقين به وبقراراته؟ هل تعتبرينَه خرِفًا؟

 

ـ لا طبعًا ولكن...

 

ـ لن أقولَ له إنّكِ جئتِ إلى هنا وما دارَ بيننا مِن حديث، ليس مِن أجلكِ لكن مِن أجله، فلا يجب أن يشعُر بالتعاسة أبدًا. الوداع.

 

ـ لَم أنتهِ منكِ بعد. سترَين!

 

عدتُ إلى البيت غاضبة إلى أقصى درجة، وبدأتُ أصرخُ في أولادي وزوجي مِن دون سبب، ثمّ حبستُ نفسي في الغرفة لأبكي على سجيّتي. لماذا مُتِّ يا أمّي؟!؟

بعد يومَين، قرّرتُ مُفاتحة أبي بموضوع رُلى بمُنتهى الصراحة. فضميري لن يسمَحَ لي بأن أخفي عنه ما يدورُ في رأسي.

فتَحَ لي والدي بابه ولَم أستطِع تجاهل الفرَح الموجود في عَينَيه، وهو فرَحٌ لَم أرَه منذ زمَن بعيد، أيّ منذ كانت أمّي على قَيد الحياة. جلَسنا سويًّا على الشرفة وقدَّمَ لي قطعة حلوى لذيذة للغاية كدتُ أبصقها حين علِمتُ أنّها مِن تحضير رُلى. عادَ إليّ الغضب، مع أنّني كنتُ قد وعدتُ نفسي بأن أبقى هادئة حين أتكلّم مع أبي. وقَبل أن أقول أيّ شيء، قامَ والدي مِن مكانه ودخَلَ البيت ثمّ عادَ ومعه البومًا مِن الصوَر وجلَسَ بالقرب منّي:

 

ـ أتذكرين هذه الصوَر؟ أنظري هنا، كان عمركِ خمس سنوات... وفي هذه الصورة كنّا جميعًا في مدينة الملاهي، إنّه يومٌ لا يُنتسى لأنّكِ خفتِ كثيرًا حين ركبتِ القطار السريع وبدأتِ بالبكاء. حملتُكِ وحضنتُكِ بقوّة حتّى هدأتِ... قولي لي... مَن سيحضُنني بدوري؟

 

ـ أنا!

 

ـ أنتِ لدَيكِ عائلتكِ وأنتِ مسؤولة عنها وهي تأتي أوّلاً. هذه سنّة الحياة.

 

ـ لكن...

 

ـ أعيشُ لوحدي منذ سنوات وقد أُصاب بدوار أو أزمة وأقَع أرضًا فاقِد الوعي مِن دون أن يدري أحدٌ بي.

 

ـ تعال وعِش معنا.

 

ـ هذا بيتي وهناك بيتكِ، لكلّ منّا مكانه وحياته وذكرياته. لَم أنسَ أمّكِ ولن أنساها أبدًا، ولا أحد يُمكنُه أخذ مكانها في قلبي. لكنّ قلب الانسان واسِع وشاسِع، وبإمكانه أن يتّسِع لعدد لا يُحصى مِن الناس. أحبُّ رُلى لأنّها تُعطيني فرَحًا خلتُه اختفى إلى الأبد. إسمعي... الحياة هي مسألة عرض وطلَب. آخذُ ما أحتاجُ إليه مِن رُلى وهي تأخذ ما تحتاجه منّي، وكلانا رابحان. لَم يتبقَ لي الكثير حسب قول الأطبّاء، وأنوي عَيش تلك الفترة بسعادة وراحة البال. لا تُعكِّري عليّ باقي حياتي، أرجوكِ يا إبنتي، بل قِفي إلى جانبي وافرحي لي. أنتِ لستِ بحاجة إلى مالي وسترِثين على كلّ الأحوال حصّتكِ الشرعيّة بعد مماتي.

 

ـ لا أُريدُكَ أن تتأذّى!

 

ـ ليس لدَيّ الوقت لأتأذّى، صدّقيني. لا تُخيّريني بينكِ وبين رُلى لأنّني سأختارُكِ حتمًا، لكنّني سأكون تعيسًا. أهذا ما تُريدينَه لي؟ كنتُ أبًا صالحًا لكِ وأعطِيتُكِ أقصى ما لدَيّ لإسعادكِ... هل طلَبي السعادة كثير عليّ؟

 

ـ بالطبع لا، فأنتَ تستحقّ الأفضل لأنّكَ أفضَل أب. هنيئًا لكَ يا بابا وإن احتجَت إليّ في أيّ وقتٍ كان، سأكون موجودة مِن أجلكَ.

 

تزوّجَ أبي مِن رُلى وتعلّمتُ كيف أتقبَّل الوضع وكيف أتعرّف إلى تلك المرأة أكثر. رأيتُ كيف هي اهتمَّت به وحضنَته وأسعدَته، وأستطيع حتى الآن سماع ضحكته العالية ورؤية عَينَيه السعيدتَين.

ماتَ والدي بعد خمس سنوات مِن زواجه، وأستطيع القول إنّه ماتَ سعيدًا في أحضان زوجته وليس وحيدًا. أعطَيتُ رُلى إحدى حصَصي في الأرض عربونًا لامتناني لِما فعلَته، لكنّها رفضَت قائلة:" أحبَبتُه حقًّا، صدّقيني".

لا أزال على اتّصال مع رُلى ونتقابل على الدوام، فهي صارَت جزءًا مِن العائلة حتى بعد رحيل والدي. وأُساعدُها على التحضير لزواجها الثاني، فيحقّ لها أن تبنيَ حياتها مِن جديد بعد أن قامَت بواجباتها مع أبي ولَم تخفَق بها قط. ففي آخِر المطاف، وكما قال والدي، الحياة هي مسألة عرض وطلَب.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button