عدوى مُباركة!

هل مِن المعقول أنّ يحمدَ أحدٌ ربّه لإصابته بالكورونا؟ أنا فعَلت! ومع أنّني لا أزال حتى اليوم أُعاني مِن ذيول ذلك الفايروس اللعين، إلا أنّني لا أتذمَّر على الاطلاق، وكي تفهموا سبب موقفي هذا، عليكم قراءة قصّتي:

كنّا قد مكَثنا جميعًا في البيت يوم انتشار وباء الكورونا أو الكوفيد 19، ولَم نتصوّر أنّ الأمر سيطولُ وسيُغيّرُ نمَط حياتنا إلى هذا الحدّ. جميع الدوَل أخذَت احتياطاتها، والأعمال صارَت تتمّ عبر الانترنِت وباتَ الخروج مِن البيت ممنوعًا بتاتًا. كلّ ذلك خلَقَ في أنفسنا خوفًا وامتعاضًا وغضبًا ومللاً، مشاعِر كثيرة في آن واحد. ولكلّ تلك الاسباب، بدأتُ أتشاجَر مع زوجتي، خاصّة أنّنا لَم نتواجَد يومًا مع بعضنا على مدار الساعة وكلّ أيّام الأسبوع. الكثيرون عانوا مِن ذلك التقارُب، أعلَم ذلك، لكن مَن منهم مرَّ بالذي مرَرتُ به؟

إلتجأنا كمعظم الناس إلى الانترنِت، سلوَتنا الوحيدة، وكنتُ وزوجتي رنيم وابني المُراهق نجلسُ في الصالون لساعات على هواتفنا، مِن دون أن نلفُظَ كلمة واحدة أو نترُك مكاننا إلا لتناول الوجبات أو الذهاب إلى النوم. إنعدمَت حياتنا العائليّة وانقطَعَ التواصل بيننا. أظنّ أنّ الأمور بدأَت تسوء في تلك المرحلة بالذات وأخذَت مُنعطفًا خطيرًا للغاية.

بعد أشهر، صارَت الحياة أكثر مرونة، فباتَ مسموحًا لنا الخروج قليلاً وبإذن خاص، لكنّنا بقينا على حذرنا، فكنتُ الوحيد بين أفراد عائلتي الذي كان يتنقّل وذلك لِحصر فرَص العدوى. لكن كيف لرنيم أن تُصاب بالكورونا بينما هي لَم تكن تخرجُ قط؟ إصابتها كانت مِن دون عوارض، لِذا لَم نحترِس منها والتقطتُّ الفايروس لأنّني كنتُ أنام معها في السرير نفسه ليلاً. وحين بدأتُ أشعرُ بالتوعّك، علِمتُ على الفور أنّني مُصاب وأجبرتُ أفراد عائلتي على إجراء الفحص. ولَدي كان سليمًا، إلا أنّ زوجتي كانت تحملُ مُضادّات المرَض أو على الأقل ما تبقّى منها بعد ما كانت قد شفيَت. سألتُها إن كان قد زارَ بيتنا أحدٌ مِن أصدقائها أو أقاربها أو جيراننا، إلا أنّها أجابَت بالنَفي وأكّدَ ابني روايتها. غريب هذا الأمر! ربّما كان الكورونا ينتقّل في الهواء كما قال البعض قَبل أن ينفيَ العلماء تلك الإشاعة. خجلتُ مِن نفسي لكثرة طرحي الأسئلة على رنيم وابني اللذَين وجداني سخيفًا، فتوقّفتُ عن البحث ونسيتُ على مرّ الأيّام الموضوع مُركِّزًا على عمَلي الذي تأثَّرَ كثيرًا بسبب الجائحة، كسائر الأعمال. وكان هدَفي الأوّل هو جَني المال مِن جديد لدفع أقساط ولَدي بالمدرسة، حتى ولو كان لا يزال يُتابع دروسه بالمُراسلة عبر تطبيق "زوم". إلا انّ أحَد جيراننا قال لي يومًا حين التقيتُه في المرآب:

 

ـ أتمنّى لو تنتهي تلك المسألة، أعني الوباء.

 

ـ أنا أيضًا... مِن حسن حظّنا أنّهم أعدّوا لقاحًا. على كلّ الأحوال، لقد أصِبتُ وزوجتي بالكورونا وصارَ لدَينا مناعة مِن المرَض.

 

ـ أنتَ الذي مرّرتَ الفايروس لزوجتكَ، أليس كذلك؟ أراكَ تذهب وتعود ولا تلبسُ القناع دائمًا. عليكَ أن تكون أكثر مسؤوليّة!

 

ـ لمعلوماتكَ يا جاري، زوجتي هي التي نقلَت إليّ الفايروس وليس أنا... مع أنّها لا تخرج أبدًا. قد يكون الوباء ينتقّل في الهواء.

 

ـ أو أخوكَ هو الذي جلَبَ معه المرض إلى بيتكَ.

 

ـ أخي؟

 

ـ أجل، فلقد رأيتُه يدخل مسكنكَ مرّات عديدة.

 

ـ أخي؟

 

ـ ما بكَ؟ أجل أخوكَ، هو قال لي في إحدى المرّات إنّه أخوكَ ويأتي للاطمئنان على عائلتكَ بناءً على طلبكَ.

 

ـ أجل، أجل... لقد نسيتُ الأمر! طابَ نهاركَ!

 

أسرعتُ بالتخلّص مِن ذلك الجار الفضوليّ ليتسنّى لي تحليل ما قالَه لي. أخي؟ لكن ليس لدَيّ أخ! بل لدَي ثلاث أخوات بنات وأنا الولَد الوحيد بينهنّ! مَن كان ذلك الزائر الذي وطأَت رِجله بيتي مرّات عديدة أثناء غيابي، ولماذا لَم يقُل لي أحدٌ شيئًا عنه؟!؟

عدتُ أدراجي وفتحتُ باب مسكني الهادئ، فكان الوقت لا يزال باكرًا ولا يزال الجميع نيامًا. أعدَدتُ لنفسي فنجانًا مِن القهوة وخابَرتُ الشركة لأقولَ لهم إنّني سأعملُ مِن البيت، وإنتظرتُ أن تصحى رنيم لأسألها عن تلك المسألة الغريبة. لَم أكن مُطمئنًّا على الاطلاق، فكنتُ أعلَم ما يعني أن يدخل رجلٌ غريب بيتي بعد رحيلي إلى عملي. صحَت زوجتي وتفاجأَت بي في البيت. قلتُ لها:

 

ـ مَن ذلك الذي يزورُكِ في بيتي؟

 

ـ عمَّن تتكلّم يا حبيبي؟

 

ـ لا تُناديني حبيبي! تستقبلين رجُلاً في غيابي؟!؟ هل هو مَن مرَّرَ لكِ العدوى؟ قبّلتِه كثيرًا، أليس كذلك؟ وفعلتِ معه أشياءً أخرى أيضًا! وكلّ ذلك أثناء وجود ولَدنا في البيت؟ أيّ صنف مِن البشَر أنتِ؟!؟

 

ـ لا أسمحُ لكَ! أنا زوجة شريفة! لا أعلَم عمّا تتكلّم لكنّني مُتأكّدة مِن أنّ هناك لغطًا ما!

 

ـ سأسألَ ابننا!

 

ـ هل جننتَ؟!؟

 

نادَيتُ ولَدي الذي جاء إلى الصالون بلِباس النوم وهو لا يزال نعِسًا. سألتُه إن كان قد زارَنا أحدٌ بعدما أذهَبُ إلى العمَل وهو أجابَ بالنفي. ثمّ قال لي مُستاءً:

 

ـ ما بالكَ تسأل السؤال نفسه منذ مُدّة؟ قُلنا لكَ إنّ لا أحدًا جاءَ دارَنا! ألهذا السبب أيقظتَني؟!؟

 

وقَبل أن يعودَ ابني إلى غرفته ، سمعتُ نقرًا خفيفًا على الباب. ركضتُ أفتَح إلا أنّني لَم أجِد أحدًا بل سمعتُ صوت أقدام على السلالم. رحتُ على الفور إلى الشبّاك الذي يطلّ على الطريق، ورأيتُ رجُلاً يمشي بسرعة باتجاه سيّارة رَكِبَ فيها وانطلَقَ. أمسَكتُ رنيم بذراعها وشدَدتُ عليه بقوّة صارخًا:

 

ـ أهذا هو؟ أجيبي!

 

ـ أتركني أيّها الوحش! قال لكَ ابننا إنّ لا أحد يأتي إلى هنا! وهل تظنّ أنّني مجنونة لِدرجة جَلب عشيقٍ حين لا يكون البيت فارغًا؟ لقد فقدتَ عقلكَ! قُل لي، مِن أين جئتَ بتلك الفكرة المجنونة؟

 

ـ جارنا في الطابق السفليّ أخبرَني عن زائركِ.

 

ـ وأنتَ صدّقتَه؟ ألا تعرفُني جيّدًا؟ هل حدَثَ أن تصرّفتُ يومًا بشكل مشبوه؟ هل تراني أتبرّج وأهتمّ بشكلي لجذب الرجال؟

 

ـ للحقيقة لا.

 

ـ إذًا إستعمِل عقلكَ! لا بدّ أنّ ذلك الزائر قال للجار إنّه آتٍ إلى هنا للتغطية على الناس الذين يزورُهم فعليًّا.

 

ـ لَم أُفكِّر بذلك.

 

مرَّت الأيّام والأسابيع والأشهر وبدأنا نعودُ إلى حياة طبيعيّة بعد أن خفَّت وطأة الفايروس. فتحَت الأعمال والمدارس أبوابها، ونسيتُ أمر الزائر، واعتذرتُ لرنيم مئة مرّة إلى أن سامحَتني أخيرًا. وكنتُ سأُكمِل حياتي بشكل عاديّ، لولا أن رأيتُ ابني راكبًا في سيّارة إلى جانب رجُل لا أعرفه... بل أعرفُ فقط سيّارته. كنتُ في أسفل مبنى الشركة أشربُ سيجارة حين هما مرّا أمامي مِن دون أن يرياني. ماذا يفعلُ ابني مع الرجُل الذي نزِلَ سلالم المبنى بسرعة وركضَ إلى سيّارته في ذلك اليوم؟ ولماذا إبني ليس في مدرسته؟ ماذا يجري؟!؟

أخذتُ سيّارتي وقدتُها إلى أمام مدرسة ابني بعدما تأكّدتُ مِن أنّه ليس مريضًا في البيت، أو بالأحرى يدّعي المرَض. وعند خروج الطلّاب، رأيتُه يتجّه نحو البوابة فنادَيتُه وركِبَ معي. وصَلنا إلى البيت، لكنّني ركَنتُ السيّارة في المرآب ونظرتُ إليه بجدّيّة تامّة قائلاً:

 

ـ إيّاكَ أن تستغبيني يومًا، فلستَ جديرًا بأن تتغلّب عليّ لا فكريًّا ولا جسديًّا... لن تفوزَ وستخسر الكثير، صدّقني! هيّا، قُل لي مَن هو الرجُل الذي رأيتُكَ معه اليوم راكبًا سيّارته. تكلّم وإلا!

 

ـ إنّه أستاذي! أقسمُ لكَ يا بابا! هو أخذَني معه لنشتري هاتفًا جديدًا.

 

ـ آه، ولماذا يشتري لكَ أستاذكَ هاتفًا؟ سأصفعُكَ بقوّة لا تتصوّرها مُمكِنة، تكلّم!!!

 

ـ لأنّ... لأنّني... لأنّه... أعني... لأنّني أحفظُ سرّه.

 

ـ سرّه وأمّكَ؟

 

ـ أجل... هما تعرّفا إلى بعضهما حين كان يُعطينا دروسًا عبر الانترنِت. وعلى مرّ الأيّام، بدآ يتكلّمان مع بعضهما بعد أن يُقفِل باقي التلاميذ الخطّ... ثمّ هو صارَ يأتي لتعزيز الدروس.

 

ـ يأتي إلى البيت؟

 

ـ أجل... ويبقى مع الماما... في الغرفة.

 

ـ لماذا لَم أعرِف بالأمر؟!؟

 

ـ لأنّه وعدَنا بأنّ علاماتي ستكون جيّدة على الدوام، وأنّه سيشتري لي ولأمّي كلّ ما نُريدُه.

 

ـ وهل أنقَصتُ عليكَ شيئًا يومًا؟!؟ بِعتَني مِن أجل هواتف خليويّة وعلامات مدرسيّة؟!؟

 

ـ سامحني يا بابا!

 

كانت عائلتي قد خانَتني بِمِكر. ماذا فعلتُه أو لَم أفعله لأستحقّ هكذا خيانة؟!؟ رحتُ البيت وجمعتُ أمتعتي، وقلتُ لِرنيم إنّها تستطيع الاحتفاظ بالمُدرِّس إلا أنّني سآخذُ منها إبننا. فكيف أتركُه معها لتُربّيه على الكذب والغشّ وقبول الخيانة؟

بدأتُ معاملات الطلاق، لكنّ موضوع الحضانة كان دقيقًا للغاية إذ ليس لدَيّ دليل على الخيانة الزوجيّة، وولَدي لا يُريدُ الإدلاء بشهادته ضدّ أمّه. لا أزالُ أُناضِل مِن أجل إنقاذه ولا أعرفُ ماذا سيحصل. ليكُن الله بِعَوني!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button