عادَت أمي إلينا بعد عشرين سنة

لماذا إختارَت أمّي أن تعود في ذلك الحين؟ لم يكن لديّ جواب على هذا السؤال، خاصة أنّني لم أكن قد رأيتُها منذ أكثر مِن عشرين سنة. كنتُ في الخامسة من عمري عندما قرّرَت والدتي أن ترحل وتكمل حياتها في مكان آخر. تركَت وراءها بنتين وزوج، دون أن تنظر حتى خلفها. عملنا جهدنا لتدبير أمورنا بمساعدة جدّتي وعمّتي التي لم تتزوّج لتعتني بنا. قضى أبي وقته بالعمل ولم يجرؤ على الإقتران بإمرأة أخرى خوفاً من أن تتركه أو أن تسيء معاملتنا. ومع الوقت تخطيّنا تلك المرحلة الصعبة وبات لنا حياة طبيعيّة مِن كل النواحي. وفي ذات نهار جاء والدي إلى غرفتنا وقال لنا من دون مقدّمة:

- نوال... أعني أمّكما، إتصلت بي البارحة... عادَت من فرنسا وهي في البلد الآن وتريد رؤيتنا جميعاً.

نظرتُ إليه بدهشة وسألتُه:

- وماذا قلتَ لها؟

- قلتُ لها أنّني سأستشيركنّ.

بدأت شقيقتي بالبكاء، أمّا أنا فإمتلأ قلبي بالغضب وصرختُ:

- كان عليكَ إقفال الخط بوجهها! يا للوقحة! هل تظنّ أنّ بإستطاعتها العودة هكذا بكل بساطة بعد عشرين سنة؟ تعود بعدما كبرنا ولم يعد عليها الإعتناء بنا؟

- إسمعي... دعينا نسمح لها بالمجيء وسنرى ماذا تريد.

- لطالما كان قلبكَ ضعيف فيما يخصّها... تركتكَ! ما بالكَ؟ هل أنا الوحيدة التي تعي ما فعلته تلك المرأة بنا؟ لا أريد أن أراها!

وخرجتُ من الغرفة وأنا أغلي من الغضب والكره، لأنّني لم أنسى العذاب النفسي والإجتماعي الذي مرّيتُ به. فإلى جانب شعوري الدائم بأنّ التي أنجبَتني تخلّت عنّي، كانت هناك نظرة الناس إليّ كطفلة تكبر بلا أمّ يشفق عليها الجميع. بالرغم من كل هذا، إستطعتُ شقّ طريقي والوصول إلى حياة أفتخر بها. ولكن شقيقتي كانت مِن رأي آخر. صحيح أنّها تكبرني بثلاث سنوات ولكنّها كانت تستشيرني دائم، على عكس هذه المرّة، كانت تودّ رؤية أمّنا، ربما لأنّها كانت تتذكّرها أكثر منّي وتحنّ إلى الماضي السعيد. وعملَت جهدها لتُغيّرَ رأيي ولكنّها لم تنجح. عندها أخبرَتني أنّها ستقابلها مِن دوني. شعرتُ حينها أنّها تخونني، لأنّنا إجتزنا كل الصعوبات سويّاً ولم يفرّق شيئ أو أحد بيننا. فقررتُ أن ألجأ إلى التي حلّت مكان أمّي أي عمّتي العزيزة. أخذتُ بعض الأمتعة وذهبتُ أقضي بضعة أيّام عندها في الجبل. كنتُ أكيدة أنّني سأجد فيها حليفاً قوياً سيساعدني على منع أبي وأختي من رؤية والدتي. إستقبلَتني عمّتي بأذرع مفتوحة لأنّني كنتُ دائماً المفضّلة لديها. وبعد أن وضعتُ حقيبتي في الغرفة المخصّصة لي، جلسنا سويّاً في الصالون. كان المنزل فارغاً مِن دون جدّتي التي توفيَت قبل سنين قليلة وإمتلأت عيوني بالدموع عند ذكرها. عرضتُ على عمّتي مشكلتي فأجابَت:

- كنتُ على علم بعودتها... أخبرَني أبوكِ أنّها كلّمته عبر الهاتف...

- وماذا قلتِ له؟

- لا شيء... هذا ليس مِن شأني.

- بلى... لأنّكِ كرسّتِ حياتكِ مِن أجل تربيتنا... لولاها لكان لكِ عائلة... كلّ هذا بسببها! أريدكِ أن تساعديني... لا أريد أن تظنّ تلك المرأة أنّ بإمكأنّها محو سنيناً بلحظة واحدة.

- لا تقحميني بهذه المسألة أرجوكِ

- لا أفهمكِ! لا أفهم أبي ولا أختي! لا أفهم لماذا أنا الوحيدة التي تريد أن تحاسب والدتي على تركنا؟ هل أنا شريرة إلى هذا الحدّ؟ لا أظنّ ذلك، بل أنا عادلة! سنتحدّث بالموضوع غداً ربّما أنتِ متعبة الآن.

- لن أغيّر رأيي يا حبيبتي... هذه الأمور لا تعنيني.

وفي اليوم الثاني، عاودتُ المحاولة وكذلك في اليوم الثالث ولكن مِن دون جدوى. ثمّ جمّعتُ أمتعتي وعدتُ خائبة الأمل إلى المنزل. وبما أنّني لم أستطع التأثير على الباقين، قررتُ أنّني سأكون الوحيدة التي لن تقابل والدتي. وعندما جاء موعد اللقاء، خرجتُ من البيت في الصباح الباكر ورحتُ أقضي النهار كلّه عند صديقة لي ولم أعد إلّا في وقت متأخر جداً لأكون أكيدة أنّ أمّي قد رحلَت. وحين دخلتُ المنزل وجدتُ أبي وأختي في الصالون يشاهدون التلفاز. ألقيتُ التحيّة عليهما وتوجّهتُ إلى الغرفة لأنام. لم أكن أريد أن أعلم بالذي حصل وكان ذلك واضحاً. ولكن حين دخلتُ الغرفة وجدتُ إمرأة نائمة في سريري. وبالرغم أنّني لا أتذكّرها، علمتُ فوراً أنّها أمّي. شعرتُ بغضب شديد ينتابني وركضتُ إليها ونزعتُ عنها الشرشف التي كانت قد إلتفَّت به وصرختُ لها:

- يا لوقاحتكِ! جئتِ تنامين في سريري!

وإستفاقَت مِن نومها ونظرَت إليّ وأدركتُ فوراً أنّها مريضة، فما رأيته كان بالفعل محزن: كانت شديدة الضعف ولونها شاحب والسواد تحت عينيها كان مخيفاً. سكتتُ وإمتلأت عيوني بالدمع. أمّا هي فإبتسمَت لي وقالَت بصوت خافت:

- نمتُ هنا لأشمّ رائحتكِ... لم أكن متأكّدة أنّني سأراكِ الليلة... أعذريني...

لم أجبها إلّا بعد ثوان:

- عودي إلى النوم... سترينني بعد أن ترتاحي.

وضعتُ عليها الشرشف وخرجتُ مِن الغرفة بعدما أغلقتُ الباب ورائي. ذهبتُ إلى الصالون وجلستُ مع والدي وشقيقتي دون أن أتفوّه بكلمة. أبي كسرَ هذا الصمت قائلاً:

- أرأيتي حالتها؟

- نعم... ما الأمر؟

- أنّها مريضة جداً وجاءت لتودّعنا... لم يبقَ لها سوى أيّام... لا تكوني قاسية معها... أنتِ فتاة طيّبة وحنونة... إحسبيها إمرأة غريبة جاءت إليكِ...

هزّيتُ برأسي بِصمت لأنّني إنتظرتُ عودتها لسنين وكنت قد صلّيتُ وأنا صغيرة لكي أراها يوماً وها هي هنا في غرفتي ولكن لفترة قصيرة قبل أن تغادر مجدّداً ولكن مِن دون عودة هذه المرّة. بكيتُ بقوّة وعانقتني شقيقتي وبكَت معي. جلسنا هكذا صامتين أمام التلفاز غارقين بأفكارنا نحاول تقييم الوضع وكيفيّة التعامل معه. وبعد حوالي الساعة، قمتُ مِن مكاني ودخلتُ الغرفة على مهل. كانت ما زالت نائمة وجلستُ في الظلمة أنظر إليها. وشعرَت بوجودي، فإستيقظَت وإبتسمَت لي قائلة:

- هل أخبروكِ؟

- أجل...

- أعلم أنّكِ غاضبة منّي ولكِ كل الحق... لا أطلب منكِ أن تعذريني على ما فعلتُ بكم ولكنّني آنذاك كنتُ شابة ولم أكن أدرك فظاعة أفعالي... تزوّجتُ مِن أبيكِ دون أن أحبّه، بل لأهرب مِن بيت ساد فيه العنف اليوميّ... إعتقدتُ أنّني سأستطيع العيش مع والدكِ ولكنّني لم أقدر. أنجبتُ شقيقتكِ ثمّ أنتِ ورغم حبّي لكنّ، شعرتُ بالحاجة إلى ترك كل شيء وإختيار الحياة التي أريدها فعلاً. وحتى عندما رحلتُ لم أكن سعيدة، لأنّ الحزن كان في داخلي وحملته أينما ذهبتُ ومهما فعلتُ... أبي الظالم كان قد قضى على أيّ فرصة لأكون سعيدة... فكّرتُ مراراً بالعودة إليكم ولكنّني لم أجرؤ على ذلك... وعلمتُ أنّ جدّتكِ وعمّتكِ كانتا تهتمان بكما، فإرتاح قلبي. ولكن الآن كان عليّ المجيء لأودّعكم وأطلب السماح منكم لكي أرحل بسلام... حياتي كانت مؤلمة وهذا الألم الذي أنا به الآن هو أخفّ بكثير مِن الذي شعرتُ به عندما عشتُ بعيدة عنكم... هل لكِ أن تمسكي يدي قليلاً؟ حلمتُ بهذا سنين طويلة...

ومسكتُ يدها الهزيلة وقبّلتها وأنا أبكي. وضعتُ رأسي على كتفها وأغمضتُ عيوني لأعبّئ قلبي بهذا الشعور الذي حرمتُ منه طوال حياتي. بقينا هكذا حتى غفوتُ. وعندما إستيقظتُ في الصباح وجدتُ أمّي باردة. كانت قد فارقَت الحياة والبسمة على وجهها. أقمنا لها مأتماً جميلاً وودّعناها لآخر مرّة. ورغم حزني الشديد، شعرتُ براحة عميقة لأنّني رأيتُها قبل أن تموت وقضيتُ معها آخر ساعاتها وكنتُ قد فهمتُ سبب تركها لنا وأنّها إنسانة حاولت إيجاد نفسها ونسيان طفولة قاسية وبعدما عاشت تعيسة بعيدة عنّا قرّرت أن تموت بيننا أي بالمكان الذي لم يكن عليها تركه. وعندما تزوّجتُ وأنجبتُ إبنتي أسميتُها نوال تيمّناً بها ولكيّ يكون لديّ أثر مِنها بقربي دائماً. وبعد فترة قصيرة تزوّجَت أختي ثمّ وجد أبي زوجة ثانية وكأنّ رجوع أمّي كان قد رفع عنّا لعنة كانت ستقودنا إلى حياة كلّها بئس وتعاسة.

حاورتها بولا جهشان 

المزيد
back to top button