شقيقتا أمّي كانتا الشرّ بِحد ذاته

كان لي خالتان فضيلة وسميحة وكانتا بعيدتان كل البعد عن إسمائهن لأنهنّ كانتا تجسدنَ الشرّ بِحدّ ذاته. ولكنّني لم أكن أعلم ذلك، لأنّني حسبتُهنّ مثل أمّي التي كانت طيبّة وبريئة. وكانت السلوى المفضّلة عند هاتَان المرأتَان، هي خلاف الناس فيما بينهم بشتّى الطرق المتاحة والغير متاحة، وذلك فقط بدافع المرح. وعندما كنتُ صغيرة، كنتُ أذهب معهنّ عند الأقارب وأتسمّع إلى قصص الناس التي كانت تُروى أمامي دون أن أدرك أنّها تهدف إلى تغذية معلوماتهن للإستعمال اللاحق ضدّ تلك أو ذاك. ولِكثرة محبّتهنّ لي، كانتا تشتريان لي الفساتين الجميلة والحلوى وكل ما تطلبُه نفسي وتعداني أنّهنّ ستفعلنَ كل شيء لإسعادي. ولكن ورغم التدريب المكثّف الذي خضعتُ له مِن قِبَلهنّ، أخذتُ طيبة أمّي وحبّها للناس. وكان ذلك بمثابة أهانة لهنّ، فقرّرتا أنّني لم أعد واحدة منهنّ وأنّ عليّ دفع ثمن ذلك الأرتداد. والغريب في الأمر أنهنّ وجدنَ لذّة كبيرة في إيذائي وكأنهنّ تنتقمنَ منّي ومِن والدتي التي كانت دائماً أفضل منهنّ. ومثل العنكبوت الذي يحيّك مصيَدته بصبر، إنتظرَتا حتى أصبحُ مراهقة لبدء خطّة كنتُ سأقع ضحيتّها لاحقاً. ومِن ناحيتي، كنتُ أعيش أيّامي بسلام وتفاؤل وأضع أسراري بين أيدهنّ وكأنّني أهديهم الحبل الذي سأُشنَق به يوماً.

فعندما وقعتُ في الغرام لأوّل مرّة، ركضتُ أزفّ الخبر إلى فضيلة وسميحة التي أوصَتني بألاّ أُخبر أمّي بشيئ، لأنّها وبحسب قولهنّ لن تتفهمّ الموضوع وستمنعني مِن عيش حبّي بسلام. وهكذا بدأتُ أعتاد أن أخبّئ أشياء عن والدتي وأن آخذ بنصيحة مَن قرّرَ خرابي. وبعد فترة، إختفى الحبيب فجأة وبكيتُ عليه ككل صبيّة تفقدُ أوّل مُعجب. ولكنّني وجدتُ بخالتيّ العزاء وأكملتُ حياتي وكأنّ شيئاً لم يكن. وبعد بضعة سنين، وجدتُ أيمَن الذي لفَتَ إنتباهي كثيراً لأنّه كان وسيماً جداً ولأنّه لم يتردّد على الإفصاح لي عن مشاعره بعدما قضى بضعة أشهر يعمل معي في نفس الشركة. وبالطبع ذهبتُ بكل براءة إلى فضيلة وسميحة لأطلب منهنّ النصائح كي لا يختفي كما فعل الذي سبَقه. فعرضتا عليّ أن آتي به إلى منزلهنّ لكيّ تتأكّدنَ مِن نواياه تجاهي، لأنّ الرجال حسب قولهنّ يهابون الأقارب. فَدعوتُ إيمَن للتعرّف إلى خالتيَّ التَين أستقبلَته جيدّاً جدّاً وتحدّثتا إليه عن أشياء كثيرة. وعندما رحلَ أبدَيَتا إعجابهنّ به. ولأنّني بنت صالحة، قلتُ لأمّي أنّني على علاقة مع شاب وقد تصبح القصّة جدّية بيننا. عندها سألتَني والدتي:  

 

ـ وهل فضيلة وسميحة على علم بالموضوع؟

 

ـ أجل... ولكن...

 

ـ إسمعي يا إبنتي... هنّ شقيقاتيّ وأعرفهنّ أكثر مِن أي شخص آخر... وكيف أقول لكِ هذا... ليست كما تتصوّرين... أعني أنهنّ تحبنَ الإيقاع بالناس ولا يردعهنّ شيء.

 

ـ لماذا تقولين ذلك؟ هل تغارين منهنّ لأنّني أحب رفقتهنّ؟ لَن تقنعينَني بأنهنّ شرّيرات! لم أعهدكِ كذلك!

 

وخرجتُ غاضبة مِن المنزل وقصدتُ خالتيّ وأخبرتهنّ ما قالَته والدتي عنهنّ، فأجابَت فضيلة:

 

ـ أعذريها يا حبيبتي، فهي هكذا منذ ما كنّا صغيرات... أليس كذلك يا سميحة؟

 

ـ أجل... تؤلّف الأكاذيب عنّا لتُبرز نفسها... أنا أشفق عليها... على كلّ حال ما يهمّ هو أنّكِ تثقين بنا...


ويا ليتَني سمعتُ مِن أمّي، لأنّها كانت الإنسانة الوحيدة في العالم التي كانت فعلاً تبحث عن سعادتي. وهكذا بدأتُ أرى أيمَن في السرّ وألتقي به عند خالتيّ وكانتا تتركنا أحياناً لِوحدنا لكي يكون لنا بعض الوقت لِنتبادل القبلات. وبعد بضعة أشهر، قال لي حبيبي انّه غير قادر على العيش مِن دوني وأنّه يريد الزواج منّي ولكن ليس قبل سنتَين لكيّ يتسنىّ له أن يشتري لنا شقّة تليق بي لأنّني أستحقّ الأفضل. وبالطبع طرتُ مِن الفرح وأخبرتُ فضيلة وسميحة التي هنّأتاني بحرارة. وحسبتُ آنذاك أنّ مستقبلي كان قد رُسِمَ وأنّني سأعيش سعيدة مع رجل حياتي. ولكن في أحد الأيّام، ذهبتُ عند خالتيّ لأنتظر أيمَن، فوجدتُه هناك وأعتبرتُ ذلك دليلاً على شوقه لي. وعندما دخلتُ نظرَ إليّ بطريقة لم أعتاد عليها ولم أقدر أن أفسرّها في حينها. ركضتُ إليه وعانقتُه ولكنّه بقيَ جامداً ولِشدّة إستغرابي سألتُه إن كان على ما يرام، فأجابَني أنّه تعب بعض الشيء. مكثَ هناك قليلاً ثمّ رحلَ. ومِن بعد ذلك النهار أصبحَت إتصالاته نادرة وشعرتُ أنّ شيئاً لم يكن على مايرام. ورغم محاولاتي العديدة لِمعرفة سبب هذا الجفاف، لم يقبل أن يقول لي ما الذي كان يزعجه. ورفضَ مقابلتي حتى مرور حوالي الشهر وبعدما رجوتُه أن أراه ولو مرّة واحدة. فإلتقينا كعادتنا عند فضيلة وسميحة التي خرجَتا لكي نبقى لِوحدنا. وبعد رحيلهنّ، سادَ سكوت رهيب كسرتُه بقولي:

 

ـ حبيبي... ما الأمر؟ لا تستطيع تركي هكذا مِن دون تفسير... إن كنتُ قد فعلتُ شيئاً لكَ فعليكَ أن تقول... أحبّكَ كثيراً ولا أتحمّل رؤيتكَ هكذا... إن كنّا سنتزوّج فعلينا أن نعتادَ على مصارحة بعضنا.

 

ـ نتزوّج!

 

وبِلمحة بصر هَجَم عليّ وألقى ثقله عليّ وبدأ يحاول نزع ثيابي عنيّ. فبدأتُ أصرخ مِن الخوف وأسأله لماذا يفعل ذلك ولكنّه لم يجب وتابع ما كان يفعله حتى أنّ مزّق قميصي بِعنف شديد. وكان سينزع تنّورتي أيضاً لو لم أصرخ له:

 

ـ كفى! كفى أيّها المغتصب!

 

عندها هَدأ فجأة وجلسَ على الأريكة يلهث وأنا بدأتُ بالبكاء. ثم أخذتُ أوبّخه والدموع تنهال على خديّ:

 

ـ لم أتصوّر أبداً أن يحصل ذلك... خلتكَ أنساناً شريفاً...

 

ـ أنتِ تتكلّمين عن الشرف؟

 

ـ أجل! أنا! لماذا تقول ذلك؟

 

ـ لأنّكِ بعيدة كلّ البعد عن الأخلاق! لقد أخبرَتني خالتَيكِ عن ماضيكِ مع الرجال وكيف تنامين مع كل مَن يبدي إعجاباً بكِ... قالتا أنهنّ حاولتا أبعادكِ عن تلك الطريق ولكنّكِ فاسدة مثل والدتكِ ولا أمل منكِ... ونصحَتني بالإبتعاد عنكِ... ولكنّني أحببتُكِ وشعرتُ بغضب كبير لأنّني كنتُ سأضطر على ترككِ... لم يجدر بي فعل ما فعلتُه الآن ولكنّني أردتُ الإنتقام منكِ.

 

لم أستطع إستيعاب ما قالَه إلاّ بعد دقائق لكثرة فظاعة الأمر وأدركتُ بلحظة أنّ ما نبّهَتني أمّي عنه كان صحيحاً ولكنّني لم أعلم كيف أثبتُ لِحبيبي أنّ ما سمعَه كان محاولة دنيئة للإيقاع بي. كل ما إستطعتُ قوله، كان:

 

ـ ولَم تسأل نفسكَ لماذا تقول خالتيّ عني كل ذلك؟ أليس مِن البديهي أن تحاولان التغطية عنّي لأنّني إبنة أختهنّ؟

 

ـ بلى... وإستغربتُ كثيراً...

 

ـ ولم تجد ما قالَته عنّي صعب التصديق؟ نتواعد منذ حوالي السنة ونعمل سويّاً في نفس الشركة... هل بدا لكَ يوماً أنّني قليلة الأخلاق؟

 

ـ لا... أبداً... بل بالعكس.

 

ـ إذاً كيف تصدّق أقاويل دون أن تحاول التأكدّ منها؟

 

ـ ربمّا لأنّ رجولتي منعَتني مِن ذلك... صحيح أنّني تسرعتُ... ولكن ثقتي بكِ لم تعد كما كانت...

 

ـ سأثبتُ لكَ براءتي ولكن أعلم أنّ عليكَ أن تُنسيني تصرّفكَ البربري هذا وأنّكَ شككتَ بي بهذه السهولة.

 

ـ أعدكِ بأن أعوّض عليكِ... ولكن ما الذي ستفعلينَه؟

 

وطلبتُ منه أن يختبئ وراء خزنة كبيرة عند زاوية الصالون عندما تعودان خالتيّ. وهكذا وبعد حوالي الساعة سمعنا الباب يُفتح وركضَ أيمَن إلى مخبئه وإنتظرَ ما سأفعله. وأنا مِن ناحيتي، مثّلتُ دور الفتاة المنهارة وعندما سألَتني سميحة ما بي، قلتُ لها:

 

- لقد تركَني أيمَن... ورفضَ أن يعطيني تفسير...

 

- لا تأسفي عليه... لم نكن نريد إخباركِ ولكن... علِمنا أنّه يواعد فتاة أخرى... إنّه غشاش كبير وستكونين بأحسن حال مِن دونه... فتاة بأخلاقكِ وجمالكِ تستحقّ أفضل منه بكثير! 

 

وحين سمعَ ذالك، خرجَ أيمِن مِن وراء الخزانة وصرخَ:

 

- أيّتها الأفاعي! كدتُ أن أفقد حبيبتي وحتى أن أؤذيها بِسببكنّ! سآخذها مِن هنا بأسرع وقت وإن حاولَت إحدكنّ التدخّل بأي شكل في حياتنا سأنتقم منها شخصيّاً! 

 

وهكذا تخلّصتُ مِن شرّهنّ وتزوّجتُ مِن أيمّن بعدما حصلتُ على بركة أمّي التي علِمَت منّي بكلّ شيء وقطعَت علاقتها بِِشقيقتَيها نهائيّاً.

 

حاورتها بولا جهشان 

المزيد
back to top button