سَجَنوني وقيّدوني

يا ليتَني ولِدتُ في مكان آخر، ولكنّنا لا نختار أهلنا ولا بيئتنا ولا حتى مصيرنا.

لم أكن قد بلغتُ السابعة عشر مِن عُمري حين إلتقيتُ بِسائر عند صديقة لي. وأظنّ أنّ إبتسامته الجميلة وصوته الدافئ هما الذان شدّاني له. فهو لم يكن إنساناً غنيّ بل جنديّ بسيط لا يملك سوى غرفة صغيرة في أعلى مبنىً قديم. ولكن للحب قوانينه الخاصة لا يفهمها العقل أو المنطق. وبدأنا نلتقي عند تلك الصديقة بصورة دائمة وبعد فترة طلبَ منّي أن أتزوّجه. وبالطبع شعرتُ بسعادة فائقة لأنّ رجل حياتي يريدني بقربه حتى آخر أيّامه وركضتُ أخبر أمّي بالأمر. ولكن عندما علِمَت بوضعه المالي والإجتماعي صَرخَت بي:

 

ـ هل فقدتِ عقلكِ؟ قد يُصاب أباكِ بنوبة قلبيّة لو عَلِمَ بالأمر!

 

ـ ولكن يا ماما... أحبّه ويحبّني... ونحن متفاهمان جداً... أرجوكِ لا تقفي بيني وبين سعادتي!

 

ـ لن نقبلَ به مهما كلّفَ الأمر! وكيف تعرّفتِ إليه وأين تلتقين به؟

 

وعندما لم أجاوب أضافَت:

 

ـ ممنوع عليكِ الخروج بعد الآن إلاّ بِصحبتي! هل فَهمتِ ما أقوله لكِ؟

 

وهكذا مُنعتُ مِن رؤية حبيبي وبكيتُ أيّام وليالي عديدة حتى أن جاءَت صديقتي برسالة لي مِن سائر يطلب منّي فيها أن أهرب مِن المنزل وأذهب إلى بيت عمتّه ريثما يرتّب أمر زواجنا.

 

وبدأتُ أخطّط للخروج مِن سجني وبعد بضعة أيّام إستطعتُ التغلّب على أعيُن أمّي الساهرة وتوجّهتُ إلى المكان المُتّفق عليه حيث إستقبلوني بحرارة. ولكنّ أهلي لم يكونوا مستعدّين على تركي أفعل ما أريد وبعد بحث طويل إستطاعوا معرفة مكاني وإنتشالي بالقوّة مِن منزل عمّة سائر بعدما تأكدّوا أنّني لم أعاشر الذي كان سيصبح زوجي. وأتذكرّ ذلك اليوم بوضوح لأنّني شعرتُ أن قلبي سيتوقّف عن الدقّ حين رأيتُ أبي يدخل عليّ وأنا مستلقاة على السرير. في البدء ظننتُ أنّني أحلم ولكن سرعان ما أدركتُ أنّ الأمر حقيقي. أخذَني والدي مِن ذراعي وإنتشلني بقوّة خارقة وشدّني إلى الخارج وأدخَلَني سيّارته حيث كانت والدتي تنتظرنا. ورغم بكائي وصراخي لم أستطع الإفلاة منه. وأخذَني فوراً إلى بيتنا وإلى غرفتي وأقفلَ الباب عليّ بالمفتاح. حاولتُ فتح الباب بشتىّ الطرق ولكنّني لم أستطع فبدأتُ بالبكاء بمِرارة. وبعد أن مضى بضعة ساعات على عودتي دخَلَت أمّي الغرفة وبيَدها حقيبة وملأتها بأمتعة لي وأقفلَتها وقالت لي:

 


ـ هيّا!

 

ـ إلى أين؟

 

ـ عند شقيقتي في الأردن.

 

ـ ماذا؟ لا أريد الذهاب!

 

ـ سنرحل جميعاً لفترة قصيرة ريثما تهدئين وتسترجعين صوابكِ... سترين... ستنسين ذلك الجندي وتدركين أنّنا نُسدي لكِ معروفاً كبيراً... لا تزالين صغيرة ولا تعلمين شيئاً بعد عن الحياة.

 

وأخذوني بالسيّارة عبر الحدود إلى خالتي التي كانت قد حضّرَت لي إستقبالاً غريباً. كانت قد جهّزَت لي غرفة ذات نافذة واحدة محجوبة بألواح مِن الخشب مسمّرة في الحائط وعلى جانب السرير والكرسي أحبالاً مُخصّصة لِتربيطي. عندما رأيتُ كل ذلك صرختُ:

 

ـ ما هذا؟ هل فقدتُم عقلكم؟ تريدون سجني وتربيطي كالحيوان؟ أنا إبنتكم! ما مِن أحد يفعل ذلك! أليس لديكم شفقة؟

 

ولكنّ صراخي ذهبَ سُدىً لأنّهم أقفلوا عليّ الباب بعدما قالَت لي والدتي:

 

ـ نفعل ذلك لأنّنا نحبّكِ... سترين.

 

وإنهارَت أعصابي كليّاً لأنّني كنتُ وسط أناس مريضين لا يصلحون ليكونوا أهلاً لفتاة مراهقة. كانت هناك مئة طريقة أخرى لإفهامي وجهة نظرهم لكنّهم إختاروا التخلّف والعنف. وهكذا بدأ عذابي في تلك الغرفة المُظلمة لا أرى أحداً سوى عندما كان يأتي أبي أو أمّي أو خالتي لإعطائي الطعام. وعندما كانوا يخرجون مِن المنزل كانوا يقيّدونني إمّا في السرير وإمّا على الكرسي.

وبالطبع بدأت صحّتي تتراجع خاصة بعدما فقدتُ شهيّتي على الأكل فمَن يستطيع الإستمتاع بأيّ شيء في هكذا ظروف؟ والشيء الوحيد الذي ساعَدني على الإستمرار هو التفكير بِسائر وبقوّة حبّه لي. كنتُ أعلم أنّه أيضاً في حالة يُرثى لها وأنّه يحاول إيجاد طريقة للعثور عليّ. وبدأتُ أصليّ كثيراً وأطلبُ مِن ربّي أن ينهي عذابي بطريقة أو بأخرى فلم أكن أتصوّر العيش مِن دون حبيبي وباتَ الموت خلاصي الوحيد. وفكرّتُ بالإنتحار ولكنّ أهلي لم يتركوا لي أي شيء أستعين به لأنهي حياتي فإنتظرتُ أن أموت مِن قلّة التغذية. وبدأ وزني يخفّ بصورة واضحة فإنشغلَ بال أمّي كثيراً وقَلِقَ أبي عليّ. وحدها خالتي بقيَت مُصرّة على أنّني بخير وأنّني سأسترجع قواي قريباً. ولكنّ وضعي سرعان ما أصبحَ يستدعي المعالجة فأتوا لي بطبيب. وبعد أن عايَنَني قال لهم:

 


ـ سأطلبُ فوراً سيّارة إسعاف وأنقلها إلى أقرب مستشفى... هذه الفتاة تموت...

 

وأُخِذتُ إلى قسم العناية الفائقة وهناك عمِلوا على معالجتي. وبعد بضعة أيّام بدأتُ أسترجع قوايَ. ولِحسن حظّي أو لأنّ الله كان قد سمِعَ دُعائي المستمرّ جاء خلاصي على يد ممرّضة كانت قد سألَتني عن سبب ضعفي. وبعد أن أخبرتُها قصّتي قالت لي:

 

ـ لديّ أقرباء في بلدكِ... ما إسم حبيبكِ؟

 

وأعطيتُها كل التفاصيل اللازمة عنه وعن إسم سريّته وتأملّتُ بأن تستطيع تلك المرأة مساعدتي. ولكنّ موعد خروجي كان قد إقتربَ دون أن أحصل على جواب منها وإنتابَني الخوف الشديد مِن أن أعود إلى سجن خالتي. وصمّمتُ جديّاً بقتل نفسي لأنّني لم أكن مستعدّة للعيش هكذا ولو لِيوم واحد. وفي آخر ليلة لي في المستشفى دَخَلت الممرّضة الغرفة وقالت لي:

 

ـ إرتدِ ثيابكِ... بسرعة!

 

وإمتثلتُ لأوامرها دون أن أسأل لماذا لأنّ أي شيء أفضل مِن الذي كان ينتظرني. وعندما أصبحتُ جاهزة إصتحبَتني إلى الخارج مِن باب مخصّص للأطبّاء وعندما دخلنا موقف السيّارات رأيتُ سائر واقفاً هناك. كدتُ أقعَ أرضاً مِن شدّة المفاجأة والفرح وركضَ ليعانقني ويساعدني على الصعود في سيّارته. نظرتُ إلى الممرّضة وصَرختُ لها وأنا راحلة:" شكراً ! لن أنساكِ أبداً!"

 

وعُدنا إلى البلد حيث تزوّجنا على الفور خوفاً مِن أن يُفرَّق بنا مجدّداً. وحين علِمَ أهلي بأمر فراري عادوا هم أيضاً ليكتشفوا أنّه كان قد فات الأوان. وعشتُ مع سائر في غرفته الصغيرة وكأنّني ملكة على قصر كبير. أحبَّني وعاملَني كأفضل عاشق وبعد شهر علِمتُ أنّني حامل وإكتمَلت فرحتي. وأنجبنا فتاة جميلة أعطيناها إسم إبتسام لكي تكون حياتها مليئة بالسعادة. ولا يمرّ يوم دون أن أشكر الله على ما فعلَه مِن أجلي لأنّه خلَّصَني مِن أناس لا يعرفون الرحمة أوالحبّ ليضعَني بين أذرع زوج يعيش مِن أجلي.

أمّا بالنسبة لأهلي فلم يحاولوا الإتصال بي أو حتى معرفة أوضاعي وكأنّني لم أعد إبنتهم الأمر الذي أثارَ دهشتي فما كان لزوم كل ما فعلوا إن كانوا لا يأبهون بي؟ كادوا أن يقتلوني فقط مِن أجل تزويجي مِن صهر يفتخرون بماله أو بمنصبه. كل ذلك زاد مِن إصراري على حبّ إبنتي وخلق صداقة متينة معها لنكون دائماً قادرَتَين على إيجاد سبل تفاهم وحلول عندما نصادف مشاكلاً. هكذا يكون الأهل وهكذا تُبنى العائلات.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button