سرقوا إبني منّي

تعرّفتُ إلى جهاد عندما جاء إلى موطني بريطانيا ليكمل دراسته. ورغم إختلاف منشأنا وتقاليدنا، ولِدَ بيننا حبّ كبير وإعتبرناها فرصة لضمّ حضارتين سويّاً وخلق جيلاً مميّزاً. وهكذا تزوّجنا وعشنا في شقّتي في لندن. ولكن بعد مجيء إبننا هشام إلى الدنيا، قرّر جهاد العودة إلى وطنه وبالطبع أخذنا معه. هناك إستقريّنا في منزل قريب مِن أهله الذين استقبلوني بلطف ومحبّة. أُعجبتُ بالبلد رغم التغيير الجذري الذي شعرتُ به وأخذتُ القرار بأن أتأقلم حبّاً بزوجي وجذوره. ولكن بعد فترة، بدأتُ أرى أهل جهاد على حقيقتهم، أي مزيج مِن الكذب والخداع والطمع. وتفاجأتُ كثيراً بما إكتشفتُه، لأنّ زوجي كان إنساناً طيّباً ونزيهاً وحسبتُ أنّه وليد تربية حسنة ولكنّه وللأسف كان الوحيد بينهم بهكذا خصال. ولطيبة قلبه، لم يرَ ما كان يجري مِن حوله.
أخذوا يستغلّونه بكل شيء، بدأاً بالمال، لأنّه كان قد وضع جانباً مبلغاً لا بأس به من عمله في لندن وممّا تركه له جدّه عندما توفيَ. وكانوا يتّكلون عليه بكل شيء ولا يأبهون أنّ لديه عائلة خاصة به، فكانوا يطالبون به لأيّ سبب في أيّ وقت من الليل أو النهار وكان يركض بسرعة لتلبية النداء. أمّا أنا، فلم أكن أقول شيئاً، لأنّني علمتُ أنّ في الشرق، يبقى الولد رهن أهله طوال حياته على عكس أولاد أوروبا، وإحترمتُ رغماً عنّي هذه التقاليد.

حاول أهله أن يجعلوا منّي أيضاً لعبة بين أيديهم بإقناعي أنّ عليّ مساعدتهم في كل شيء حتى لو تطلّب الأمر أن أهمل منزلي وإعتقدوا أنّ كوني غريبة، يجعل منّي غبيّة ولكنّني لم أرضخ لرغباتهم ما سبّب لي نقمة كبيرة من جانبهم وبدأوا يخطّطون للتخلّص منّي. ولكن لم يتسنّى لهم فعل ما في بالهم، لأنّ زوجي الحبيب، لقيَ مصرعه في حادث سيّارة مريع. ولفّني الحزن العميق، لأنّني لم أخسر زوجاً وحبيباً فقط، بل الرفيق الوحيد الذي كان لديّ في ذلك البلد الغريب وفي غضون لحظات أخذَت حياتي منعطفاً لم أحسب له حساب.
فبعد وفاته، علمتُ أنّ هناك تقاليد قاسية تُفرَض على المرأة التي تفقد زوجها وكأنّها هي التي تسبّبت بموته وأنّ عليَّ إتباعها. ففترة الحداد كانت طويلة جداً وتحرّكاتي محدودة، وكان ممنوع عليّ أيّ شيء متعلّق بالفرح أو البسط. حاولتُ إفهامهم أن موت جهاد بحدّ ذاته، كان قصاصاً رهيباً وأنّه كان كافياً ولكنّهم أجابوني أنّ الناس تراقبني وستتكلّم عنّي وعنهم وأيّ شيء أفعله سينعكس على سمعة العائلة. بالطبع لم أستوعب هذا المنطق، ولم أقبل به، فبنظري كل انسان يتحمّل مسؤوليّة أفعاله وليس أفعال غيره وإن الموت رهيب بحدّ نفسه ولا يحتاج إلى أن نزيد عليه قيوداً وحرماناً أكثر.
 

بكيتُ زوجي كثيراً وأسفتُ أنّنا  لم نستمتع أكثر ببعضنا ولكن كان لديّ ولد عليّ التفكير به وبمستقبله. صحيح أنّ جهاد كان قد ترك لنا ما يكفينا، أيّ منزلاً وحساباً في المصرف ولكنّني قرّرتُ أنّه من الأفضل أن نعود إلى بريطانيا حيث هم أهلي وجذوري. وعندما أطلعتُ أهل زوجي على قراري، رفضوه رفضاً قاطعاً وهدّدوني بأخذ هشام منّي إن أصرّيتُ على الرحيل. وشعرتُ بوحدةٍ عميقة كوني غريبة عن البلد، بالكاد أتكلّم اللغة وأجهل تماماً القوانين القائمة هناك وأدركتُ أنّني لن أستطيع فعل أيّ شيء ضدّهم. فبقينا مكاننا وتعذّبتُ كثيراً مع أناس إعتبروني ملكاً لهم وأجبروني على مساعدتهم في أعمال المنزل والطهو والانتباه إلى أولادهم، أيّ أنّني أصبحتُ خادمة ومربيّة لديهم. ناهيك عن الملاحظات الجارحة والتلميحات التي كانوا يتبادلونها بخصوصي عندما يأتي أحد لزيارتي ظانّين أنّني لا أفهم  أبداً اللّغة. حتى أن طفح الكيل وأصريّتُ على الرحيل ولكن ليس من دون هشام. وإرتأيتُ أنّ الحلّ الوحيد لأحتفظ بولدي، كان أن أقايضه بشيء آخر بعد أن أصبحتُ أعلم تماماً أن ما يهمّ هؤلاء الناس، كان أن ينتفعوا من كل مَن يصادفون. لذا عرضتُ عليهم المنزل ومعظم ما في حسابنا في المصرف. وبعد مشاورات عديدة، قبلوا عرضي وإستطعتُ الهروب منهم والعودة إلى وطني. وهناك التجأتُ لأهلي وعشتُ معهم أنا وإبني وبعد أن نفذَ المبلغ الصغير الذي إستطعتُ أخذه، أُجبرتُ على البحث عن عمل ووجدتُ وظيفة في مستشفى بفضل شهادتي في التمريض. ولم أخبر أحد عمّا فعله أهل زوجي بي وكيف باعوا حفيدهم لكي لا يعلم إبني بحقيقة ذوي أبيه وتبقى لديه صورة حسنة عنهم، فقط ليكون له توازن نفسي سليم.


ومرَّت الأيّام وكبر هشام وأصبح شاباً وسيماً وعندما بلغَ العشرين من عمره، أبدى رغبته بزيارة بلد أبيه والتعرّف إلى عائلته. لم أحبّذ تلك الفكرة، لأنّني كنت أعلم حقيقة هؤلاء الناس ولكنّني لم أقف في طريقه، لأنّه كان مِن حقّه أن يعود إلى جذوره. طلبتُ منه فقط التريّث والإنتظار سنتين بعد حتى يأخذ إجازته، لكي لا يؤثّر سفره على دراسته. وحين جاء الوقت، أخذته إلى المطار وأعطيتُه التعليمات اللازمة لسلامته وأضفتُ:

- حبيبي هشام.... أنتَ طيّب كأبيكَ رحمه الله ....ولكنّ الناس ليسوا كلهم مثلكَ.... حتى لو كانوا جدّ مقرّبين منكَ... إحترس ولا تثق بأحد.... سأكون في إنتظارك بعد أسبوعين.

 

وقبّلته بحنان، لأنّها كانت أوّل مرة نفترق فيها وطلبتُ منه قبل أن يتجه إلى طائرته أن يكلّمني كل يوم. وبالطبع لم أكن مرتاحة أبداً لهذه السفرة وخشيتُ عليه منهم، أو على الأقل مِن مَن تبقّى منهم، فخلال كل تلك السنين التي مرّت، كان قد توفيَ والد ووالدة جهاد تاركين المنزل لأولادهم وأحفادهم الذين ورثوا أيضاً جشعهم وقسوتهم. ووصل هشام وطمأنني وأخبرني أنّ العائلة إستقبلته جيّداً وإرتاح قلبي قليلاً. وأصبح يكلّمني يومياًّ كما أوصيتُه أن يفعل إلى حين أخبرَني أنّ زيارته ستطول قليلاً لأنّه لم يزور كل الأماكن السياحيّة بعد.
ولكن بعد ذلك بدأَت مكالماته لي تخفّ ولم أعد أعرف عنه إلّا القليل. وشعرتُ أنّ شيئاً ما كان يحصل هناك. وحاولتُ معرفة المزيد منه ولكنّه بقيَ غامضاً. ولم أعد قادرة على النوم من كثرة الهمّ وصليّتُ أن يكون فعلاً بخير. مرّ أسبوعين على هذا النحو حتى أخبرَني هشام وبكل بساطة أنّه تزوّج مِن إبنة عمّه. صرختُ لشدّة إندهاشي، فقال لي:

 

- أخبروني أنّكِ لن تكوني مسرورة بهذا الخبر... لذا أبقيتُ الأمر سرّاً عنكِ... أخبروني أشياء أخرى عنكِ... أظنّ أنّه مِن الأفضل أن أبقى هنا مع عائلتي.

 

- أنا عائلتكَ! أرجوكَ يا بنيّ لا تصدّقهم فهم أناس خبيثين... عُد إلى هنا وسأخبركَ بكل شيء.

 

- هذا ما قالوه عنكِ أيضاً ولكنّهم كانوا مقنعين أكثر منكِ... لقد أصبح لي زوجة الآن وهذا بلدي وبلد أجدادي... أخذتيني منهم إلى مكان لا يحترم تقاليدي وجذوري... أبعَدتيني عن مكان وجود قبر أبي... بعدما حاولتِ أيضاً إبعاده عن ذويه وعملتِ على خلق كره بينهم...

 

- هذا ليس صحيحاً! لحقتُ بأبيكَ إلى هناك... تركتُ أهلي لأكون معه ولكي يكون سعيداً على أرضه... عملتُ ما بوسعي لأتأقلم ولكنّهم قوم غدّار لا يهمّه سوى المال... أنا متأكّدة أنّهم رأوا فيكَ منفعة لذا زوّجوكَ لإبنتهم... ماذا تعرف عنها؟ وهل شهر يكفي ليتزوّج المرء مِن أحد؟ أنتَ شاب مثقّف ومتعلّم... ولديكَ القدرة على التفكير والإستنتاج... أرجوكَ حبيبي...

 

وأقفل إبني الخط دون أن يجاوب وإنقطعَت أخباره تماماً. وبعد شهر على هذا النحو، أخذتُ طائرة ورحتُ أبحث عنه عند الذين باعوه لي عندما كان صغيراً ولكنّني لم أجد أحداً في المنزل. وعندما سألتُ الجيران عنهم، قالوا لي أنّهم باعوا منزلهم والمنزل الذي كان يملكه زوجي وغادروا جميعاً بما فيهم العريس البريطاني وزوجته إلى وجهة غير محدّدة. وأصابني الخوف الشديد وبدأتُ أسأل عنه كل مَن صادف طريقي حتى أن ذهبتُ إلى الشرطة ولكنّهم لم يفهموا تماماً ما كنتُ أقوله لهم بسبب قلّة معرفتي لللّغة وإعتبروا أنّ هشام إنسان راشد يحقّ له الذهاب إلى حيث يشاء دون إذن من أمّه.
وبعد أكثر من شهر عدتُ إلى لندن دون ولدي وإنتظرتُ منه خبراً أو إشارة تطمئنني. وبعد حوالي السنة وجدتُه على الفايسبوك بِفضل صورة كان قد وضعها. ورأيتُه فيها حاملاً ولداً في ذراعيه ومحاوَطاً مِن كامل العائلة وعلى وجههم بسمة عريضة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button