لطالما قيلَ لي إنّ مجيئي إلى الدنيا لقيَ ترحيبًا كبيرًا كوني أوّل ولد لأبوَين حاولا الإنجاب مدى خمس سنوات. فشعرتُ بالفخر وتمتَّعتُ بالدلال الذي يحظى به كلّ ولَد في حالتي. لعِبتُ بالألعاب مِن دون الحاجة لِتقاسمها مع أحد ونمتُ في غرفة خاصّة بي. كنتُ الابن-الملَك وأعجبَني الأمر... إلى حين بدأتُ أشعرُ بالملَل والوحدة. عندها صارَ والدايَ يدعون أبناء الجيران لِقضاء الوقت معي وكذلك بعض أولاد الأقارب. أعجبَني الأمر كثيرًا، إلا أنّني افتقدتُ لأخ أو أخت أُثرثِرُ معهم ليلاً بعد إطفاء الأضواء، كما يفعلُ أصدقائي ورفاقي في المدرسة مع أخوَتهم. إلى جانب ذلك، شعرتُ أنّ أصدقائي، مهما كانوا مُقرّبين منّي، لن يكونوا يومًا سوى غرباء في الأصل، لا يربطُني بهم رباط الدّم.
طلبتُ مِن والدَيَّ مرارًا جَلب أخ أو أخت لي إلى الدنيا، لكنّهما رفضا في البدء ومِن ثمّ اعترفا لي بأنّ الأمر ليس مُمكنًا بيولوجيًّا بِسبب مشاكل عديدة. ورضختُ للأمر الواقع.
مع مرور السنوات، نسيتُ قليلاً وحدتي إذ انشغلتُ بِدراستي وبالجنس الآخَر. فكنتُ قد أصبحتُ مُراهقًا وسيمًا ولدَيّ أحلام كبيرة كسائر شبّان سنّي. بدأتُ أخرجُ ليلاً وأستمتعُ بِوقتي، لأعود إلى البيت وأنام مِن دون أن أُفكّر في شيء سوى في فتاة ما أعجبَتني أو بامتحان عليّ التحضير له. دخلتُ الجامعة وفي رأسي أن أصبَحَ طبيبًا ماهرًا وثريًّا، أوّلاً لأنّني اعتدتُ الحصول على مرادي، وثانيًا ليفتخِر بي والدايَ كَوني محطّ آمالهما الوحيد. وفي قرارة نفسي كنتُ مُتأكّدًا مِن أنّ حياتي تأخذُ، كالعادة، المنحى الذي أُريدُه. إلا أنّني لَم أحسِب حساب ما كنتُ سأكتشفُه لاحقًا.
كلّ شيء في حياتي تغيَّرَ حين جاءَت عمّتي مِن السفَر. فهي كانت قد غادرَت البلاد إلى الولايات المتّحدة قبل ولادتي حيث تزوّجَت وأنجبَت ابنًا. لَم أكن أعرفُها أو زوجها أو ابنها، ففرحتُ أن أرى تلك العمّة التي لا يتكلّمُ عنها أحد. سألتُ أبي لماذا لَم أكن على علم بِوجود تلك الأخت له، وهو أجابَني أنّ خلافات عائليّة فرَّقَت بينهما.
كانت عمّتي قد جاءَت إلى البلد لِتبيع المنزل الأبويّ الذي ورِثَته، بينما بقيَ زوجها وابنها حيث هما. تحضَّرتُ طبعًا للتعرّف إليها، إلا أنّ والدَيَّ زاراها مِن دون أن يأخذاني معهما، فأسِفتُ كثيرًا. لا تنسوا أنّني لِكَوني ولدًا وحيدًا، كبِرتُ مع الحاجة إلى وجود أكبَر عدد مِن الأصحاب والأهل مِن حولي. فقرَّرتُ الذهاب إلى عمّتي بِنفسي، والجلوس معها لأسألها مئة سؤال عنها وعن عائلتها وحياتها في المهجَر. أحبَبتُ كثيرًا معرفة كلّ ما يجب معرفته عن ابنها الذي كان هو الآخَر وحيدًا، فشعرتُ أنّ هناك أمورًا عديدة مُشتركة بيننا.
قرَعتُ باب منزل جدَّيَّ، رحمهما الله، وفتحَت لي سيّدة استَنتجتُ أنّها عمّتي مِن سنّها وشبَهها بأبي. عرَّفتُها عن نفسي ودخلتُ المكان مِن دون أن تدعوني للدخول، لأنّها بالفعل بقيَت واقفة عند الباب تُحدّقُ بي وكأنّها لا تعلَم ما عليها فعله.
كنتُ أعرفُ ذلك المنزل جيّدًا، فقد زرتُه مرارًا ولعِبتُ فيه في ما مضى، أيّ عندما كانت لا تزالُ جدّتي على قَيد الحياة. كانت عمّتي قد بدأَت تضعُ كلّ ما تُريدُ أخذه معها ووهبه في طرود كبيرة، فعرضتُ عليها مُساعدتي. هي حضَّرَت لي القهوة بِصمت أزعجَني قليلاً، إلا أنّني ردَدتُ الأمر إلى عدَم معرفتها بي. وبقيَت عمّتي تُحدّقُ بي لِدرجة أنّني قلتُ لها:
- ما بكِ يا عمّتي تُحدّقين بي هكذا؟
- كَم أنَكَ تُشبهُه!
- أجل، أُشبِهُ أبي كثيرًا. قولي لي، كيف زوجكَ وابنكِ؟
- بِخَير، بِخَير.
- ما اسم ابنكِ وماذا يفعَل؟ هل هو سعيدٌ هناك؟ لماذا لَم يأتِ معكِ؟ كنتُ أودُّ التعرّف إليه.
- ما هذا الكمّ مِن الأسئلة، يا سامي؟ ألَم يُعلّمكَ أبوكَ التهذيب؟؟؟
- أنا آسف يا عمّتي... لكن...
- كفى أرجوكَ! فلدَيَّ الكثير مِن العمَل قبل عودتي إلى عائلتي
- أخبرَني والدي عن مشاكلكما... والذنب ليس ذنبي لِتُعاقبيني على أشياء لَم أقترِفها.
- أعذُرني يا صغيري... إنّه التعَب... إسمَع، لقد حضَّرتُ قالبًا مِن الحلوى... سأجلبُه ونأكلُ منه سويًّا.
فرحتُ بأنّ عمّتي لطَّفَت الأجواء قليلاً، لأنّني كنتُ بالفعل مُهتمًّا بها.
أكَلنا الحلوى وحدَّثَتني عمّتي قليلاً عن حياتها في الولايات المُتّحدة وعن زوجها وابنها ماهر. أسفتُ لأنّني لا أعرفُه على الإطلاق وأبدَيتُ رغبتي بِلقائه يومًا. ثمّ قلتُ لها بِحماس: "هيّا بنا نبدأ العمَل!". عمِلنا سويًّا بِجهد، فأنا أخذتُ على عاتقي إفراغ غُرَف النوم وهي باقي البيت.
وحين دخلتُ غُرفة نوم جدّتي، شعرتُ بِحنين كبير بِسبب خزانتها التي كانت تفوحُ منها رائحة عطرها، الذي بقيَ عالقًا على ملابسها بالرغم مِن مرور السنوات. وضعتُ تلك الملابس على حدة لِتوصيلها لاحقًا لإحدى المؤسّسات الخيريّة، ثمّ فتحتُ الأدراج لأرى ما عليّ فعله بِمحتوياتها. وإذ بي أقعُ على رُزمة مِن الصوَر القديمة مُخبّأة تحت الملابس الداخليّة.
جلستُ على السرير لأتفرَّج عليها والبسمة على وجهي، وبدأتُ أُحاولُ التعرّف على كلّ الأشخاص في الصوَر. وكَم كانت مُفاجأتي كبيرة حين رأيتُ صورة يظهَرُ فيها والدايَ... مع ولدَين! كنتُ قد بلغتُ بالكاد السنة أمّا الولَد الثاني، الذي يُشبهُني إلى حدّ كبير، فكان في الرابعة أو الخامسة مِن عمره. للحقيقة، خطَرَ ببالي أنّ ذلك الولد هو أحد أقربائي، إلا أنّه لَم يظهَر إلا بِرفقتي ووالدَيَّ. أمرٌ غريبٌ للغاية. وخطَرَ لي أن أنظرَ إلى الناحية الخلفيّة مِن الصوَر، فالبعض يكتبُ عليها تاريخًا أو وصفًا. ولَم أكن مُخطئًا، فعلى قفا كلّ تلك الصوَر كان مكتوبًا: "مع ماهر وسامي" و" مع تمنّيات عائلتنا الصغيرة". ماهر ابن عمّتي؟؟؟ وفهمتُ ما عنَته عمّتي عندما قالَت لي حين رأتني:" كَم أنّكَ تُشبهُه". لكن ما كان يفعلُه ماهر معنا في الصوَر مِن دون والدَيه؟ لَم أعرِف ما عليّ اعتقاده، فنادَيتُ عمّتي وسألتُها وأنا أُلوّحُ بالصوَر:
- عمّتي... أليس هذا ابنكِ ماهر؟
- ما هذه الصوَر؟ مِن أين جئتَ بها؟ أعِدها لي!
- لي الحق بالاحتفاظ بها، فأنا أظهرُ فيها مع أبوَيَّ. لكن قولي لي... لماذا ابنكِ معنا مِن دونكِ وزوجكِ؟ هل أتى في إحدى المرّات لِزيارتنا في البلَد؟ مهلاً... هناك فارق زمنيّ بين الصورة والأخرى! تراه عاشَ معنا؟
- لا أدري... لستُ أعلَم... لا أتذكَر!
- لا تعرفين هذه التفاصيل عن ابنكِ الوحيد؟!؟ وهل أبدو لكِ غبيًّا؟ ما الأمر؟ لماذا هذا التكتّم؟ أُريدُ إجابات!
- كَم أنّكَ مُزعج! يا لَيتني لَم أفتَح لكَ الباب قط!
وأخذَت عمّتي هاتفها واتّصلَت بأمّي صارخةً بها:
- تعالي إلى البيت العائليّ في الحال! سامي هنا وقد رأى صوَرًا لكم مع ماهر ويسألُني مئة سؤال! هيّا وإلا فقدتُ أعصابي!
وصلَت والدتي في غضون دقائق، وكأنّ عمّتي أخبرَتها أنّ البيت يحترِق. أخذَت منّي الصوَر وبدأَت بالبكاء بِصمتٍ أرعبَني. ومِن ثمّ نظرَت إليّ بِجدّيّة وقالَت لي:
- لَم نكن نُريدُكَ أن تعرِف الحقيقة قط... فالكلّ يعيشُ حياته بِسلام ونَبش الماضي لا يُفيدُ بِشيء... لكن مِن الواضح أنّ لا بدّ للأسرار أن تظهَر، فهي تبقى حيّة في حين نعتقدُها مدفونة إلى الأبد. ماهر هو أخوكَ.
- ماذا؟!؟ لي أخٌ؟؟؟ كبرتُ في وحدة قاتلة بينما هو في قارّة ثانية؟
- أجل يا حبيبي... لكن أرجوكَ ألا تُقاطعني... حين ولِدتَ بدأَ ماهر يتصرّفُ بِطريقة غريبة، ولَم يخطُر بِبالنا أبدًا ما بإمكانه فعله حقًّا بكَ. صحيح أنّ الأخوة يغارون مِن المولود الجديد، إلا أنّ ماهر كان مُختلفًا. أجل، كان ولَدًا شرّيرًا ومؤذيًا، وولادتكَ أيقظَت فيه تلك السمات البغيضة. فذات يوم، رأيتُه وهو يضَع وسادة على وجهكَ وأنتَ نائم، بِغرَض خنقكَ. أبعدتُه بِسرعة عنكَ، ووبّختُه ظانّةً أنّ ذلك كافٍ لِردعه عن المُحاولة مُجدّدًا. إلا أنّه حملَكَ بعد فترة قصيرة إلى الحمّام، ووضعكَ في المغطس الذي كان قد ملأه وثبَّتَ رأسكَ تحت الماء. أبوكَ هو الذي أنقذكَ في تلك المرّة. وأدركنا أنّ حياتكَ في خطَر دائم، خاصّة أنّ ماهر قال لنا بكلّ هدوء: "سيموت الصغير قريبًا وأعودُ وحيدكما". عندها أخذناه إلى طبيب نفسيّ مُختصّ بالأطفال، وكان تشخيصه بأنَّ أخاكَ خطِر بالفعل ولن يهدأ قبل أن يتخلَّص منكَ. كان بإمكانه الشفاء، لكن طول العلاج كان يُشكّلُ خطرًا على حياتكَ. لِذا أخذنا قرارًا صعبًا للغاية: إبعاد ماهر عنكَ قدر المُستطاع. طارَ أبوكَ به إلى أخته في الولايات المُتّحدة لِيتعالج هناك على مهل. عمّتكَ وزوجها لَم يُنجِبا فاستقبلا ماهر بِسرور.
- ولماذا لَم يعُد ماهر إلينا بعد شفائه؟
عندها تكلّمَت أخيرًا عمّتي:
- لأنّه لَم يشفَ... على الأقلّ بالكامل. قضَينا سنين خائفين منه إلا أنّه لَم يؤذِني وزوجي، فحِقده كان ولا يزال موجّهًا لكَ.
- حتى اليوم؟؟؟
- هو يقولُ عكس ذلك، خاصّة بعدما تزوّجَ وسكنَ ليس بعيدًا عنّي مع زوجته، لكنّني بِمثابة أمّه وأعرفُه جيّدًا. ثِق بي، وجودكَ مِن دونه هو الأفضل.
إلا أنّني لَم أقتنِع بِكلام عمّني وقرَّرتُ سرًّا لقاء أخي.
يُتبَع...