زوّجوني مِن إمرأة مجنونة

أرسلوني إلى الأرجنتين عندما كنتُ في الخامسة عشر من عمري، ليكون لي مستقبلاً مختلفاً عن الذي عرفَه أبي. كنّا فقراء والحلّ الوحيد كان، أن أهاجر عند أقاربنا وأحاول جني ما يكفي للخروج من العوذ. وهكذا رحلتُ بعد أن ودّعتُ أهلي ووصلتُ إلى بوينوس أيرس وبدأتُ حياتي الجديدة في مزرعة إبن عمّنا.
مرّت السنين وأصبحتُ أملك مواش عديدة وسرعان ما بدأ المال يتدفّق عليّ لأرسل قسماً كبيراً منه إلى البلد. وبعد عشرين سنة، قرّرتُ أن أعود بصورة نهائيّة محمّلاً بمبالغ كبيرة وآمال عديدة. وإستقبلَني الجميع بأذرع مفتوحة لكثرة شوقهم لي.
وبعد وصولي بأيّام، علمتُ أنّ البحث عن العروس المناسبة كان قد بدأ. وللحقيقة لم تكن في نيّتي أن أتزوّج، على الأقلّ ليس قبل أن أستقرّ ولكنّ أمّي أحبّت أن تفرح بي قبل أن تغادر الحياة بعد أن علمَت أنّها مصابة بداء خبيث. لذا قبلتُ أن أتعرّف إلى التي وقعَ عليها الإختيار. وهكذا قابلتُ سمر ووجدتُها لطيفة ورقيقة ولبقة بكلامها وتصرّفاتها وأعجبتُ بدلالها. وبعد فترة قصيرة أصبحنا نتواعد ولكن كان هناك دائماً أحد معنا وإعتقدتُ أنّ السبب كان حرصهم على سمعة الفتاة. ولم يمضِ على لقاءنا الأوّل أكثر من ثلاثة أشهر حتى أن إحتفلنا بزواجنا وسط فرحة كلتا العائلتين. كنتُ سعيداً آنذاك لأنّني إعتقدتُ أنّ حياتي كانت قد إكتملَت بعد أن عانيتُ الكثير. فبعد أن عدنا من شهر العسل، أبديتُ رغبتي بإنجاب طفل يتوّج نجاحي. ولكنّني فوجئتُ بردّة فعل حماتي التي طلبَت منّي تأجيل الموضوع. وكان ردّي لها:

 

- عذراً يا حماتي... ولكنّ الأمر لا يعنيكِ.

 

وبالطبع إستاءت المرأة كثيراً لما قلتُه لها ولكنّني لم أكترث لرأيها أو لرأي أحد، فلقد كنتُ قد عانيتُ الكثير خلال غربتي ولم أكن مسعدّاً لأن يدير أحداً حياتي عنّي. ولكي لا تؤثّر أمّها على زوجتي، أخذتُ لنا بيتاً آخراً بعيداً عن الكل وأقنعتُ سمر بأن تحمل إبني. ولكن ولحسن حظّي لم يتسنّى لها أن تفعل، لأنّ الأمور سرعان ما تتالَت بشكل مخيف. فبعد بضعة أيّام على إنتقالنا إلى منزلنا الجديد، حدثَ شيء أثار دهشتي. ففي ذات ليلة، إسيقظتُ على صوت زوجتي وهي تغنّي. كنتُ غارقاً في النوم وحسبتُ نفسي أحلم لأنّه من غير الممكن أن يغنّي أحداً في ساعة متأخرّة. ولكنّني لم أكن أحلم، بل المشهد كان جد حقيقيّ. سألتُها:

 

- ماذا تفعلين؟ هل فقدتِ صوابكِ؟ أريد أن أنام!

 

ولكنّها لم تجب وتابعَت غناءها. وبينما كنتُ أنظر إليها بإستغراب، قامَت من الفراش وبدأت ترقص حول السرير وترنّم لحن الأغنية نفسها. ثمّ عادَت إلى الفراش وأغمضَت عينيها ونامَت. عندها قلتُ لنفسي أنّ المسكينة تشعر بالوحدة والغربة بعيداً عن ذويها وأنّها ستتحسّن بعد فترة قصيرة. ولكنّ الأمر لم يكن بهذه السهولة. فبعد يومين على الحادثة الأولى، إستفقتُ مجدّداً على سمر وهي جالسة في السرير تكلّم شخص وهميّ باللغة الفصحى.
طلبتُ منها أن تستيقظ ولكنّها لم تتجاوب وتابعَت الحوار مع المجهول وإستطعتُ التعرّف على ما كانت تفعله: كانت تعيد تمثيل مقطع كامل من المسلسل الذي عُرضَ قبل ساعات. إنتظرتُها حتى إنتهَت ونامَت حتى أفكّر بحلّ لما يجري. وفي الصباح أخبرتُ زوجتي بالذي تفعله ليلاً ولكنّها لم تصدّقني بل ضحكَت ظانّة أنّني أمازحها. وخلتُ أنّها ستكفّ عن الإستيقاظ أثناء نومها لأنّني أخبرتُها بالأمر ولكن في نفس الليلة أعادَت الكرّة ولكن هذه المرّة بلغة أجنبيّة. إستطعتُ أن أفهم من كلماتها أنّها تعيد تمثيل فيلماً هنديّاً شاهدَته قبل أن تنام يروي على ما ظننتُ قصّة دراماتيكيّة لأنّها بدأت بالبكاء والتوسّل ثمّ ركعَت على الأرض وبدأت تخلع قميص نومها. ركضتُ إليها وحملتُها إلى الفراش وعملتُ على تهدئتها. بعد بضعة دقائق غرقَت في النوم. وفي تلك اللحظة قررتُ أنّ عليّ إستشارة أخصّائي خوفاً من أن يتفاقم الوضع. وفي اليوم التالي حصلتُ على رقم وعنوان طبيب نفسي وذهبتُ إليه طالباً المساعدة. بعدما إستمع إلى قصّتي قال لي:

 

- سيّدي... كنتُ أفضّل لو جئتَ بزوجتكَ إليّ ولكنّني وممّا رويتَ لي أستطيع القول أنّها تعاني من إنفصام في الشخصيّة...

 

- هل هذا يعني أنّ حالتها خطرة؟

 

- قد تكون خطرة... عليها وعليكَ...

 

- كيف ذلك؟

 

- إسمعني... تقول لي أنّها تمثّل أجزاء أفلام ومسلسلات تراها على التلفاز... ماذا لو شاهدَت أحداً يقتل شخصاً آخراً؟

 

- لم أفكّر بذلك... يا إلهي!

 

- أنا لا أجزم أنّ ذلك سيحصل حتماً ولكن هناك إحتمال بسيط... وماذا لو في أحد الأفلام ترمي البطلة نفسها من النافذة؟

 

- مصيبة... ما العمل؟

 

- أريد أن أراها في أسرع وقت.

 

- وماذا لو رفضَت؟

 

- يمكنكَ التكلّم مع أهلها فقد يستطيعون إقناعها.

 

وتوجّهتُ فوراً إلى والدتها وأخبرتُها كل ما حدث طالباً منها المساعدة ولكنّها لم تبدِ الإستغراب الذي توقّعتُه منها، بل بقيَت صامتة طوال الوقت. عندها علمتُ أنّها تعرف الكثير عن الموضوع. فسألتُها:

 

- أنتِ تعلمين أنّها مريضة... أليس كذلك؟

 

- أجل... وكنتُ أذهب يوميّاً لإعطاءها الدواء ولكن عندما أخذتَها بعيداً توقّفَت عن تناول الحبوب.

 

- كانت مريضة منذ الأوّل؟ ولماذا لم يخبرني أحد بالأمر؟

 

- لأنّها تكون طبيعيّة جداً عندما تتابع العلاج ولو أخبرناك لما تزوّجتَها.

 

- هكذا إذاً... أعطيتموني إمرأة مجنونة! شكراً جزيلاً!

 

وخرجتُ غاضباً لأنّهم زوّجوني من فتاة لن يريدها أح،د فقط لأنّني آتٍ من الغربة ولستُ على علم بحالتها. وعندما عدتُ إلى البيت، أجبرتُ سمر على مرافقتي عند الطبيب. وبعد أن جلس معها مطوّلاً، أكّد تشخيصه السابق وقال أنّ على زوجتي أخذ أدويتها بإنتظام وإلا قد تصبح خطيرة. ولكنّ سمر لم تكن تريد أن تتعالج لأنّها سئمَت من الأدوية والأطبّاء الذين رافقوها منذ صغرها، لذا قررتُ أن أنفصل عنها.
كنتُ قد عملتُ ما بإستطاعتي لمساعدتها على الحصول على حياة طبيعيّة ولكنّها لم تكن مستعدّة للتجاوب وكنتُ مرتاح الضمير. ولكن عائلتها لم تستوعب فكرة رجوعها إليهم، خاصة أنّهم لن يقدروا أن يزوّجوها مجدداً بعد أن أصبحَت حالتها علنيّة، فبدأوا بالتهديد والتهويل وأرسلوا لي شخصاً ليخبرني أنّ لا رجوع عن زواجي من سمر إلا إذا كنتُ ميتاً. وأعترف أنّني خفتُ على حياتي من هكذا أناس وبما أنّ كان من المستحيل أن أعيش مع زوجة مجنونة، فضّلتُ الرحيل إلى حيث كنتُ أيّ الأرجنتين.
رحلتُ وقلبي حزين، لأنّني كنتُ أعتقد أنّ أيّام الغربة كانت قد إنتهت أخيراً ولأنّني تركتُ بيت أهلي في ذات ليلة وكأنّني مجرم تطارده العدالة. وبقيتُ مجدداً في الغربة أكثر من عشرين سنة إلى حين أخبروني أنّ سمر توفيَت في المصحّ الذي وضِعَت فيه بعدما ساءت حالتها العقليّة. عدتُ إلى منزل فارغ، لأنّ والديّ كانا قد توفِيا في هذه الأثناء. ماذا فعلتُ بحياتي؟ لا شيء يذكر سوى العمل وجني المال. أمّا بالنسبة للسعادة والحب، فلم أعد حتى أبحث عنها ولا أنتظرها.

 

حاورته بولا جهشان 

المزيد
back to top button