كنتُ قد بدأتُ العمَل في ذلك المطعم الشعبيّ الصغير لأدفَع قسط جامعتي، فبالكاد كان أبي يجني ما يكفي. وكان شرطه لدخولي الجامعة أن أدفع كامِل المصاريف وإلا اضطُرِرتُ للتخلّي عن حلمي بالحصول على اجازة جامعيّة. لَم يكن العمَل يُخيفُني بل العكس، فاختَرتُ مكانًا حيث عليّ التعامل مع شتّى أنواع الناس وبطريقة مُكثّفة. وكان المطعم المذكور يستقبل على مدار الساعة عدَدًا لا يُحصى مِن الزبائن، مُعظمهم مِن العاملين في الشركات والمصانِع المُجاورة. إرتدَيتُ وزرة النادِلة المُلوّن، وباشَرتُ بالعمَل بعد أن درّبَتني احدى زميلاتي وحذّرَتني مِن كَسر أيّ طبق لأنّ عليّ دفع ثمنه مِن راتبي. لكنّها طمأنَتني بأنّ الاكراميّات كانت كبيرة، هذا إن أحبَّني الزبائن. كان عليّ أن أكون دائمًا مُبتسِمة وطويلة البال، وأُخفِّف عنهم وطأة عمَلهم الذي كانوا يتركونه لمدّة ساعة ليعودوا إليه بعد تناولهم وجبتهم.
كسَرتُ طبعًا بعض الأطباق ودفعتُ ثمنها، إلا أنّني صرتُ نادِلة جيّدة وأحبَّني الجميع. كان العمَل إلى جنب الدرس أمرًا مُرهُقًا بالفعل، لكنّني كنتُ في سنّ يُخوّلني تحمّل هذا الضغط.
وكان هناك زبون مُميّز أثارَ اهتمامي، وحمَلَني على انتظاره يوميًّا لأرى ما يدورُ في حياته. سألتُ زميلاتي عنه، إلا أنّ ما مِن أحَد كان يعرفُ عنه شيئًا بسبب صمته الدائم. ففؤاد، وكان هذا اسمه، كان يأتي كلّ يوم في التوقيت نفسه ويطلب قنّينة مِن الماء وحسب، لأنّه كان يجلبُ معه طعامه في مُستوعَب مُقفَل يضعُه على الطاولة أمامه ويأكل ما في داخله بصمت. وكان غداؤه دائمًا هو نفسه وبارِدًا، لا اضافة أو تغيير فيه، الأمر الذي لَم يكن يُصدَّق! سمَحَ له صاحب المطعم بِجَلب طعامه بعد أن رأى في عَينَيه ما رأيناه كلّنا: حزن ويأس عميقان إلى درجة لا توصَف. هو لَم يكن يُزعجُ أحدًا، بل يجلسُ إلى الطاولة نفسها في الزاوية ثمّ يُغادِر بعد أن يدفَع ثمَن قنينة الماء. مجيء فؤاد إلى ذلك المطعم يعودُ إلى ما قَبل أن يشتري صاحب المكان الحاليّ المطعم مِن الذي سبقَه، أي منذ حوالي العشرين سنة، فصارَ جزءًا مِن الأثاث ومِن حياة كلّ العاملين وباقي الزبائن.
لا أدري لماذا، بل صارَ فؤاد يشغلُ بالي طوال الوقت، وحصَلَ أنّني رأيتُ في منامي وجهه الصامِت والكئيب، لِذا قرّرتُ أن أعرفَ المزيد عنه.
وهكذا لحقتُ به ذات يوم بعد أن دفَعَ ثمَن قنيّنة الماء وأرجَعَ المُستَوعَب إلى شنطته بتأنٍّ، فمشيتُ وراءه إلى أن وصَلَ مقرّ عمله وهو مكتب للمُحاماة. هكذا إذًا... كان فؤاد مُحاميًّا! دخلتُ بعد دقائق المكتب وقلتُ للسكرتيرة:
ـ أعذريني... لكنّ السيّد الذي دخَلَ للتوّ نسيَ شيئًا... إسمه السيّد فؤاد... لا أتذكّر اسمه الكامل.
ـ أجل، فؤاد م.
ـ نعم، نعم! هل لكِ أن تقولي له إنّ عليه مُراجعة قسم الزبائن في المُجمّع التجاريّ؟ أرجو فقط ألا يكون منزله بعيدًا.
ـ لا، فهو يسكنُ في الشارع الموازيّ. سأُمرِّر له الرسالة، شكرًا.
كنتُ قد قلتُ "المُجمّع التجاريّ" كي لا يشكّ بالمطعم، فهو حتمًا لَم يضِع شيئًا عندنا. فرِحتُ لإنجازي لكنّني خجِلتُ للطريقة التي استعملتُها لمعرفة تفاصيل ليست مِن شأني. إلا أنّني كنتُ صبيّة مُفعمة بالتساؤلات، وأحبّ معرفة كلّ ما يدور مِن حولي. عدتُ إلى عمَلي فرِحة لكنّني لَم أُطلِع أحدًا على ما فعلتُه أو علِمتُه، فكان "فؤاد" ملكي أنا وحدي!
مرَّت الأشهر ولَم يتغيّر شيء في حياتي أو حياة فؤاد، سوى أنّنا صِرنا مُقرّبَين مِن بعضنا أكثر بسبب وجودنا اليوميّ في المكان نفسه. وأصبحتُ أكثر تقبّلاً لروتينه، ولَم أعُد مُتحمّسة لمعرفة المزيد عنه وكأنّني تقبّلتُه أخيرًا، شأن باقي العاملين وصاحب المطعم. فكان فؤاد واحدًا منّا وليس أكثر.
إلا أنّ زبوننا المُميّز لَم يأتِ في أحَد الأيّام فانتابَنا جميعًا همّ عميق، وتأثَّرَ عمَلنا طيلة النهار، فشيء قال لنا إنّ فؤاد ليس على ما يُرام... أو إنّه ماتَ! لِذا، ركضتُ بعد انتهاء دوامي إلى ذلك الشارع حيث يسكنُ، وسألتُ سائر المحّلات عنه إلى حين استطاع أحَد أخيرًا اعطائي عنوانه بالتحديد. صعدتُ سلالم مبنى عالٍ، وقرَعتُ باب الرجُل مِن دون أن أُفكِّر بالذي أفعله. مرَّت دقائق قليلة قَبل أن يفتَحَ لي فؤاد الذي بدا لي في حالة مُزرية وبالكاد تعرّفَ إليّ. لِذا إضطرِرتُ للتعريف عن نفسي، وهو قال: "آه، أجل، أجل... ماذا تُريدين منّي؟ وكيف علِمتِ أين أسكن؟ على كلّ الأحوال، هذا ليس مُهمًّا، لا شيء يهمّ في آخِر المطاف، أليس كذلك؟". لَم أعرِف بماذا أُجيبُه، فهزَزتُ برأسي وهو بقيَ واقفًا مِن دون أن يتحرّك لدرجة أنّني خلتُه ماتَ! إلا أنّه استعادَ رشده وسألَني إن كنتُ أريدُ أن أدخُل بيته، لكنّني رفضتُ طبعًا قائلة إنّني جئتُ لأطمئنّ عليه وحسب. رحلتُ بعدما وعدَني فؤاد بأنّه سيأتي إلى المطعم في اليوم التالي وقال إنّه فقط مُحبَط قليلاً. عدتُ إلى البيت لكنّني لَم أستطِع الدرس لكثرة تأثّري بذلك الرجُل وحياته البائسة والغامِضة. إنتظرتُ بصبر مجيء اليوم التالي لأرى إن كان فؤاد سيأتي أم لا، وإلا طلَبتُ طبيبًا له أو حتّى الاسعاف! فلَم أكن أريدُ خسارة صديقي، خاصّة بعدما إختبَرتُ كيف يكون المطعم مِن دونه.
إبتسَمتُ حين دخَلَ فؤاد المطعم وتلاقَت عيوننا وكأنّه يقولُ لي: "أترَين؟ لقد وفَيتُ بوعدي لكِ". كان يبدو هزيلاً، لكن في حال أفضل مِن اليوم الذي سبَقَ، فاطمأنَّ بالي قليلًا عليه. جلَبتُ له قنّينة ماء بسرعة، ووقفتُ قبالته أنظرُ إليه بصمت. قال لي: "تُذكّريني بها حين هي كانت في مثل سنّكِ. إجلسي".
كنتُ أعلَم أنّ فؤاد على وشك قول ما هو مُهمّ، على الأقلّ بالنسبة له، فجلستُ إلى طاولته بعدما نظرتُ إلى صاحب المطعم، وهو أومى لي برأسه مُعرِبًا عن موافقته. فتَحَ فؤاد المُستوعَب الذي يحتوي على الطعام نفسه، وأشارَ إليه قائلاً:
ـ كان هذا الطبَق الأخير الذي حضّرَته لي... طبَقي المُفضّل... لكنّني وجدتُه باردًا في ذلك اليوم، على غير عادة، فهي كانت تنتظرُني وتسخِّن الطعام قَبل وصولي وغالبًا مرّات عديدة، بسبب تأخّري الدائم. كَم مِن مرّة هي أكلَت لوحدها، المسكينة! وكَم مِن ساعات انتظرَت أن أتذكَّر أنّ لدَيّ بيتًا وزوجة! فضّلتُ العمَل على زوجتي التي اعتبَرتُها تحصيلاً حاصلاً... ألَم تكن دائمًا موجودة حين احتجتُها، جاهزة بصمت تترقّب أقلّ حركة مِن قِبَلي لتُلبّي طلباتي؟ فلماذا أشغلُ بالي بها، لماذا أُعطيها مِن وقتي حين كان لدَيها كلّ الوقت لتخدمَني؟ مُغفّل كبير، صدّقيني.
ثمّ بدأ فؤاد الأكل بشهيّة كبيرة بينما إمتلأت عينايَ بالدموع. بعد ذلك، هو وضَعَ يدَه على يدَي وتابَع:
ـ طبق لذيذ للغاية! لقد كانت طاهية ماهِرة لا تقوى عليها وصفة! كانت تطهو لي بحبّ، وكأنّها تطهو لابنها الحبيب التي لَم تُرزَق به، فأنا عاقِر... أجل، لا أخجَل مِن ذلك منذ ما... أتعلمين؟ زوجتي إدّعَت أمام الناس أنّها السبب في عدَم انجابنا للأولاد، وأنا استغلَّيتُ الوضع لأبدوَ أمامهم الضحيّة، وكأنّني بقبولي بها فعلتُ شيئًا عظيمًا. حقيرٌ أنا... هي تحمّلَتني لأعوام كثيرة مِن دون أن تشتكي، مُترقّبةً كلمة جميلة منّي أو حتّى نظرة تقدير. مُجتمعنا ساهَمَ بما كنتُ عليه، حين علّمَنا أنّ الرجُل هو الملَك والمرأة شبه خادِمة له، لكنّني لا ألقي اللوم عليه وحده، فالله أعطاني عقلًا ومنطِقًا لأستعملهما وأقدِّر ما يُعطى لي. وما أُعطِيَ لي كان لؤلؤة نادِرة وهشّة سحقتُها برجلَيَّ باسم الرجولة الزائفة. أتريدين تذوّق هذا الطبَق؟
ـ لستُ أدري...
ـ هيّا! أطلبي صحنًا صغيرًا وشوكة، سترَين! إنّه لذيذ للغاية!
ذقتُ الطبَق وكان بالفعل لذيذًا، فسألتُه:
ـ قُل لي... مَن حضَّرَه؟
ـ أنا بالطبع. أذهبُ إلى البيت مساءً وأطهو لنفسي لليوم التالي.
ـ الطبَق نفسه.
ـ الطبق نفسه! تُريديني أن آكُل طبَقًا آخَر؟!؟ لا... وآكُله بارِدًا طبعًا، فيجب أن يكون باردًا!
ـ لكنّكَ لَم تقُل لي ما حصَلَ لزوجتكَ.
ـ صحيح، صحيح... فأنا أعيشُ مع الذي حصَلَ لها منذ فترة طويلة، لدرجة أنّ ذلك باتَ جزءًا منّي. ماذا حصَلَ لزوجتي الرائعة والحبيبة...\
حبَستُ أنفاسي ، فكنتُ خائفة مِن الذي سيقوله ومُتعطِّشة لمعرفة باقي القصّة في آن واحِد! عندها تابَعَ أخيرًا:
ـ أتعلَمين... لَم أؤذِ زوجتي يومًا، أعني جسديًّا، لَم أهِنها بالكلام ولَم أخُنها ولو مرّة. لكنّني فعلتُ لها ما هو أعظَم: تجاهَلتُها. أجل تجاهَلتُ مشاعرها، رغباتها، أحلامها، سعادتها، وصبَبتُ كلّ اهتمامي على نفسي، أنا المُحامي الكبير! ألَم أكن أجلِبُ المال إلى البيت؟!؟ قتلتُ زوجتي سنوات قَبل أن تقتُل نفسها، قتلتُ روحها وهي قتلَت جسدها، جسدها الفارغ مِن البهجة والأمَل، فما النفع منه؟ هذا ما قرّرَته ولا ألومُها على الاطلاق. حضّرَت لي زوجتي طبَقي المُفضّل ووضعَته على مائدة الطعام، لكنّها لَم تنتظرني في تلك المرّة بل راحَت إلى غرفتنا وتناولَت كمّيّة أقراص كافية لترحَل بعيدًا عنّي. أظنّ أنّها أمِلَت أن أفهَم أخيرًا أنّها موجودة، حتّى لو كلّفَها ذلك حياتها. وجدتُها نائمة، وماذا تُريديني أن أفعل؟!؟ بدأتُ أصرخ بها لتنهض وتُسخِّن لي الطعام، أجل! ثمّ أزلتُ الغطاء عنها وأمسكتُها بكتفَيها صارخًا: "هل أنتِ صمّاء؟!؟ قومي وسخِّني الطبَق!". وحين رأيتُ قارورة الأقراص الفارِغة واستوعَبتُ أخيرًا ما يجري، إحتقَرتُ نفسي لدرجة لا توصَف... أيّ قذِر أنا؟ أيّ وحش؟ نمتُ بالقرب منها وداعَبتُ شعرها وقبّلتُ يدَها البارِدة هامسًا: "سامحيني... سامحيني... ألهذه الدرجة كنتِ تعيسة معي؟ سامحيني، بالله سامحيني!
بدأتُ بالبكاء عاليًا، فركضَت زميلتي مهمومة لكنّني أزَحتُها بِيَدي لترحل ولا تقطَع ما يحصل، فتلك اللحظات كانت بغاية الجدّيّة لي ولفؤاد. لكنّه بدا لي هادئًا، ربّما لأنّه استعادَ في ذاكرته تلك المشاهد مئة مرّة مِن قَبل.
إنتهى الرجُل مِن الأكل، فوضَعَ المُستوعَب في حقيبته ودفَعَ ثمَن قنّينة الماء ورحَلَ، بعد أن ابتسَمَ لي لأنّني استمَعتُ له. بقيتُ جالِسة مكاني لدقائق وأنا أبكي. يا للمأساة... هل يجِب أن يحدث ذلك حتّى يستوعِب الانسان ما كان لدَيه؟ هل أنّ الخسارة أمر ضروريّ لتقدير ما أُعطِيَ لنا؟
تذكّرتُ على الفور أمّي التي كانت مُتفانية لنا، تمامًا كزوجة فؤاد. هل أنّنا كنّا نُقدِّر ما تُقدّمه لنا مِن تضحيات على مدار الساعة؟ بالطبع لا، أو فقط أحيانًا. وماذا عن أبي؟ هو الآخَر كان يعتبرُ نفسه أنّه يقومُ بواجباته تجاهها بِجَني المال والصرف على المنزل. ولكن متى كانت آخِر مرّة جلَبَ لها هديّة أو أخذَها إلى مكان جميل؟ هل كان يقولُ لها إنّها جميلة وكَم هو يُحبّها؟ أشكُّ بذلك.
ولدى وصولي إلى البيت مساءً، وجدتُ والدي جالسًا أمام التلفاز كعادته. فسألتُه:
ـ أتذكُر ذلك الزبون الذي أخبرتُكم عنه؟ ذلك الذي يأتي بالطعام نفسه كلّ يوم إلى المطعم؟ لقد عرفتُ قصّته أخيرًا! أطفئ التلفاز واستمِع إليها.
بكى والدي كثيرًا ونظَرَ إليّ مُعاتِبًا لأنّه فهِمَ الرسالة، وعندما عادَت أمّي مِن زيارة أختها، قالَ لها: "لقد غبتِ طويلاً... والبيت فارُغ مِن دونكِ... ولقد... لقد اشتَقتُ لكِ."
حاورتها بولا جهشان