راقصة المقهى التي أصبحت زوجة المهراجا!

هي قصّة الحبّ التي جمعت ما بين الهند والأندلس، وكُتبت عنها الروايات لتتحوّل إلى فيلم سينمائي يُحضّر له حاليّاً. 

في احد أيّام شهر مايو من عام 1906 شهدت العاصمة الإسبانيّة مدريد، زواج الملك الاسباني ألفونسو الثالث عشر من الأميرة الانجليزية فيكتوريا دي باتينبيرغ.
وقد دُعي إلى الحفل عدد من قادة الدول والشخصيات الأخرى المهمّة. وكان من بين هؤلاء مهراجا هندي يُدعى جاغاتجيت . وعندما وصل إلى الحفل كان يرتدي عمامة زرقاء مزيّنة بالفيروز واللؤلؤ والأحجار الكريمة، بينما رصّع صدره بالأوسمة وزيّن خصره بخنجر موشّى بالألماس.
كان وقتها سنغ في الرابعة والثلاثين من عمره. وكان من حاشية أمير ويلز الانجليزي. كما كان واليا بالوراثة في عائلته منذ مئات السنسن، على كابورتالا، الولاية التي تقع على سفوح جبال الهمالايا. وكان للمهراجا سنغ ثروة هائلة منحته نفوذا ومكانة كبيرين، داخل الهند و خارجها. غير انه أيضا اشتهر بشغفه بالنساء وبجمع المجوهرات الفخمة والنفيسة.

بعد انتهاء حفل زواج الملك، طلب المهراجا من حاشيته أن يبحثوا له عن مكان يسرّي فيه عن نفسه ويلتمس بعض التسلية والمتعة. وقد اختاروا له ناديا ليليّا لا يبعد كثيرا عن مكان إقامته في إحدى ضواحي مدريد. وكان من ضمن برنامج السهرة فقرة تَظهر فيها راقصة فلامينكو صاعدة تدعى وهي تؤدّي فاصلا من الرقص المبتكر على أنغام الموسيقى التقليدية.

كانت انيتا وقتها في السابعة عشرة من عمرها. وكانت تتمتّع بقدر كبير من الجمال والجاذبية. وعندما رآها المهراجا وهي ترقص لفت انتباهه قدّها الممشوق وشعرها الفاحم وعيناها الناعستان، فوقع في حبّها من النظرة الأولى. فسعى بعد ذلك للتعرّف على عائلتها وغمرهم بالهدايا الثمينة ومبالغ ضخمة من المال تكفي لإعالتها وأسرتها لسنوات عديدة إن وافقت أنيتا على الإقتران به. زفي النهاية، أرسلت له إلى باريس لتعلمه بموافقتها. 

ولم تمضِ أسابيع حتى كانت انيتا قد التحقت بالمهراجا في باريس. وعندما وصلت إلى هناك، كان في استقبالها عدد من أفراد حاشيته وخدمه وعشرات السيارات الفخمة. وقد أخُذت فور وصولها إلى قصر فاخر يقع في إحدى ضواحي باريس. وكانت هناك رسالة بانتظارها تقول: "لن تري الأمير حتى تتقني الفرنسية، لأنه لا يرغب في التعبير عن مشاعره الخاصّة عن طريق شخص آخر".

تغيّرت حياة انيتا بعد ذلك بشكل مدهش. وبالنسبة لامرأة اسبانية شابّة من خلفية اجتماعية متواضعة وبالكاد تعرف القراءة والكتابة، كان الحصول على قدر من التعليم الكافي مع إمكانيات السفر والتقدّم الاجتماعي من الأشياء النادرة والصعبة. لكن خلال فترة وجيزة، تعلّمت ركوب الخيل والعزف على البيانو والتحدّث بالفرنسية والإنكليزية وكيفية مراعاة البوتوكول في المآدب والحفلات الرسمية.

وبعد مباشرة المهراجا سنغ بوضع الترتيبات الخاصّة بانتقاله هو وعروسه إلى الهندسافرا إلى بومباي حيث جرت مراسم الزفاف الفخمة والباذخة في كابورتالا في احد أيّام شهر يناير من عام 1908م. غير أن انيتا أحسّت بالصدمة عندما علمت أن المهراجا متزوّج من أربع نساء وأن له منهنّ أربعة أبناء، احدهم في مثل سنّها. وبعد أن فكّرت في الأمر، قرّرت أن من الأسلم لها أن تداري تبرّمها وانزعاجها وترضى بما كُتب لها. 

كانت هناك أربع خادمات يقمن على راحتها. وكلّ منهنّ مختصّة بوظيفة مختلفة. زوجها المهراجا ذو التفكير المتحرّر والمتأثّر بالثقافة الغربية منحها قدرا كبيرا من حرّية التصرّف وسمح لها بأن تعيش خارج تقاليد الحريم وأنعم عليها بلقب الماهاراني، أي زوجة المهراجا. كان سنغ يعتبر انيتا زوجته المفضّلة. وقد أولاها رعايته واهتمامه وأهداها أفخم وأغلى أنواع المجوهرات التي صنعتها لها خصّيصا أشهر الشركات العالمية.

شَغف المهراجا بالمجوهرات لم يلبث أن انتقل إلى انيتا نفسها. كانت هناك جوهرة كبيرة من الزمرّد على هيئة هلال من تصميم شركة بيل ايبوك العالمية. هذا الحجر الثمين كان يزيّن اعزّ أفيال المهراجا إلى قلبه. وقد رأته انيتا ذات يوم وأعجبت به فأهداها إيّاه في عيد ميلادها التاسع عشر. وكانت ترتدي الجوهرة وتزيّن بها جبينها في المناسبات والحفلات الرسمية.

قصّة زواج انيتا ديلغادو الرومانسي والعابر للجغرافيا والثقافة اكسبها شهرة عالمية. وقد أصبحت تُكنّى بـ سندريلا الاسبانية وأخذت لها العديد من الصور وكُتبت عنها مقالات وتحقيقات لا تُحصى في الكثير من الصحف والمجلات العالمية في بدايات القرن الماضي. كما أصبح ذلك الزواج مقترنا بعالم الهند القديم الذي ذهب إلى الأبد، ذلك العالم النقيّ والمصاغ من أجواء قصائد رابندرانات طاغور وروديارد كيبلنغ. كان المهراجا سنغ صديقا للعديد من ساسة وحكّام العالم. وكانت له أسفاره الكثيرة. كما كان من عادته أن يأخذ انيتا معه أينما ذهب. وقد تُوّج زواجهما السعيد بولادة طفلهما الوحيد الذي أسمياه "اجيت".
لكن، ومثل معظم قصص الحبّ الخرافية، انتهت قصّة زواج انيتا ديلغادو والمهراجا جاغاتجيت سنغ نهاية حزينة. فقد أصبح المهراجا منصرفا بالكامل إلى تجارته وأعماله الخاصة. ونتيجة لذلك، بدأت العلاقة بينهما تفتر شيئا فشيئا، مما دفع بأنيتا إلى إبداء الإهتمام بأحد أبناء المهراجا. وقد شجّعها على ذلك تقاربهما في السنّ وحاجة انيتا العاطفية إلى شخص تبثّه همومها ويخفّف عنها إحساسها المتزايد بالغربة. لم يكن المهراجا غافلا عمّا كان يجري بين زوجته وابنه. فكان يرسل عيونه لمتابعتهما ورصد تحركّاتهما. ومع مرور الوقت، تأكّدت ظنونه وأيقن من خيانة زوجته له.

وقد تطوّرت علاقة الزوجة والابن إلى أن أتى يوم أصبحت فيه انيتا حاملا. كان المهراجا سنغ رجلا يتّصف بالحكمة والأناة وحسن التصرّف. وعندما علم بالخبر اجبرها على إجهاض جنينها ودفع ولده دفعاً إلى الزواج. وبعد أن شُفيت من آثار الإجهاض، قام بتطليقها وأمرها بمغادرة الهند دون إبطاء وألزمها بعدم العودة إليها تحت أيّ ظرف. كما قرّر أن يمنحها راتبا شهريّا مدى الحياة شريطة أن لا تتزوّج بعده أبدا. وقد قبلت انيتا بهذه الشروط مكرهة.

وانتهى الزواج رسميّا عام 1925، أي بعد ثمانية عشر عاما. وكان عمر انيتا آنذاك 33 عاما. ابن المهراجا كان الحبّ الأكبر في حياة انيتا ديلغادو. وبعد وفاة والده عام 1947، أي بعد وقت قصير من استقلال الهند عن بريطانيا، داوم على الذهاب سرّا إلى باريس، حيث أصبحت تقيم، لرؤيتها والالتقاء بها.

كانت انيتا تتنقّل ما بين باريس ومدريد. وأخيرا استقرّت في مدريد إلى أن توفّيت فيها في يوليو عام 1962 بنوبة قلبية. غير أن قصّة انيتا ديلغادو لم تنته بوفاتها. إذ انتقلت مجوهراتها لابنها الوحيد الذي باع القطع الرائعة والنادرة إلى بعض العائلات الأوربّية الثريّة.

انيتا ديلغادو، ابنة مالك المقهى المتواضع التي غادرت وطنها لتعيش 18 عاما حياة القصور والترف في إحدى قرى سفوح جبال الهمالايا، فتنت قصّتها المجتمع الإسباني على مدى عقود، لدرجة أنه أصبح يقال عن أيّ امرأة شابّة تحلم بالانجاز الاجتماعي أنها تريد أن تتزوّج من مهراجا! 

المزيد
back to top button