دخلتُ السجن مِن أجلها

سُئلتُ مراراً لماذا تأخّرتُ هكذا لفهم حقيقة زوجتي وكيف تحمّلتُ ما فعلته بي، فجوابي لهم كان دائماً نفسه: "بسبب الحب". لأنّني أحببتُ صفاء من كل قلبي ولم أكن قادراً على العيش من دونها مهما فعلَت بي  وأعلم أنّ ذلك قد يبدو صعب الإستيعاب بالنسبة لمعظم الناس ولن يفهمني سوى الذي ذاق طعم الحب الحقيقي.
كل شيء بدأ، عندما جاءت صفاء مع أهلها للعيش قرب مسكننا عندما كانت في الخامسة من عمرها. كنتُ أكبرها بسنتين وفور وصولها إستقبلناها في شلّتنا وأصبحَت تلعب معنا يوميّاً بعد المدرسة. ولأنّني كنتُ الأكبر سنّاً كنتُ آخذ القرارات وأدير اللعب وأحمي الصغار بيننا. وهكذا ولِدَ فيّ شعور بأنّ عليّ الإنتباه إلى صفاء كونها صغيرة وجديدة في الشلّة. ومرّت السنين والصداقة التي تربطنا نمَت إلى حدّ إعتقدنا أنّنا عائلة واحدة، لنا قواعدنا الخاصة بنا لا يستطيع أحد أن يخترقها. وما لم أكن أعرفه بعد، هو أنّني كنتُ قد بدأتُ أحبّ صفاء حبّاً كبيراً، لأنّها أصيحَت جزء من حياتي اليوميّة ولم أعد قادراً على تخيّل نفسي من دونها. ولكن بعد أن أنهَت سنتها الدراسيّة الأخيرة، قرّر أهلها إرسالها إلى جامعة في الولايات المتّحدة حيث تسكن خالتها. وعندما سمعتُ الخبر، أصبحتُ كالمجنون وبدأتُ أصرخ أنّني أعترض على هكذا قرار إتّخِذ دون موافقتي كوني رئيس الشلّة. ولكنّني طبعاً لم أستطع فعل شيئاً لإبقاءها في البلد وبعد وداع أليم، ذهبَت رفيقة طفولتي وحبيبة قلبي إلى قارة بعيدة. ولأنّنا وعدنا بعضنا أن نبقى على إتّصال، بدأنا نتراسل بإنتظام على الأقل في الفترة الأولى ولكن بعد أشهر قليلة بدأت أخبارها تشحّ حتى أن توقّفَت كليّاً ولم أعد أعلم عنها شيئاً. وتغيّرَت حياتي ومن إنسان فرح، أصبحتُ حزيناً وكئيباً أذهب إلى الجامعة وأعود منها لأنفرد في غرفتي وأفكّر باللتي ملأت الدنيا عليّ.
وتخرّجتُ بعد سنتين وبدأتُ بالعمل في مصرف ولكن لم تتغيّر نفسيّتي، بل ساءت حتى أن قرّر أهلي إرسالي إلى طبيب نفسي. ولكنّني تظاهرتُ بالذهاب إلى تلك الجلسات لأنّني لم أكن أريد نسيان حبيبتي، حتى لو سبّب لي ذكراها الألم والحزن. وبقيتُ أعاني من ذلك البعد طوال سبع سنوات. وكنتُ قد فقدتُ الأمل بأن أراها مجدّداً إلى أن جاء يوم وقرعَ أحد جرسنا ليلاً وعندما فتحتُ الباب رأيتُ صفاء واقفة أمامي وبسمة عريضة على وجهها. في البدء ظننتُ نفسي أحلم ولكنّها وضعَت ذراعيها حول عنقي وضمّتني إليها بقوّة وهمسَت في أذني: "كم إشتقتُ إليك...". حينها أدركتُ أنّها فعلاً موجودة معي وأنّها عادَت إليّ أخيراً. حملتُها إلى الصالون حيث كان أهلي جالسين وقلتُ لهم بكل فخر:

 

- سأتزوّج من هذه الفتاة غداً صباحاً!

 

ولكنّهم بقيوا صامتين ونظرَت صفاء إليّ بحزن عميق وقالت:

 

- لقد خطبتُ شخصاً آخراً هناك في الولايات المتحدّة... أنا آسفة... كان يجدر بي أن أخبركَ بالأمر...

 

حين سمعتُ ذلك، شعرتُ بألم شديد في رأسي ووقعتُ أرضاً ومن ثمّ فقدتُ الوعي. وعندما إستفقتُ رأيتُ الجميع حولي والدموع في عيونهم. كانت صفاء تمسك بيدي وتقول لي أنّها تحبّني كثيراً. وعندما إستعدتُ كامل وعيي، سألتُها كيف إستطاعت أن تربط مصيرها برجل دون أن تخبرني فأجابَت:

 

- لقد ساعدني مايك كثيراً ووقفَ إلى جانبي أثناء تواجدي في الجامعة وبعد ذلك أيضاً وعندما طلبَ منّي أن أصبح زوجته قبلتُ عرضه...

 

- ومتى سيتمّ الزواج؟

 

- جئتُ أوضّب أموري هنا وسأعود بعد أقلّ من شهر... أنتَ أوّل شخص أراه بعد أهلي... لو تعلم كم أنتَ غالي على قلبي...

 

- لن تتزوّجي منه لأنّكِ لن تعودي إلى هناك أبداً... ستصبحين زوجتي أنا!

 

وأقنعتُها بأن تترك خطيبها عبر الهاتف وأن تعيش معي حتى آخر حياتها. وعدتُها بأنّني سأفعل المستحيل لإسعادها وأنّها لن تندم يوماً على قرارها.


وبعد أيّام على عودتها إليّ، تزوّجنا وبدأنا حياتنا سويّاً. وأصبحتُ في قمّة السعادة بعد أن حققتُ حلمي ولكنّني كنتُ أجهل حقيقة تلك المرأة التي حسبتُ أنّني أعرف كل شيء عنها. فخلال مكوثها في الخارج، حلّت تغيّرات مهمّة في طباعها بدأتُ ألاحظها بعد أقلّ من شهر على زواجنا. فلم يعد يعجب صفاء شيء، أيّ أنّها كانت تتذمّر من كل كبيرة وصغيرة، لدرجة أنّني شعرتُ بأنّني مقصّر في حقّها وأنّني استطيع فعل أشياء أكثر لكي تكون سعيدة. وكانت ترى أنّ حياتنا لا تناسب ما رأته في الولايات المتحدّة خاصة مع خطيبها الذي كان كما علمتُ رجل غنيّاً كان سيؤمّن لها حياة مريحة وراقية. أمّا أنا، فكنتُ لا أزال موظّفاً بسيطاً في المصرف ولم أكن قد صعدتُ بعد سلّم النجاح.
حاولتُ إفهام زوجتي الحبيبة أنّ عليها القبول بما هو موجود، على الأقلّ لفترة معيّنة ريثما أجني المزيد وأبتاع لها كل ما تتمنّاه. سكتَت لبضعة أسابيع ثمّ عادَت تتأسّف على ما فاتها مع ذلك الرجل وتقول أنّها أخطأت في الإختيار. أحزنَني حديثها كثيراً ولكنّني لم أغضب منها بل من نفسي لأنّني كنتُ قد وعدتها أن أعوّض لها إن لم تعد إلى خطيبها وشعرتُ أنّني لم أوفي بذلك الوعد. لذا رحتُ أفتّش عن وظيفة إضافيّة تخوّلني جني المزيد من المال، فوجدتُ عملاً في محل صيرفة يفتح على مدار الساعة. كان صاحب المحل يحتاج إلى شخص مثلي، لأنّني كنتُ أعرف في المسائل الماليّة وكنتُ موضع ثقة، فإرتاح لي ووظّفني لديه بعدما إتّفقنا على الراتب والعمولة. وبدأتُ أعمل من الصباح حتى ساعات الليل المتأخّرة وأعود إلى المنزل لأنام ساعات قليلة ومن ثمّ أذهب إلى المصرف. لم أكن أرى صفاء كثيراً، لأنّها في ذلك الوقت تكون غارقة في النوم، فتغيّرَت حياتنا الزوجيّة كثيراً.
ولكنّ الأمر لم يكن يزعجها طالما أتيتُ لها بالمال ولم تكن تبالي إن كنتُ أتعب من نمط عمل كالذي أصبح كالقصاص بالنسبة لي. وسرعان ما بدأ يؤثّر التعب عليّ وأصبحتُ ضيّق الأخلاق وصعب المزاج، إلى درجة أنّني إشتبكتُ جسديّاً مع أحد زملائي في المصرف أمام الزبائن، الأمر الذي سبّب لي الطرد. وعندما علمَت صفاء أنّني أصبحتُ بلا وظيفة، أيّ بلا مدخول ثابت، أُصيبَت بغضب كبير وتحوّلَت إلى إنسانة عنيفة وأخذَت تنعتني بالغبيّ والكسول وصفات مشينة كثيرة. وبدلاً من أن أضع حداً لعنفها هذا، إعتذرتُ منها على فشلي الذريع في تأمين حياة مريحة وكريمة لها ووعدتُها بأن أجد وبسرعة مصدراً آخراً للمال الذي فقدناه. وكان همّي الوحيد هو أن تبقى زوجتي معي وأن تحبّني من جديد مهما كلّف الأمر، لذا فعلتُ ما لم أتصوّره ممكناً، أي أنّني بدأتُ أسرق من صندوق محل الصيرفة الذي عملتُ فيه ليلاً. وبعد فترة إنتبَه صاحب المحل أنّ الحسابات ناقصة وأنّ شيئاً يحصل، فبعد التدقيق ذهب إلى الشرطة التي داهمَت منزلي وإعتقلَتني. وبينما كانوا يكبّلون يديّ نظرَت صفاء إليّ وقالت:

 

- لطالما كنتَ فاشلاً.

 

وفي تلك اللحظة أدركتُ أنّها لم تحبّني يوماً وأنّها إستغلَّت حبّي القوي لها لتؤمّن لنفسها حياة رخاء وهمّها الوحيد كان المال. هل كانت هكذا منذ البدء أم انّها تغيّرَت مع الوقت؟ لم أكن أدري تماماً، لأنّني أحببتُها من الأوّل، فلم أكن قادراً على رؤيتها على حقيقتها يوماً. وبعد المحاكمة دخلتُ السجن ولم تأتي زوجتي لزيارتي وإكتفَت بطلب الطلاق تحت ذريعة أنّها لا تستطيع العيش مع سارق لأنّ ذلك مناف للقيَم التي تربّت عليها وأنّها تخشى على نفسها منّي. وتطلّقنا ولم أشعر بالأسف عليها، بل على نفسي لأنّني أضعتُ سنين من حياتي من أجل مَن لم يستحقّني ولأنّني فعلتُ شيئاً مشيناً جلبَ العار لعائلتي ولكلّ مَن يعرفني.
وبعد أن خرجتُ أخيراً من السجن، لم أعد طبعاً قادراً على العمل في المجال المصرفي، فمَن سيوظّف سارق؟ لذا بعتُ المنزل وإستأجرتُ غرفة صغيرة وإستعملتُ ما تبقّى لإنشاء عمل بسيط، ففتحتُ دكّاناً صغيراً أبيع فيه بعض الأشياء لأهل الحيّ.
أمّا صفاء، فغادرَت إلى الولايات المتحدّة لتجد رجلاً آخراً تنتفع منه. وبعد فترة علمتُ من قريب لها عاش أيضاً هناك أنّها لم تكن يوماً مخطوبة لأحد وإستنتجتُ من ذلك أنّها كذبَت عليّ لكي ترغمني على إيجاد المال بأيّة طريقة، لكي أكون بمستوى خطيبها الوهمي.
هل أناس مثلها فعلاً موجودون؟ أجل وأنا خير برهان على ما يستطيعون فعله تحت غطاء الحب وإستغلالاً لمشاعر الآخرين.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button