تواعدنا أنا ورامي سنيناً طويلة ولم يطلب منّي يوماً أن أصبح زوجته. في البدء إعتقدتُ أنّه يريد أن يتعمّق بمعرفتي قبل أن يتّخذ قراره ولكنّه كان بكل بساطة سعيداً هكذا. دخلَ بيتنا وتعرّفَ إلى أهلي الذين أحبّوه وتأمّلوا طبعاً أن يكون صهرهم. وبعد إنتظار طويل، نفذَ صبرهم وضغطوا عليّ لكي أسّوي أحوالي معه بعدما بدأت الناس تتكلّم عن العريس الذي إرتاح على وضعه. قررتُ عندها التكلّم مع رامي في الموضوع بهدف وضع النقاط على الأحرف. كان ردّه سريعاً وواضحاً:
- ولكن يا حبيبتي لم أعدكِ يوماً بالزواج... وللصراحة أنا لا أفكّر في الإرتباط الآن... أوّلاً لأنّ أوضاعي الماديّة لا تسمح بذلك وثانياً لأنني أحب حريّتي. كنتُ أعتقد أن علاقتنا مثاليّة وأنّكِ أنتِ أيضاً سعيدة هكذا ولكنني أستنتج الآن أنني كنتُ مخطئاً... لا أستطيع منعكِ من الزواج من رجل آخر، لذا سأعطيك حريّة الإختيار... إمّا أن نبقى هكذا أو أن ننفصل الآن. أحبّكِ كثيراً ولكن...
لم أعطه جواباً، لأنني أنا أيضاً كنتُ أحبّه ولم أتصوّر الحياة من دونه ولكن مستقبلي كان مهمّاً أيضاً، فوقعتُ في حيرة من أمري. الحل الوحيد كان أن نأخذ إستراحة لكي نقيّم الوضع، فإنفصلنا مؤقّتاً. وفي هذه الأثناء وجدَ رامي عملاً في السودان وقبلَ أن يرحل جاء ليودّعني:
- حبيبتي... أنا راحل ومن الأفضل أن أقطع علاقتي بكِ نهائياً لأنني سأبقى هناك وقتاً طويلاً ولا أدري إن كنتُ سأعود أو لا. عرضوا عليّ أن أنشأ معملاً ضخماً والمشروع سيأخذ سنيناً عديدة. الوداع.
بكيتُ كثيراً لأنني كنتُ لا أزال أتأملّ بأن يغيّر رأيه بشأن الزواج وها هو يودّعني إلى الأبد. وقبل أن يغادر طلبتُ منه أن نبقى على إتصال هاتفيّاً وعبر الإنترنيت ووافقَ على طلبي. ومن رسائله والصوَر التي كان يبعثها من السودان، علِمتُ أنّ الحياة هناك ليست سهلة، خاصة أنّه إعتاد على العيش في بلد كبلدنا يتمتّع بتقاليد منفتحة ومختلطة. وفي ذات يوم جاءَت صديقتي لزيارتي وسألَتني عن أخبار حبيبي، فأخبرتُها عن ظروفه الصعبة وأنّه لا يفعل شيئاً هناك سوى الذهاب إلى العمل والعودة إلى المنزل الذي خصصته له الشركة. وقلتُ لها أنني أخشى أن يصاب بالإكتئاب بعيداً عن كل الذين كانوا يحيطون به في موطنه. وبدلَ أن تزعل صديقتي رأيتُها تبتسم وحين سألتُها عن ردّة فعلها الغريبة أجابَتني بحماس:
- يا غبيّة! ألا ترين أنّها فرصة حياتكِ؟ الرجل يعيش في صحراء لا يرى أحداً ولا يذهب إلى أيّ مكان للترفيه. وأظنّ أنّه ليس مستعدّاً لمعاشرة فتيات البلد خوفاً من التقاليد.
- لا أرى سبباً للإبتهاج... المسكين... لا أفهم قصدكِ.
- قصدي هو أنّ بعد فترة قصيرة سيكون سعيداً أن يرتبطَ بكِ لأنّكِ بنت بلده ويعرفكِ ويحبّكِ.
- وكيف سيحدث ذلك فهو بعيد ولن يرجع قبل وقت طويل.
- ستذهبين أنتِ إليه.
- هل جننتِ؟ أنا أذهب إلى السودان؟ وماذا سأقول لأهلي؟
- لا تخافي... ستقولين أنّكِ معي في بيتنا في الجبل وأنا سأرتّب الباقي.
- لا أدري... ماذا لو إستاءَ رامي لقرار كهذا؟ أنتِ تعلمين أنّه أكّد لي أنّه لا يريد الزواج.
- كان هذا قبل أن يرحل... ثقي بي... إفعلي ما أقوله لكِ وأؤكّد لكِ أنّكِ ستصبحين زوجته وقريباً جداً.
ولأنّني كنتُ مغرومة جداً برامي، سمعتُ منها ودبّرنا كذبة ذهابي معها إلى الجبل ولم يشكّ أهلي بشيء، بل فرحوا لأجلي لأنني كنتُ جدّ حزينة منذ رحيل حبيبي. بقيَ لي أن أخطّط رحلة السودان وتبعتُ تعليمات صديقتي. ذهبتُ إلى السفارة وقدّمتُ طلب لفيزا سياحيّة ووضّبتُ حقيبة صغيرة وصعدتُ في الطائرة دون حتى أن يعلم رامي في قدومي. وعندما وصلتُ إلى مطار خرطوم، أخذتُ سيّارة أجرة قادتني إلى الشركة التي يعمل فيها رامي. أخذتُ حقيبتي وسألتُ الحرس على الباب عن مكتب حبيبي وقرعتُ بابه. سمعتُه يصرخ: "تفضّل". ولكنّني لم أدخل فقامَ وفتحَ لي ونظرَ إليّ وكأنّه رأى شبحاً. وبعد ثوان إستوعبَ أنّني فعلاً واقفة أمامه، فعانقني بقوّة وأخذ بيدي وأدخلني إلى المكتب وسألني مئة سؤال بخصوص وجودي عنده وكيفيّة وصولي. كان فرحاً جدّاً وعلِمتُ حينها أنّ صديقتي كانت على حق، فلم يوبّخني على ما فعلتُه بل بدا لي ممنوناً جداً. وبعد أن قدّم لي القهوة سألني:
- إلى متى ستبقين هنا؟
- إلى الأبد يا حبيبي... لن أرحل... إلا إذا طلبتَ منّي أن أفعل...
رأيتُ بريقاً في عينيه ثم عانقَني وقبّلَني بشغف. ضحكتُ من قلبي وقلتُ له:
- ولكن هذه المرّة سنتزوّج!
- طبعاً حبيبتي... لن أدعكِ ترحلين ثانية!
وبعثتُ خبراً لأهلي أقول لهم أنني تزوّجتُ. فرحوا كثيراً لي رغم أنّهم لن يرونني بالفستان الأبيض. أقمنا عرساً صغيراً، لأنّ رامي لم يكن يعرف الكثير من الناس هناك وقضينا شهر عسلنا في مصر لضيق الوقت وعشنا في منزله الصغير. كنتُ في قمّة سعادتي بعد أن نلتُ مرادي. ولكنني لم أحسب حساب حاجة رامي لحريّته وإستقلاليّته، فبالرغم من حبّه لي، كان قد تزوّجني فقط لأنّه كان في الغربة ولو بقيَ في البلد لما فعلَ ذلك. وبدأَت الأمور تسوء بيننا. أصبحنا نتشاجر لأتفه سبب وشعرتُ بنقمتِه تجاهي. عندها فعلتُ ما لم يكن يجدر بي أن أفعله أي أنّني حملتُ منه على أمل أن يقرّبنا الطفل ويشعر زوجي بأنّه مسؤول عن عائلة. ولكن رامي لم يكن يريد أولاداً وكان الخبر بمثابة مصيبة له:
- ألن تكفّي عن التخطيط أبداً؟ أتظنّين أنني لا أعرف ما الذي فعلتيه؟ سمعتكِ تتكلّمين عبر الهاتف مع صديقتكِ وتقولين لها: "نجحَت الخطّة... كنتِ على حق... لم يكن ليتزوّجني لولا شعوره بالوحدة." والآن حمِلتي لكي تُبقيني إلى جانبكِ؟ أنا لم أعد أحبّكِ فأنتِ إنسانة شريرة لا تفكّرين إلا بذاتكِ... وأنا؟ ألا يحقّ لي أن أعيش حياتي كما أشاء؟
- فعلتُ ذلك لأنّني أحبّكَ... لستُ شرّيرة بل غرامي لكَ دفعَني لفعل ذلك... سامحني...
- أريدكِ أن ترحلي...
- لن أرحل إلى أي مكان! هل جننتَ؟ أنا حامل!
- إذا قررتِ البقاء لن تكوني سعيدة معي فكما قلتُ لكِ أنا لم أعد أحبّكِ... وأنوي العيش كما أشاء.
وبقيتُ لأنّني لم أكن أستطيع العودة إلى أهلي وأقول لهم أنّ زوجي طردَني بعد أن إستغلّيتُ ضعفه. وأنجبتُ ولداً وقمتُ بتربيته وحدي لأنّ رامي رفضَ الإعتناء به. كل ما كان يفعله كان إعطائي المال لكي أصرفَ على نفسي وعلى الولد. وأصبحتُ سجينة السودان والطقس الحار والصحراء الجافة، أقضي وقتي مع طفلي أعطيه كل ما لديّ. أمّا رامي فبدأ يخرج مِن دوني ويقيم العلاقات وأصبحَ له أصدقاء وحياة ثانية لا دخلَ لي فيها. لم أقل شيئاً لأحد خوفاً من الشماتة وتحمّلتُ الإذلال وقتاً طويلاً أدّعي أنني تزوّجتُ أفضل رجل في العالم وأنّ حياتي مثاليّة حتى أن حسدَني الجميع على زيجتي. الآن أنتظر أن يكبر ولدي قليلاً لكي آخذه إلى بلدي وأعيش باقي حياتي بين أناس يحبّونني ويعتنوا بي.
حاورتها بولا جهشان