خجِلَت أمّي مِن إعاقتي فعزَلَتني عن الناس

لم يكن الذنب ذنبي إن ولدتُ بعاقة جسدّية، وبدلاً أن تشعر أمّي ببعض المسؤوليّة تجاهي، عمِلَت جهدها لتنكيد حياتي وجعلي أتمنّى لو لم أولدَ قط. فمِن لحظة ما وقعَت عيونها عليّ في المستشفى، قالَت والدتي للمّمرضة:"خذوا هذا المسخ عنّي." وحاولَت المرأة تطمينها بأنّ المولودة الجديدة قد تتحسّن مع الوقت ولكن مِن دون جدوى. ومع الأيّام قبِلَت أمّي أن تحملني بعض الشيء ولكن كانت جدّتي هي التي رافقَتني أوّل سنة. أبي كان إنساناً هادئاً لا يحب المواجهات خاصّة مع زوجته ورغم وطأتها عليه كان يحبّني ويعطف عليّ. ولم أدرك مدى حالتي إلاّ عندما كبرتُ بعض الشيء وبدأتُ أسمع الجيران يقولون عنّي:"يا للمسكينة... أيّ مستقبل سيكون لديها؟ مَن سيتزوّجها؟." عندها قارنتُ شكلي مع أشكال الناس ولاحظتُ الحدبة بين كتفيّ وبكيتُ لأنّني كنتُ مختلفة. وعندما سألتُ أمّي عن عاهتي أجابَتني:

 

ـ لا أدري ما الذي فعلتُه للسماء لكي يعطيني بنتاً مثلكِ... أو ربمّا أبوكِ الذي فعل... لا أعلم... لا يهمّ الآن... إسمعيني... عندما يأتي أحد إلى البيت أريدكِ أن تبقي في غرفتكِ.

 

ـ لماذا يا ماما؟

 

ـ لكي لا يرونكِ... ليس مِن الضروري أن يعلم الجميع... يكفيني الجيران وتعليقاتهم المؤذية... هل إتفقنا؟

 

ـ أجل.

 

وهكذا بدأتُ أعزل نفسي بغرفتي كلّما جاء زوّار ولكنّني لم أكن حزينة لأنّني كنتُ لا أزال صغيرة وكنتُ أنفذّ ما طلَبته أمّي التي كنتُ أريد أن أرضيها بأيّة طريقة لأحملها على أن حبّي ولو بعض الشيء. وحين جاء الوقت لأذهب إلى المدرسة بقيتُ في المنزل لأنّني كنتُ بشعة ولا يجب أن يراني أحد بتاتاً وكنتُ سأبقى مِن دون تعليم لولا والدي الذي وقَفَ لأوّل مرّة في حياته في وجهها. سمعتُهم يتشاجران في ذاك ليلة:

 

ـ لماذا لا تريدين أن تذهب غنوة إلى المدرسة؟

 

ـ لماذا؟ أليس لديكَ نظر؟

 

ـ إبنتنا ذكيّة وتستطيع التعلّم... صحيح أنّ لديها حدبة ولكنّ ذلك لن يمنعها من التثقّف... قد يكون لها مستقبل ما.

 

ـ ايّ مستقبل تتكلّم عنه؟ لا أريد أن يراها أحد! لو أستطيع ألاّ أراها لكانت حياتي أنا أفضل بكثير!

 

ـ لما كل هذه القساوة؟ الله خلقها صحيحة العقل فعلينا أن نعلّمها... ولن أرضى بغير ذلك.

 

ـ حسناً... ولكنكَ ستأخذها أنتَ إلى المدرسة... ولن أقابل أيّ أحد هناك ولن أحضر حفلاتها... أفهمتَ؟

 


وهكذا دخلتُ المدرسة وبقلبي فرحة كبيرة. وكانت المديرة قد تحدّثَت مع زملائي عن عاهتي وطلَبت منهم أن يعاملوني بلطف ومحبّة. وهكذا حصل، فإستقبلوني بإبتسامة عريضة وأعاروني ألعابهم وشاركوني نشاطاتهم. وكان ابي على حق بما يختصّ بذكائي، فكنتُ أحفظ المعلومات بسرعة وبدأتُ أحصد أعلى العلامات حتى أصبحتُ أمثّل النجاح بحدّ ذاته رغم الإعاقة التي لم تعِقني بل دفعَتني لأكون الأفضل. ولكنّ أمّي ورغم علاماتي بقيَت تكرهني وتشمئزّ منّي ومِن رؤيتي، فعندما كنتُ أعود مِن المدرسة كانت تأمرني بالذهاب فوراً إلى غرفتي والبقاء هناك. ولكنّ الأمر لم يزعجني فكان لديّ كتبي وقصصي التي أصبحَت أعزّ أصدقائي لأنّني كنتُ أحلم مِن خلالها وأذهب بعيداً عن المنزل الذي لم يكن يريدني.

 

وهكذا مرَّت السنين التي قضيتُها لوحدي وكبرتُ لأصبح صبيّة جميلة الملامح وقويّة الشخصيّة رغم قمع أمّي وغضبها الشديد منّي لأنّني وبحسب قولها "سبب عدم إنجابها ولداً آخراً خوفاً مِن أن يكون أيضاً معاقاً". وفي ذات يوم بعدما كنتُ أصبحتُ في سنَتي المدرسيّة الأخيرة جاءَت إليّ المديرة وقالت أنّها تريد رؤيتي في مكتبها. وحين جلستُ أمامها قالت لي:

 

ـ غنوة... يا غنوة... لو تعلمين كم أحبّكِ وأقدّر جهودكِ... لم تستلمي يوماً وأعلم كم حياتكِ في المنزل صعبة... ستغادريننا بعد بضعة أشهر وأنا أيضاً راحلة... فبلغتُ سنّ التقاعد وحان الوقت لأرتاح... ولكنّني أريد أن أنهي مسيرتي بهديّة لألمع تلميذة صادفتُها...

 

وفتحَت درج مكتبها وأخرجَت منه ظرفاً وأعطَتني أيّاه وأضافَت:

 

ـ في داخل الظرف مبلغاً كبيراً مِن المال... دعيني أكمل... منذ ما جئتِ إلى المدرسة وأنا وبمساعدة جميع المعلّمين نضع فيه قسماً صغيراً مِن راتبنا...

 

ـ ولكن لماذا؟

 

ـ والأن إكتمل المبلغ... المبلغ اللازم لكي تجري عمليّة جراحيّة لظهركِ.

 

ـ ولكنّ الأطبّاء قالوا أنّ ذلك مستحيل.

 

ـ كان هذا مِن سنين طويلة... لقد تقدّم الطب مِن 18 سنة... أعرف ما أقوله لأنّني أتتبّع الموضوع مِن زمن بعيد...

 

ـ ولكن... لا أستطيع قبول هذا المال...

 


ـ بلى تستطيعين... بل هذا مِن واجبكِ على الأقل تجاه الناس الذين حرموا أنفسهم مِن الكثير لكي تكوني سعيدة... إذهبي لإجراء العمليّة... ستجدين مع المال إسم ورقم هاتف جرّاح مشهور... لقد كلّمتُه عنكِ وأريتُه صوراً لكِ. ولكن... إنتظري حتى تبلغين سنّ الرشد.

 

ـ لماذا؟

 

ـ لكيّ تستطيعي الذهاب إلى المستشفى دون إذن أو مرافقة أهلكِ.

 

ـ آه... تعنين أمّي... أجل... لن توافق إن علِمَت بالأمر... قد أقول لأبي... أو لا... سيدّتي... هل تقبلين أن ترافقيني أنتِ؟

 

عندها إمتلأت عيون المديرة بالدموع وعانقَتني وقالت لي:

 

ـ أجل... وهذا فخر لي!

 

لن أستطيع وصف شعوري حين وصلتُ البيت وخبّأتُ الظرف بين أمتعتي وإستلقيتُ على سريري وبدأتُ أحلم وبسمة عريضة على وجهي. وأخيراً كنتُ سأحصل على حياة طبيعيّة وأثبتَ للعالم أجمع أنّني لستُ مختلفة. وإنتظرتُ ثلاث سنوات قصدتُ خلالها الجامعة للتخصّص بالطبّ بفضل منحة حصلتُ عليها مِن جراء علاماتي المميّزة في المدرسة.

وحين جاء موعد العمليّة إتصلتُ بالمديرة وذهبنا سويّاً نقابل الجرّاح ونجري الصوَر والفحوصات اللازمة. وبالرغم مِن صعوبة العمليّة والخطورة التي كنت سأضع نفسي فيها، لم أتراجع لأنّني كنتُ مصمّمة على المضيّ بمشروعي.

وفي ذاك يوم ومِن دون أن أقول لأحد قصدتُ المستشفى وقلبي يدقّ بقوّة. ولم أستفق مِن البنج إلاّ بعد ساعات وحين فتحتُ عيوني رأيتُ المديرة بجانبي تقول لي:"لقد نجحت العمليّة... ستتألّمين فترة ولكن الأمر يستاهل ذلك." وبعد ساعة أو إثنتين إتصلتُ بأبي وقلتُ له أين أنا وما الذي فعلتُه وهنّأني وبدأ يبكي مِن الفرح. وطلبتُ منه أن يأتي ليراني وألاّ يخبر أمّي بالذي يجري بل أن يقول لها أنّني ذهبتُ إلى منزل عمتّي لِقضاء فرصة الصيف.

وحين حان موعد خروجي ذهبتُ فعلاً إلى عمتّي لأتعافى. ولم تتصل بي أمّي ولو مرّة واحدة، فكان فرحة لعَدم وجودي معها في البيت. ومررتُ بأيّام عصيبة بسبب الألم ومشد الظهر الذي كان عليّ إرتداءه. وحين تعافيتُ كليّاً ورأيتُ نفسي بالمرآة إبتسمتُ لإنتصاري على الحياة وشكرتُ الله على وجود أناس طيبيّن كمدرّساتي ومديرتي وعمتّي. وعدتُ إلى البيت وحين فتحَت أمّي لي الباب لم تصدّق عيونها فصرخَت:"أهلاً بإبنتي الجميلة!"

 

ضحكتُ كثيراً وأجبتُها:

 

ـ الآن تجدينني جميلة؟ الآن تتأهليّن بي؟

 

ـ طبعاً فأنتِ إبنتي وأنا أحبّكِ!

 

ـ الحبّ لا يكون فقط عندما يكون الآخر جميلاً أو متعافياً أو غنيّاً... الحب وخاصة مِن جانب الأمّ يكون مجّانيّ ومِن دون شروط... جئتُ أودّعكِ... وآخذ أمتعتي... سأعيش في حرم الجامعة وأدفع إيجار غرفتي مِن عملي في المكتبة... سأصبح طبيبة ماهرة... ولأنّني أفضل منكِ وبكثير سأعتني بكِ وبصحّتكِ عندما تمرضين... الوداع!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button