خاب ظنّي بأخي بعد زواجه مِن صديقتي

كنّا عائلة متماسكة، نحمي بعضنا ونغار على مصالح جميع أفراد أسرتنا الصغيرة. لم يكن لديّ سوى أخ واحد وتربيّنا على الإهتمام ببعضنا، لِدرجة أنّ الناس كانت تعتقد أنّنا توأمان، رغم الثلاث السنوات التي تفصل بيننا. فعندما توفي والدينا، الواحد تلو الآخر، لم أشعر بالقلق لأنّني كنت واثقة أنّ وليد سيرعانا، خاصة أنّه كان قد بدأ العمل لدى محام كبير بعد أن تخرّج بإمتياز من كليّة الحقوق. أمّا أنا، فكان لديّ سنة بعد لأخوض معركة الحياة ومزاولة مهنة هندسة الديكور. وكان لديّ صديقة أحبّها كثيراً وأعرفها منذ ما كنّا في الصف الإبتدائي وكانت بالنسبة لي الأخت التي لم ينجبها والديّ. وكنتُ قد شعرتُ أنّ هناء معجبة بوليد وخطر على بالي أن أقرّب بينهما. وكانت فرحتي عارمة عندما نجحتُ بربط أعزّ شخصين على قلبي ببعضهما. وبعد أن خرجا سويّاً فترة سنة، قرّرا أن يتزوّجا. وعندها رأى أخي أنّ عليّ ترك بيت أهلنا والعيش معه ومع زوجته لأنّ منزلهم الجديد أكبر وأقرب إلى مكان عملنا. في البدء رفضتُ بقوّة، فلم أكن أريد أن أزعج أحد ولكنّه إستطاع إقناعي بالقول:

- لن أترككِ لوحدكِ... أنتِ كل ما لديّ...

- الآن لديكَ هناء

- صحيح هذا ولكنّها ليست من لحمي ودمي... لن أحبّها يوماً أكثر منكِ

- ولكنّني لا أريد أن أفرض نفسي على أحد

- هناء صديقتكِ قبل أن تكون زوجتي وأنا متأكّد أنّها ستكون سعيدة جدّاً بكِ بقربها. ولا تنسي أنّكِ بدأتِ بالعمل وستغبين فترة النهار كلّه.

وهكذا إنتقلتُ للعيش معهما وحضّرتُ نفسي لحياة جميلة وهنيئة ولم أتصوّر ولو للحظة أنّ الناس يمكنهم أن ينسوا هكذا صداقتهم وحتى أقرب صلة لهم مع الآخرين. في البدء كل شيء جرى كما توقعتُ، أي أننا كنّا جميعاً نعيش بتفاهم، خاصة أنّنا لم نكن نلتقي سوى في المساء بعد أن نعود من أشغالنا لنتناول العشاء وننام. ولكن سرعان ما وجدَت هناء نفسها حامل وبدأت تستعدّ هي ووليد لمجيء طفلهما. كانت الفرحة عارمة في المنزل وعملتُ على تصميم ديكور غرفة المولود من كل قلبي. ولكن قبل الولادة بشهر قال لي أخي:

- حبيبتي... لدينا مشكلة صغيرة... هناء لن تستطيع الإهتمام بالولد على الأقل في الفترة الأولى بسبب عملها... وسيكون لدينا مصاريف كثيرة ولن نستطيع جلب مربيّة...

- وما دخلي أنا؟

- لِم َلا تتركين عملكِ في الشركة... لبضعة أشهر فقط...

- ولِمَ أفعل هذا؟ يمكن لهناء أن تفعل هذا أيضاً!

- أجل ولكن مسؤولياتها كثيرة... منصبها في المصرف لا يسمح لها بالغياب أكثر من فترة الأمومة القانونيّة... أعلم أنّني أطلب منكِ الكثير ولكن أنتِ مصممة ديكور...

- أهذا يعني أنّ عملي ليس مهمّاً كفاية؟

- لا... لا... ولكن... بإمكانكِ إيجاد أي شيء آخر لاحقاً، أمّا هناء فعملَت بجهد لنيل هذا المنصب وقليلون هم الذين يصلون إليه بهذه السرعة.

وفكّرتُ بالموضوع مطوّلاً. في ظروف عاديّة لم أكن لأقبل ولكنّ أخي وزوجته كانا قد إستضافاني في بيتهم وتقاسما معي كل شيء، فخجلتُ مِن نفسي وإستاقلتُ مِن عملي وبدأتُ أساعد صديقتي بالإعتناء بطفلها وحين عاودَت العمل أصبحتُ أقوم بذلك لوحدي. تعبتُ كثيراً لأنّني لم أكن معتادة على تربية الأولاد ولكنّني فعلتُ ذلك مِن كل قلبي. ولكن أصبحَت هناء تتّكل عليّ بكل شيء، حتى أنّها لم تعد تستفيق في الليل عندما يبكي إبنها وكان عليّ أن أركض لإطعامه أو أغيّر حفاضه كي تستطيع هي وزوجها أن يناموا جيّداً والنهوض بنشاط لمزاولة أعمالهما في الصباح. ولم تكتفي هناء بهذا، بل طلبَت منّي أن أحضّر وجبات العشاء لأنّني وحسب قولها لديّ الوقت الكافي لهذا. حاولتُ أن أرفض ولكن وليد نظر إليّ وقال:

- هناء على حق... أنتِ في البيت طوال النهار، أمّا هي فتعمل في المصرف حتى الليل وتعود متعبة... أنتِ فتاة منطقيّة وما نطلبه منطقيّ.

إمتلأت عيوني بالدموع لأنّني شعرتُ أنّني أصبحتُ مربيّة وطاهية وأنّهما سيطلبان مني قريباً أن أنظّف البيت. لم تكن هذه الحياة التي رسمتُها لنفسي، بل إعتقدتُ أنّني سأصبح مصممة ديكور مشهورة أعمل على مشاريع ضخمة وأنال جوائز عالميّة. وبعد مرور سنة على هذا النحو، طلبتُ من أخي أن أتكلّم معه على إنفراد. قلتُ له:

- أظنّ أن حان الوقت لأعود إلى عملي... قلتَ لي أنّ الوضع لن يطول ولقد ساعدتكما كثيراً... عليّ مزاولة مهنتي قبل أن أنسى أصولها.

- ولكنّ زوجتي ليست مستعدّة بعد

- كان لديها سنة كافية... هذا كان إتفاقنا

- أجل ولكنّه تغيّر... لا تنسي أنّني أهتمّ بكِ...

- أنتَ أخي الكبير وهذا من واجبك... هل تعتبره جميلاً عليّ ردّه؟

- لا... ولكن...

- أظنّ أنّه مِن الأفضل أن أعود إلى منزل أهلنا... هكذا يستطيع كل منّا أن يعيش الحياة التي يريدها.

- ولكن... لقد بعتُ المنزل

- ماذا؟ كيف تفعل هذا؟ ولماذا؟

- أخذَت هناء ثمنه لِتوظيفه في المصرف.

- ولماذا لم تقل لي أنّكَ تنوي بيعه؟ وكيف إستطعتَ التصرّف به مِن دوني؟ أليس لديّ حصة فيه؟

- لا... لقد كتبَه أبي بإسمي منذ زمن بعيد...

ولم أنتظر حتى ينتهي أخي مِن الكلام لأخرج ومشيتُ في الشارع أبكي مِن كل قلبي. كنتُ قد خسرتُ كل شيء: المنزل وعملي وأخي وصديقتي ولم أكن أريد الحياة التي فُرِضت عليّ مِن قِبَل أناس قرّروا إستغلالي. ولأنّني لم أجد مخرجاً لمصيبتي، رضختُ للأمر الواقع وأصبحتُ أفعل كل شيء في منزل أخي. وحتى ذلك الحين لم أرد أي مواجهة مع هناء، فكان كل حديثي مع شقيقي ولكنني قرّرتُ أن أتكلّم مع التي أصبحَت زوجة أخي بفضلي. فقلتُ لها:

- إسمعي يا هناء... حسبتكِ صديقتي... عرّفتكِ على أخي لأنّني كنتُ متأكّدة أنّكِ ستكونين سعيدة معه ولأنّني أردتُ أن تكوني موجودة في حياتي طوال الوقت وليس لأصبح خادمتكِ... لقد خاب ظنّي بكِ كثيراً وإتّضح لي أنّني أحبّكِ أكثر مما تحبّينني... بسببكِ خسرتُ كل ما كنتُ أملكه والأهم من ذلك خسرتُ أخي.

- تستطعين الرحيل إن لم تكوني سعيدة معنا

- لا... لا أستطيع الرحيل لأنّكِ بعتِ منزلي

- إذاً عليكِ قبول شروطنا والعيش معنا.

وإبتسمَت ونظرَت إليّ بتحدِّ. وفي تلك اللحظة، شعرتُ أنّني وقعتُ بفخّ لن أخرج منه أبداً. وإستسلمتُ لواقعي وبدأ أخي وزوجته بالسفر والسهر وتركي لوحدي مع الولد وكأنّني فعلاً موظّفة لديهما. ولكن القدر كان يخبّئ لي الحلّ. ففي ذات يوم دقّ هاتف المنزل وإذ بقريبة لنا تتصل بي لتقول لي أنّها أُعجبَت كثيراً بما صممتُه لغرفة إبن أخي وتعرض عليّ تصميم ديكور منزلها في الكويت. سررتُ جداً بهكذا فرصة عمل وقبلتُ عرضها وطلبتُ منها أن يبقى الأمر سرّاً. وبدأتُ أرسم ما تصورّته بعد أن أخذتُ منها قياسات ومواصفات المنزل وأرسلَت لي صوراً عن المبنى وجواره. وبعد مرور شهرين طلبتُ منها القدوم خلال فترة قبل الظهر للنظر إلى نتيجة عملي. وسُرّت جدّاً وقالت لي:

- أريدكِ أن تذهبي إلى الكويت... سأدفع لكِ جميع التكاليف وكل ما تطلبينه... ستجدين فريق عمل بإنتظاركِ... ستشرفين على سير الأعمال.

- ولكن...

- إسمعيني... أعرف العديد مِن العلاقات هناك وأنا متأكّدة أنّهم سيريدون تسليمكِ منازلهم بعد أن يروا ما فعلتِ عندي... أنتِ موهوبة جداً... هذه فرصة مِن ذهب... فكّري بالموضوع.

كنتُ أعلم أنّ هكذا عرض لن يتكرّر مرّة أخرى وأنّها مناسبة جيّدة لتحقيق حلمي المهني والخروج مِن المأزق الذي زجّني به أخي وزوجته. فبعد يومين، إتصلتُ بالزبونة وأخبرتُها أنّني موافقة ومستعدّة للسفر في أقرب وقت. وحزمتُ حقيبتي دون أن أخبر أحد وإنتظرتُ حتى قبل ذهابي بِساعة واحدة إلى المطار لأقول لأخي أنّني راحلة. تفاجأ كثيراً حتى أنّه نادَ هناء لتسمع الخبر. نظرتُ إليهما وقلتُ لهما:

- أشكركما على إيوائي هنا... أشكركما لأنّكم أطعمتماني مقابل عملي كمربيّة وطاهية وخادمة... أشكركِ يا صديقتي لأنّكِ ألقيتِ عليّ كل مسؤولياتكِ ونسيتِ سنين الصداقة... أشكركَ يا أخي لأنّكَ بعتَ منزل أبوينا وأجبرتَني على العيش هنا لأخدم زوجتكَ... أشكركَ لأنّكَ نسيتَ قرابة الدم مِن أجل إمرأة غريبة أصبحَت زوجتكَ... أشكركَ لأنّك حاولتَ الوقوف بوجه مستقبلي لتستفيد منّي وتريح تلك المرأة... أشكركما على كل هذا ولذا أنا راحلة ولن أشتاق لكما... لن أشتاق إلّا لإبنكما الذي واكبتُه يوميّاً ورأيتُه يكبر وكأنّه ولدي... وإذا أردتَ يوماً أن تراني مجدّداً يا أخي العزيز، عليكَ أوّلاً أن تعي ما فعلتَه بي وتعتذر منّي.

حاورَتها بولا جهشان

المزيد
back to top button