حبٌّ كما في القصص

كانت والدتي إمرأة رائعة مِن حيث تفانيها لبيتها وزوجها ولنا، أولادها. فكان مسكننا دائمًا نظيفًا وتفحُّ منه رائحة الطهو اللذيذ والحلويات المُختلفة. هي إهتمَّت بتدريسنا بعد عودتنا مِن المدرسة وبكلّ طلبات أبينا. إضافة إلى ذلك، إنخرطَت أمّنا بنشاطات عديدة أغلبها خيريّة ومدرسيّة، أيّ أنّها كانت، بكلمة، كاملة الأوصاف مِن حيث الشكل والمضمون. علاقتها بأبي كانت هادئة ومبنيّة على التنازلات مِن جانبها، لأنّه كان عصبيّ الطباع ربّما بسبب عمَله المُتعِب وانشغال باله الدائم بكيفيّة تأمين حياة كريمة لنا جميعًا. فما مِن شيء كان يُنذِرُ بالذي حصَلَ لاحقًا.

شاءَت الظروف أن يدخُل حياتنا ثنائيّ جاءا للعَيش في المبنى نفسه ومعهما أولادهم الذين كانوا يكبرونا سنًّا، أيّ أنّنا لَم نُعاشرهم كثيرًا. لكنّ أمّي وأبي صارا يزوران جيراننا باستمرار، ونستقبلُهم على الأقلّ مرّتَين في الأسبوع حتى شعَرنا أنّنا عائلة واحدة. ولأنّني وأخوَتي كنّا لا نزالُ صغارًا، لَم ننتبِه في بادئ الأمر للاهتمام الذي باتَ يكنّه فادي جارُنا لأمّنا، وسرعان ما كان يزورُنا لوحده فيما كان أبونا لا يزالُ في العمَل. لَم يأتِ فادي فارغ اليدَين، بل دائمًا مُحمّلاً بالطيّبات لنا وبالورود لأمّنا. وفيما كنّا نذهب إلى غرفنا لأكل ما جلبَه، هو كان يبقى مع والدتنا في المطبخ. أبي لَم يكن يرى أنّ في الأمر شائبة حين كان يعودُ ويرى جارنا في دارنا، بل كانت أمّي تشرحُ له أنّ جارَنا أتى لتصليح عطل ما في البيت أو ليُساعدها في حَمل أمور ثقيلة الوزن.

وحدها زوجة فادي بدأَت تستاء مِن الوضع. ولفترة قصيرة، غابَ زوجها عنّا وأعترفُ أنّنا اشتقنا لوجوده عندنا. لكنّه عادَ واستمرَّت زياراته النهاريّة كما في السابق، إلى حين كلّمَت الزوجة أبي وفتحَت عَينَيه إلى أمور لَم يُلاحظها مِن قَبل.

أتذكّرُ تمامًا شجار والدَيّ حول فادي، وتفاجأنا بأمّنا ترفعُ صوتها لأوّل مرّة في وجه زوجها أو في وجه أيّ كان. فهي لطالما كانت إنسانة هادئة ومُسالِمة تُصرُّ على الابتعاد عن المواجهة. لكنّ الأمر كان مُختلفًا في تلك المرّة، وهي تغلّبَت على أبينا بإسكاته بعدما شرحَت له مُطوّلاً أنّ زوجة فادي إمرأة تغارُ مِن ظلّها، وتختلقُ القصص الخياليّة حول العديد مِن الناس لتملأ حياتها الفارغة. وهي أنهَت المُشاجرة قائلة:

 

- هل فعلتُ أيّ شيء قَبل اليوم يُثيرُ الرَيبة أو يدلُّ على نيّتي في الخيانة؟

 

والجواب كان طبعًا "لا"، فانتهى الموضوع. وبعد ذلك، لَم يعُد أبي قادرًا على إبداء إمتعاضه مِن تصرّفات جارنا، الأمر الذي أغضَبه داخليًّا.

لماذا سمحَت أمّي لجارنا بزيارتها هكذا؟ ربّما لأنّها لَم تكن سعيدة كما اعتقدنا، فنادرًا ما نسألُ أنفسنا إن كان أهلنا سعداء حقًّا. أظنُّ أنّها كانت تفعلُ ما عليها أن تفعله تجاه عائلتها، لأنّ هذا ما تعلّمَته مِن أهلها، أي لعِبَت الدور الذي كان يُنتظَر منها. هل كان أبي زوجًا جيّدًا لأمّي؟ للحقيقة هو لَم يكن حنونًا بشكل خاصّ معها أو حتى معنا، لكنّه لَم يكن قاسيًا، ولكن هل ذلك كافٍ لإسعاد زوجة وأولاد؟ فهو لَم يفعل شيئًا خاصًّا مِن أجلنا، بل فقط تأمين القوت والدراسة، ولا أتذكّره يومًا حامِلاً هديّة لزوجته أو حتّى وردة واحدة. وحين اهتمَّ فادي بها، شعرَت أمّنا أخيرًا بأنّها حقًّا إمرأة قادرة على جذب رجُل يُقدِّرُها ويهتمّ لأمرها ويُساعدها عند الحاجة. أليست تلك مواصفات الرجُل الذي تحلمُ به كلّ فتاة أو إمرأة؟

ومع فادي، تحوّلَت أمّنا إلى إنسانة أخرى واثقة مِن نفسها وسعيدة، وهذه مكوّنات خطيرة لِمَن لَم يعتَد عليها.

فأبي شعَرَ بتلك التغيّرات وأنّه لَم يعُد الآمِر الناهي في البيت، بعد أن انتبهَت زوجته إلى أنّه كان بلا نفع بشكل خاصّ وأنّ استبداله سهل للغاية. فحتّى ذلك الحين، هو كان يتباهى برجولته الفائقة ومنفعته لنا. لِذا انطوى والدنا على نفسه كابتًا مجدَّدًا غضبه، بينما كان يتفرّج على زوجته وهي تضحك وتعرض سعادتها على مَن حولها. فهو كان يعلَم مِن أين استمدَّت تلك السعادة ولَم يُعجِبه الأمر طبعًا. ولو أنّه كان رجُلاً صريحًا ومُرتاحًا مع نفسه، لحاوَلَ إستعادة حبّ زوجته بطرق مُختلفة. إلا أنّه فضَّلَ السكوت والتراجُع والتفرّج على ما يحصل كالذئب المُختبئ في ظلمة الغابة.

أتذكّرُ بوضوح أنّني تمنَّيتُ أن يكون فادي أبانا بدلاً مِن ذلك الآخَر وكذلكَ أخوَتي، ليس فقط لأنّه كان يجلبُ لنا ما نُحبُّه بل أيضًا لأنّه كان طيّبًا ومُسليًّا ومُحبًّا، وخاصّة لأنّه كان يحملُ أمنّا على الضحك عاليًا. لَم نسمَع عن زوجته بعد أن فضّلَت تركه والعودة مع أولادها إلى أهلها، فتصرّفَ فادي حقًّا وكأنّه عازبًا. لكنّ والدتنا كانت لا تزالُ مُتزوِّجة.

وبالرغم مِن الإشاعات حول أمّي وفادي، لَم يُحاول أبونا إستمالَة زوجته إليه أو القيام بأيّ جهد لِفهمها أو إسعادها بل تابعَ حياته كالمُعتاد. وهكذا فعلَت والدتنا، أيّ أنّها لَم تقطع علاقتها بجارنا. وصارَ هذا الأخير يأتي بأولاده إلى بيتنا معه كلّما حان دوره بالحضانة، وكنا نقضَي وقتا سويًّا وكأنّنا حقًّا عائلة واحدة.

لكنّ جدّتي لَم يُعجِبها الوضع على الاطلاق، وبدأت تملأ رأس إبنها بالكره تجاه زوجته والجار، وتشرحُ له أنّ ما يحصل تحت سقف بيته هو عار عليه وعلى كلّ العائلة. هي لَم توبّخه لإهماله لأمّنا أو جفافه تجاه التي أسّسَ معها عائلة ووعدَها بأن يُحبّها طيلة حياته. على كلّ الأحوال، كانت جدّتي تجِدُ دائمًا ما تقوله عن والدتنا مهما كان صغيرًا، حماة حقيقيّة جديرة بهذا اللقب! وبعد فترة، رأينا جدّتي قادمة إلينا مع حقائبها وعلى وجهها علامات الغضب والاصرار والتصميم، ومجيئها هو ما حرَّكَ باقي الأحداث وأوصلَنا إلى ما وصَلنا إليه.

فبوجود جدّتي معنا، لَم يعُد بمقدور فادي وأمّي الجلوس معًا، وأقولُ جلوس لأنّ جارنا لَم يأتِ يومًا إلا بحضورنا، وهو لَم يختلِ بوالدتنا أبدًا بل كانا يبقيان غالبًا في المطبخ يتكلّمان لساعات. وأنا شبه أكيدة أنّهما أحبّا بعضهما حبًّا عذريًّا كالذي نقرأ عنه في الكتُب. وهكذا، صارَ المُتحبّان يلتقيان في أماكن أخرى خارج البيت. كانت أمّي بحاجة إلى ذلك الشعور الذي يُبقي قلبها دافئًا وتستمتِع بفكرة وجود حبيب إلى جانبها. فالعَيش مع والدنا كان أمرًا صعبًا وجافًّا للغاية. حتّى نحن عانَينا مِن قلّة حنانه، فكان الأمر وكأنّنا نعيشُ مع شخص غريب لا يمتُّ لنا بصلة.

أحسَّت جدّتي بأنّ شيئًا يحصلُ خارج المنزل، فالعاشِق لَم يعُد يزورُنا، لذلك همسَت في أذُن إبنها أنّ عليه البحث عن مكان التواعد باسم الشرَف والكرامة. يا لَيتها قالَت له إنّه مِن الأفضل أن يُطلّقَ زوجته ويُعطيها حضانتنا، لكنّ العجوز كانت شرّيرة وتُحبّ التفرّج على الخلافات والشجارات. ألَم تُفسِد على جدّي حياته ودفعَته لهجرها والسفَر بعيدًا عندما كان أبي لا يزال شابًّا صغيرًا؟

بحَثَ أبي عن أمّي وفادي مرّات عديدة إلى أن وجدَهما في مكان هادئ يجلسان على مقعد ينظران إلى غروب الشمس. غريب كيف وظّفَ أبي وقته للبحث عن "الخائنة" كما أسماها، بدلاً مِن توظيفه بكَسب حبّها مِن جديد، أو على الأقلّ مُراجعة نفسه فقد يكون هو السبب في بُعدها عنه.

وبعد أن علِمَ والدُنا أين يلتقي ذلك الثنائيّ، صارَ يذهب لمُراقبتهما على أمَل أن يلتقِط بواسطة كاميرته صورًا لهما بالجرم المشهود أيّ أثناء مُمارستهما عمَلاً شنيعًا، لكن مِن دون جدوى. وكان يعودُ خائبًا إلى البيت وإلى أمّه وهي تحثّه على أن يكون "رجُلاً حقيقيًّا" ويتصرّفُ كما يجب. سمعتُه يومًا يقول لأمّه: "لا أستطيع فعل ذلك يا أمّي، لا أستطيع!". لَم أفهَم حينها ما كان يقصد، لكنّني كنتُ سأكتشِفُ لاحقًا ما كانت تلك الشرّيرة تطلبُه منه.

وذات يوم، ذهَبَ والدي إلى مكان لقاء العاشقَين حاملاً معه مسدّسًا وأطلقَ النار على أمّي. لكنّ فادي حماها بجسده لكثرة حبّه لها، فماتَ المسكين على الفور. هل كان أبي سيحمي زوجته مِن الموت أو الأذى لو تعرَّضَت له؟ بالطبع لا.

ذهَبَ والدي إلى قسم الشرطة وسلَّمَ نفسه، قائلاً إنّه أرادَ قتل زوجته لأنّها خائنة لكنّه أصابَ العشيق عن غير قصد، وإنّه ليس نادمًا على الاطلاق. لكنّه ومُحاميه لَم يستطِيعا إثبات الخيانة ولا حتّى زوجة فادي السابقة التي قدّمَت شهادتها ولكن مِن دون دليل حسّيّ. طُلِبَ منّي أيضًا أن أشهَد وقلتُ الحقيقة، أيّ أنّ فادي كان إنسانًا خدومًا وأنّه لَم يُقِم مع أمّي يومًا علاقة جسديّة بل فقط عاطفيّة مبنيّة على الاحترام. كادَت جدّتي أن تُجَنّ ليس لأنّ إبنها قد يبقى في السجن أعوامًا لا تُحصى، بل لأنّ كنّتها لَم تمُت ولَم تُثبَت عليها تُهمة الزنى.

أمّا بالنسبة لأمّي المسكينة، فهي بكَت فادي لِدرجة لا توصَف وتغيّرَت نفسيّتها حتى آخِر أيّامها. فلَم أرَها تضحك بعد ذلك بل سكَن عَينَيها حزن دائم ودموع كثيرة.

زُرنا والدنا في السجن مرّتَين أو ثلاثًا فقط ثمّ نسيناه، فهو كان الأب الجاف الذي قتَلَ فادي والذي كان بالفعل يريدُ أن يحرمَنا مِن أمّنا. رفضنا إستقبال جدّتنا في البيت بل طردناها جميعًا، لأنّها كانت وراء وقوع تلك المُصيبة، وهي وعدَتنا بالانتقام. عشنا مع أمّنا وحصَلَ مرارًا أنّنا تخيّلنا لو أنّ فادي لا يزال حيًّا كيف كانت ستكون حياتنا.

كبرنا وتعلّمنا وتزوّجنا وعاشَت والدتنا معي في البيت الزوجيّ حتّى مماتها. ويوم دفنها، إرتسمَت على وجهي بسمة خفيفة، فها هي ذاهبة أخيرًا للقاء حبيبها فادي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button