حبّي له كاد أن يخرب حياته

كنتُ في الرابعة عشرة من عمري، عندما جاء منير إلى مبنانا وأخذَ شقّة ليتزوّج ويسكن فيها، ومنذ اللحظة التي وقعَت فيها عينيّ عليه، شعرتُ بأنّه سيكون إنساناً مهمّاً في حياتي. أمّا هو فإبتسمَ بلطف لفتاة أصغر منه بخمسة عشر سنة. ولكنّني فسّرتُ ذلك على أنّه إعجاب متبادل وبدأتُ أحلم به. وبعد بضعة أشهر، جاء بِزوجته وسكنا قربنا.
قامَ والدَيّ بالواجب مع العروسَين وأصبحاوا يتبادلون الدعوات والزيارات. وكنتُ أذهب مع أهلي إلي منزل منير وأنتظر منه إشارة إهتمام منه تجاهي ولكنّه لم يكن يرى فيّ سوى مراهقة عاديّة. لم أفهم تجاهله، معتقدة أنّه لا يريد إبداء إعجابه بي أمام زوجته وأحببتُه أكثر لإحترامه لِشعور رفيقة حياته. وأصبحَ ذلك الرجل جزء مِن حياتي، أفيق وأنا أفكّر به وأنام وصورته في رأسي. وهكذا مرَّت الأشهر والسنين وبالرغم أنّه أصبحَ أباً لولدَين، لم أكفّ عن حبّه. وحين كان يأتي شاب في الجامعة للتقرّب منّي، كنتُ أقارنه بِمنير وأجدُه سخيفاً وغير ناضجاً كفاية. إنشغلَ بال أهلي عليّ لأنّني لم أكن أخرج مع صديقاتي كما تفعل شقيقتي وكانا دائماً يحثّاني على الإختلاط بالناس ولكنّني كنتُ لا أرى سبباً لِترك المنزل، حيث كنتُ قريبة مِن حبيبي. وحين تقدّمَ لي إبن عمّة صديقة أمّي، رفضتُه بقوّة وقلتُ لأبي:

 

- لا تتعِب نفسكَ... لا أريد أن أتزوّج... هناك مَن يسكن قلبي منذ فترة طويلة.

 

وبالطبع حاولَ والدي معرفة هويّة ذلك الحبيب ولكنّني لم أفصح عن إسمه. وإرتعبَ أهلي مِن أن أكون قد وقعتُ ضحيّة رجل إستفادَ مِن صغر عمري وباتوا يراقبونني. أمّا أنا، فكل ما كان يهمّني، هو أن أرى منير ولو للحظة واحدة في ردهة المبنى أو على شرفته أو إذا كان حظّي جيّداً خلال زيارة. ولكن شقيقتي الكبيرة، كانت قد لاحظَت إعجابي الكبير به وقرأت دفتر خواطري حيث كنت أدوّن أشعاراً مهداة لجاري وحبيبي. وبقيَت صامتة حتى أن فتحَ والديّ الحديث عنّي أمامها معربَين عن قلقهما بشأن الرجل الذي يمنعني مِن أن يكون لديّ حياةً عاطفيّة طبيعيّة ومِن أن أبني عائلة كما يجب أن أفعل. عندها قامَت بِفضح سرّي وقالت لهما انّني مغرمة بالجار.
غضبَ أبي كثيراً لأنّه إعتقدّ أنّ منير كان قد سرقَ طفولتي وأنّه يلهو بعواطفي بالرغم أنّه متزوج وأب لولدَين وقرّر أن يواجه المغتصب ويفضحه. حاولَت أمّي منعَه مِن ذلك، خوفاً مِن الفضيحة وشرحَت له أن ذلك ليس لِمصلحتي ولكنّه لم يسمع منها وذهبَ في نفس الليلة وقرعَ بابه. فتحَت له الزوجة وصرخَ لها ولدي:

 

- أين هو ذلك الوحش؟

 

- ما الأمر؟ ماذا تقصد؟

 

- أين مغتصب الأولأد؟ أريد أن أقتله!

 

وحين سمِعَ الصراخ، جاء منير إلى الباب لِيستفهم عمّا يجري، فَمسكَه أبي مِن قميصه وضربَه بِقوّة لِدرجة أنّه وقعَ أرضاً. وقفَ منير بصعوبة ثمّ صرخَ:

 

- ما بكَ أيّها المجنون؟ إن لم ترحَل حالاً سأطلب الشرطة!

 

- أطلبها! هذا ما أريدكَ أن تفعل! أطلب الشرطة وسأخبرهم بأنّكَ تقيم علاقة مع إبنتي منذ ما كانت قاصراً وسيأخذونكَ إلى السجن لأنّ ذلك ما يحصل لِعدعميّ الأخلاق مثلكَ!

 

ونظرَت زوجة منير إليه بِتعجّب، ثمّ بِغضب شديد:

 

- ماذا؟؟؟ هل هذا الكلام صحيح؟


- بالطبع لا يا حبيبتي... ألا ترينَ أنّ الرجل فقدَ عقله؟ أو ربّما يريد لصقَ هكذا تهمة عليّ لكي يستر على إحدى بناته!

 

وعندما سمعَ أبي ذلك، قالَ لأمّي التي كانت قد لحقَت به لتهدّئه:

 

- إذهبي وإجلبي الفتاة!

 

وركضَت والدتي وسحبَتني مِن غرفتي وأخذَتني إلى حيث كان الجميع بإنتظاري. نظرتُ إليهم بِتعجّب وعندما رأيتُ منير والدم يملأ فمه ركضتُ إليه وسألتُه دون أن أفكّر بالذي أقوله:

 

- ماذا حصلَ لكَ يا حبيبي؟

 

عند سماع ذلك، نظرَ الكلّ إلى منير الذي تلبّكَ ولم يعد يعلم ما عليه فعله أو قوله. إرتاحَ أبي لأنّه أثبتَ أنّه كان على حق وسأل الرجل:

 

- أما زلتُ مجنوناً؟

 

- لا بل أبنتكَ هي التي ليست على ما يرام! ما هذا الكلام يا رَنا؟ منذ متى أنا حبيبكِ؟

 

إحمرَّ وجهي وجاوبتُه:

 

- منذ ما كنتُ في الرابعة عشرة.

 

وبالطبع لم أكن أقصد أنّنا كنّا متحبّان، بل أنّني كنتُ أنا مغرمة فيه ولكنّ الجميع فهمَ أنّه كان يستغلّني منذ سنين ويشبع رغباته الشاذة مع فتاة بريئة. ولو كان لدى أبي مسدّساً لقتلَه على الفور. والتي أنقذَت الموقف، كانت الزوجة التي سحبَت منير إلى داخل شقّتهما واقفلَت الباب وراءهما. وحين وجدنا أنفسنا واقفين وحدنا أمام الباب، قرّرنا العودة إلى المنزل. بقينا صامتين حتى أن قالَ أبي أنّه سيتكلّم مع باقي الجيران ليطردوا تلك العائلة مِن المبنى. حاولَت أمّي أن تفهمه أنّنا لسنا بِحاجة إلى فضح ما جرى ولكنّه أصرَّ على موقفه، قائلاً أنّه لن يستطيع العيش بسلام وذلك الوحش ماكث بِقربه. أضافَ أنّ على أمّي أن تأخذني إلى الطبيب ليتمّ فحصي مِن أجل التأكّد مِن أنّني ما زلت عذراء. وعندما سمعتُ ما قاله، بدأتُ أستنكر بشدّة ورفضتُ الخضوع لأيّ فحصٍ كان لأنّ حبّي لِمنير كان عذريَ فقط ولكنّهما لم يصدّقا أنّ رجلاً ناضج سيكتفي بهذا القدر مِن الحب.
وفي اليوم التالي دعا والدي جميع سكّان المبنى إلى إجتماع عام وأخبرَهم بالقصّة وأقنعَهم بالتوقيع على عريضة طرد المغتصب وألصقَها على باب منير. كنتُ كالمجنونة أحاول إفهامهم أنّه لم يحصل شيئاً بيننا لأنّه لم يكن يعلم حتى أنّني مغرمة به ولكنّ الغضب منعهم مِن الإستماع إليّ. وبعد يوم واحد فقط، جاءَت شاحنة كبيرة وحمّلَت فرش منزل منير ورحلوا جميعاً ألى جهّة مجهولة. وغرقتُ بكآبة عميقة لأنّني لم أخسر حبيبي فقط، بل أسأتُ إلى سمعته وأجبرتُه على ترك المبنى. ولم أعد آكل ولا أنام حتى أن إستوجبَ أخذي إلى المستشفى. وهناك طلبَت أمّي مِن الممرّضة أن تفحصني دون أن أعلم وتبيّنَ أنّني لم أخسر بكارتي، فإرتاحَ أهلي مِن هذه الناحية. ولكنّني لم أتحّسن، بل إنشغلَ بال الأطبّاء عليَ وقالوا لوالديّ أنّ حالتي خطرة جدّاً. وجاء أبي إلى سريري وسألَني ما يمكنه فعله لكي أتعافى فقلتُ له:

 

- عليكَ تصحيح غلطتكَ... لا أريد أن أعيش وأنا أعلم أنّني أذيتُ شخصاً لم يرتكب أي خطأ وأنَ حياته تدمّرَت بسبب فتاة غير مسؤولة.

 

هزَّ أبي رأسه وخرجَ بِصمت. وبعد يومَين، فوجئتُ بِمنير واقفاً أمام سريري. كنتُ نائمة وعندما فتحتُ عينيَ خلتُ أنّني أحلم. ولكنّه كان فعلاً هناك مع زوجته ووالدَيّ. إبتسمتُ له وقلتُ:

 

- هل ستسامحَني يوماً؟

 

- سامحتُكِ منذ ما جاء أبوكِ وأخبرَني أنّكِ في المستشفى... بحثَ عنّي في كل مكان حتى أن وجدَني... قال لي أنّه علِمَ بالحقيقة وأنّكِ منذ الأوّل تحاولين إفهامه أنّ لا دخل لي بِشيء ولكنّ غضبه منعَه مِن الإستماع إليكِ... لِحسن حظّي أنَ زوجتي إنسانة عاقلة تثق بي وتعلم أنّني لا أستطيع أن أخونها أو أن أستغلّ إعجاب فتاة بي وإلا كانت رحلَت مع الأولاد... كنتُ سأفقد كلّ شيء... ولكن لا بدّ للحقيقة أن تظهر عاجلاً أم آجلاً وفي حالتي لم أُظلَم مطوّلاً... بقيَ أن يعلم باقي الناس أنّني لست الوحش الذي طردوه مِن بينهم.

 

عندها وعَدَه أبي بأن يجمعَ الجيران مجدّداً وأن يقدّم إعتذاره له علَناً. وعادَت لي شهيّتي ورغبتي بالتحسّن وبعد بضعة أيّام خرجتُ مِن المستشفى لأعود إلى حياتي السابقة مع فرق كبير: لم أعد مغرمة بِمنير الذي أصبحَ بالنسبة لي رجلاً كَباقي الرجال. وهكذا إستطعتُ أن أفكّر بحياة عاطفيّة طبيعيّة، فعندما تعرّفتُ إلى قاسم، علِمتُ انّ الحياة مليئة بالمفاجآت والوعود الجميلة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button