حب حياتي

حاولتُ قدر المُستطاع، ولسنوات طويلة، تمثيل دور الرجُل الذي تقبَّلَ بصدر رحب ما حصَل ونسيَ الأذيّة ومضى في حياته. لكنّ الواقع كان مُختلفًا تمامًا وتفاجأتُ بنفسي أنجَح بخداع الجميع. فعلتُ ذلك مِن أجل زوجتي مرام ومِن أجل سُمعتي وعزّة نفسي. وهذه قصّتي...

مرام لَم تكن حبّ حياتي، بل أميرة ابنة جيراننا. أحبَبتُ تلك الصبيّة منذ ما أتذكّر، إذ ربينا سويًّا والكلّ ظنَّ أنّها إبنة خالتي أو خالي. كنّا مُقرّبَين كثيرًا وعرضتُ عليها الزواج حين نكبُر وهي قبِلَت، كنّا وقتها في العاشرة مِن عمرنا. وفيما بقيتُ على تلك الفكرة ووَعدي لها، نسيَت أميرة طبعًا الموضوع حين صِرنا مُراهقَين ولاحقًا تلميذَين جامعيَّين.

كنّا قد التحَقنا بكلّيّة العلوم، أو بالأحرى لحِقتُ بها إلى هناك وشاءَ القدَر أن تتعرّفَ حبيبتي إلى طالِب أكبر منّا سنًّا وتقَعَ في حبّه. شعرتُ بالخيانة، على عكس أميرة التي ظنَّت أنّ حبّنا كان لعب أولاد، فبدأتُ أتصرّف بعدائيّة تجاهها. ولأنّها لَم تفهَم سبب تغيّر مُعاملتي لها، شرحتُ لها بالتفاصيل مدى تعلّقي بها وما تعني لي علاقتنا. وهي نظرَت إليّ باندهاش وقالَت:

 

ـ هل أنتَ جدّيّ بالذي قلتَه الآن؟!؟

 

ـ جدّيّ للغاية.

 

ـ يا إلهي... لَم أكن أعي تلك الأمور... أعتبرُكَ صديقًا مُقرّبًا جدًّا، لا بل أخًا لي وليس أكثر... مسألة الحبّ هذه هي قديمة وكنّا نمزَح، أو بالأحرى أنا كنتُ أمزَح بينما أنتَ لا تزال تصدّقُها. أنا آسفة، لكنّني أحبُّ ماهر ونُريدُ أن نتزوّج بعد سنوات قليلة. هل ستقطَع علاقتكَ بي؟!؟ قُل لي إنّكَ لن تتركني، فأنا بحاجة إليكَ إلى جانبي، فهكذا عوّدتَني!

 

ـ دعيني الآن... سنتكلّم بالموضوع لاحقًا.

 

حبستُ دموعي ورحتُ إلى مكان هادئ لأعبّر عن خذلاني وأٌفكّر بالموقف الذي عليّ اتّخاذه: هل أترُك أميرة لِماهر أم أُحارِب مِن أجلها؟ ماذا لو هي كرهَتني وفقدتُها للأبد؟ وهل هي بالفعل لا تُحبُّني أم أنّها إعتادَت على حبّي ووجَدت في ذلك الشابّ سلوى جديدة ومُثيرة؟ أسئلة عديدة وثقيلة بالنسبة لشاب في بداية حياته. قرّرتُ الترقّب والمُراقبة إلى حين أجِدُ الأجوبة التي أبحثُ عنها. في تلك الأثناء، خطَبَ ماهر أميرة وكنتُ موجودًا في الخطبة. ألَم أكن صديق أميرة المُقرّب؟!؟ لَم يهمّني موضوع الخطوبة، فالكثيرون يفكّون ذلك الرباط بعد فترة قصيرة ولا يصِلون إلى مرحلة الزواج. فكان لدَيّ الوقت لأتصرّف.

لكنّ الوقت يمرُّ بسرعة ومعظم الأحيان نرى أنّنا، مِن دون أن ندري، وصَلنا إلى الاستحقاق الذي كنّا نخشاه. فلقد تخرّجتُ وأميرة وهي باتَت جاهزة للزواج مِن خطيبها الذي كان قد فتَحَ صيدليّة وكانت ستُساعده فيها. أمّا أنا، فكنتُ قد اخترتُ اختصاص الأشعّة وبدأتُ أتمرّن في المستشفى. ويوم حُدِّدَ موعد عقد القِران، شعرتُ وكأنّ سيفًا سقَطَ على رأسي، فركضتُ إلى أميرة لأرى إن كان الموضوع بالفعل جدّيًّا. هي نظرَت إليّ وقالَت:

 

ـ إنّ كان الموضوع جدّيًّا؟!؟ أنا مخطوبة وسأتزوّج بعد أيّام!

 

ـ أعني ألن تُغيّري فكركِ وتتزوّجيني بدلاً منه؟

 

ـ بالتأكيد تمزَح!

 

ـ أحبُّكِ يا أميرة ولن أدعَكِ تتزوّجين غيري!

 

ـ إياكَ أن تمسّ بزواجي! فأنا لن أدعَكَ تُنفّذُ بدعة لا معنى لها إختلقتَها حين كنّا صغارًا. فلقد كبرنا، كبرنا! وسأتزوّج مِن الذي أُحبُّه وأنتَ لستَ ذلك الشخص! أفهِمتَ؟!؟.

 

وفي تلك اللحظة وصَلَ ماهر وسمِعَ حديثنا. أنا مُتأكّد مِن أنّه كان يعرفُ عن حبّي لأميرة، فهي كانت تُخبرُه كلّ شيء، لِذا هو وضَعَ يدَه حول كتفَيّ وابتسَمَ لي قائلاً:

 

ـ أنا سعيد أنّ لأميرة صديقًا وفيًّا مثلكَ، فذلك يُطمئنُ بالي. إسمَع، هناك فتاة جميلة مُعجبة بكَ، إسمها مرام وهي رأتكَ في خطوبتنا ولا تنفكّ عن السؤال عنكَ. إنّها أختي وسأُعرّفُكَ عليها. أنا مُتأكّد مِن أنّكما ستكونان ثنائيًّا مُمتازًا!

 

أحرجَني حديث ماهر، فكنتُ بنظره الحبيب المخذول. ولهذا السبَب فقط، قلتُ له إنّني أقبَل بالتعرّف إلى أخته. وبذلك أيضًا، كنتُ سأبقى مُقرّبًا مِن أميرة ومَن يعرف، قد أتمكّن مِن تحريك غيرتها وتغيير رأيها. غبيّ أنا!

للحقيقة، وجدتُ مرام صبيّة جميلة ولطيفة لكن ليس أكثر، وبدأتُ أتواعد معها. قضَينا أوقاتًا جميلة وشعرتُ وكأنّني صديق لها. أمّا هي، فكان مِن الواضح أنّها تهواني وواقِعة في حبّي. وبفضل ذلك، إستطعتُ مُرافقة أميرة وماهر وقضاء الوقت معهما، تحت حجّة الخروج مع الأخت. آه، يا أميرة، لو تعلمين كَم أحبُّكِ! نجحتُ بإيهام الكلّ بأنّني نسيتُ حبيبتي حين اكتشفتُ حبًّا جديدًا مع مرام، وشعرتُ أنّ الناس لَم تعُد تنظرُ إليّ وكأنّني الحبيب المرفوض، الأمر الذي عزَّزَ مِن ثقتي بنفسي... ربّما كان عليّ الزواج مِن أخت ماهر وأكمِلُ حياتي معها بينما أُركّزُ على عمَلي في المشفى.

تزوّجَ ماهر وأميرة وحضرتُ الزفاف وابتسامة مُصطنعة على وجهي، ومرام إلى جانبي. ثمّ عقدتُ خطوبتي معها بعد أن أدركتُ أنّ حبيبتي لن تكون لي، على الأقلّ شرعيًّا، وحدّدتُ ومرام موعِد زفافنا نحن. كنتُ مُحبطًا مِن الداخل وأتمنّى لو أموت فجأة وينتهي عذابي. لكنّني لَم أمُت وتزوّجتُ بدوري، وسكنتُ مع زوجتي في شقّة جميلة هي زيّنَتها. المسكينة... لو تعلَم ما يدورُ في بالي وبمَن أُفكّر حين أكون معها في السرير!

تبّينَ أنّ مرام زوجة مُمتازة مِن كلّ النواحي، فقبلِتُ أن نُنجِب طفلاً. أليس ذلك ما يفعلُه الزوجان السعيدان؟ وسرعان ما حمِلَت زوجتي منّي وأعطَتني ابنًا صحيح البنية والعقل. أمّا أميرة، فبقيَت مِن دون أولاد، الأمر الذي حملَني على الشماتة. هل يُعقَل أن يكون ماهر رجُلاً ناقصًا؟!؟ لكنّ سعادتي لَم تدُم، لأنّ أميرة أنجبَت بعد سنتَين توأمَين مرّة واحدة!

 

نجحتُ في عمَلي حيث وضعتُ كلّ قوّتي واهتمامي بدلاً مِن أن أصبّهما في بيتي وعائلتي. هل أحبَبتُ ابني، لستُ أدري، فهو لَم يكن مِن أميرة بل مِن امرأة أخرى.

مرَّت السنوات مِن دون حدَث يُذكَر وبدأ الشَيب يظهَر في رأسي، فشعرتُ أنّ عُمري يذهبُ سُدىً. كنتُ قد راعَيتُ شعور زوجتي بما فيه الكفاية، فهي لَم تُعطِني يومًا سببًا لأذيّتها بأيّ شكل. لكن بالرغم مِن ذلك، لَم أستطِع أن أُحبُّها. صارَ ابني مُراهقًا لكنّنا لَم نكُن مُقرّبَين كأيّ أب وابن. لِذا قرّرتُ الرحيل، فماذا هناك لأبقى مِن أجله؟ هل أنتظرُ حتى أصبح عجوزًا لأعيشَ سعيدًا؟ وذات يوم لَم أعُد إلى البيت بعد انتهاء عمَلي بل أخذتُ طائرة إلى الولايات المُتحّدة حيث هي أختي، وبعد أن بعثتُ رسالة إلى مرام تقول: "لن أعودَ... سامحيني."

بقيتُ في أمريكا حوالي السنة، بعثتُ خلالها المال لزوجتي وابني كي لا ينقصُهما شيء. لَم تسألني مرام عن سبب رحيلي، فهي على الأرجَح كانت تعلَم أنّني لا أحبُّها. أمّا إبني، فلقد أبدى لي امتعاضه منّي عبر رسائل خطّيّة وبكيتُ لهذا الكمّ مِن الكره. وجدتُ عمَلاً بسرعة حيث أنا بفضل أختي بعدما قلتُ لها إنّني طلّقتُ زوجتي.

جبان أنا، أليس كذلك؟ وأنانيّ أيضًا! كنتُ أعرفُ ذلك تمامًا لكنّ الأمر كان أقوى منّي. كنتُ أُريدُ استرجاع حياتي ما قَبل الزواج والانجاب وقَبل أن أوافق على التعرّف إلى مرام.

لكنّ اتّصالاً مُفاجئًا قلَبَ حياتي رأسًا على عقَب.

رنّ هاتفي وإذ بِماهر يقولُ لي:

 

ـ لا أُريدُ التكلّم عن أختي وابنها... بل عن أميرة... ويا لَيتكَ تزوّجتَها بدلاً منّي! أجل، لقد سمِعتَ جيّدًا! كَم أنا نادِم! لكن كيف لي أن أعلَم أنّ الصبيّة التي أحببتُها هي بهذه الانانيّة والمِكر؟ لَم أكن أُريدُ الانجاب معها لأُطلُّقها، إلا أنّها حمِلَت وبتوأمَين! ليس لدَيّ شجاعتكَ يا صاحبي لأترك كلّ شيء وأمشي، فبقيتُ. أنا في جحيم يوميّ، صدّقني وأُفكّرُ بكَ على الدوام... ما أغبى الرجال! فهم يتنافسون حول امرأة مِن دون أن يعلموا إن كانت ستُسعدُهم أم لا! ماذا أفعَل، قُل لي! أرجوكَ! هل مرام أختي مثل أميرة؟ هل هي أنانيّة وجافّة وتُخطِّط بِمِكر؟

 

ـ بل العكس.

 

ـ أتُريدُ أميرة؟ خُذها! خلِّصني منها!

 

ـ لا.

 

عدتُ إلى بلدَي وبيتي بعد أيّام قليلة مِن تلك المُحادثة، واستقبلَتني مرام وكأنّني عائد للتوّ مِن عمَلي. يا للمرأة العظيمة! إبني هو الآخَر لَم يُعاتِبني، فأمّه قالَت له إنّني أمرُّ بفترة عصبية. نظرتُ إليهما واستوعَبتُ أنّني هدَرتُ بالفعل حياتي، لكن ليس كما اعتقدتُ. خسِرتُ سنوات مِن السعادة مع عائلة تُحبُّني وتحترمُني وتُريدُ راحتي وسعادتي، حتى لو على حساب سعادتهما، لكنّني عازِم على التعويض لهما بكلّ الطرق المُمكنة وحتّى أخِر أيّامي. سامحني يا ربّي على عنادي وغبائي!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button