حاولوا أخذ ماله ولكن...

إرتسمَت بسمة عريضة على وجهي عندما علمَ أخي أنّ والدي أعطى المنزل وجميع أمواله لِجمعية خيريّة. نظرَ باسل إليّ بِدهشة، فأجبتُه:

 

- هذا مِن حقّه... هذه أمواله وهو الذي عمِلَ سنين على جمعها.

 

- ولكننّا أولاده... كيف يفعل ذلك دون أن يخبرنا؟ كيف يحرمنا مِن الميراث؟

 

- لا تنسى يا أخي العزيز أنّكَ أرسلتَه إلى دار العجزة حيث مات.

 

عندها سكتَ، ثم أخذَ معه زوجته ورحلا ليوضّبا أمتعتهما قبل أن تضع الجمعيّة يدها على المنزل. لم أشعر بأيّ أسف عليهما، فكانا قد نالا جزاءهما. أمّا أنا فعُدتُ إلى فرنسا حيث كنتُ أعيش مع زوجي وأولادي منذ سنين. وقبل رحيلي ذهبتُ لزيارة ضريحَي أمّي وأبي وبكيتُ عليهما، خاصةً على والدي الذي عانى الكثير مؤخّراً. وتأسّفتُ انّني كنتُ بعيدة عندما توفّت والدتي وتركتُه مع أخي وزوجته.

في البدء وعندما دخلَت سحر العائلة، كانت لطيفة مع حماها، تحاول إيجاد جميع الطرق لإراحته وعاملته بلطف وشكرتُ ربّي أنّه باتَ بين أيدي أمينة. ولكن لم يكن هذا سوى جزءً مِن تمثيليّة اعدّتها لِتطمئنه وتزيل أيّ شكّ قد ينتابه تجاهها، لتتمكّن لاحقاً مِن الإستفادة منه قدر المستطاع. ومِن منزلي في الغربة، بقيتُ على إتصال يوميّ بالجميع وأتتبّع أخبارهم وأستمع إلى اراءهم جميعاً. ولكن مع الوقت بدأَت الأمور بالتغيّر بشكل أنّه كان مِن الصعب ملاحظة المجرى الذي أخذَته الأحداث لاحقاً لأنّ سحر كانت ذكيّة جداً ولها تأثيراً قويّاً على باسل، فكانت توحي له بفعل ما تريده دون ان ينتبه أنّها وراء تلك الأفكار.

وعندما شعرَت سحر أنّ ابي ليس من النوع الذي يفرّق أمواله يميناً ويساراً، قالت له بكل بساطة:

 

- عمّي... أنتَ رجل عجوز ولم يبقى لكَ الكثير في هذه الدنيا... فلِمَ لا تعطينا ما يمكّننا من العيش برفاهية أكثر؟

 

- يا كنّتي العزيزة... لديكِ عملاً وكذلك ابني وتجنيان ما يكفيكما وها أنتما تعيشان في منزلي ما جنّبكما دفع أيجاراً باهظاً... مالي هو لي... وضعتُه جانباً لإستعماله في حال ساءَت صحّتي، فلا احتاج إلى شفقة أحد... أنا متأكّد أنّكِ تستطيعين دفع ثمن فساتينكِ دون أن تمدّي يدكِ لأحد.

 

وشعرَت سحر بالإهانة وقرّرَت أن تأخذ كل ما لديه مِن دون إذنه. وبدأت تقنع أخي بأنّ كل ذلك المال يجب أن يكون لهما لأنّهما يهتمّان به وأنّه ليس بحاجة له طالما هما موجودان بقربه حتى أن إقتنع. فحملَ هاتفه وطلبَني وإشتكى مِن بخل أبيه عندي ومِن سوء معاملته لزوجته. ولكنّني لم استطيع الموافقة على أن يوهبَ أبي مدخّراته له وطلبتُ منه أن يصبر على والدنا ويؤمّن له أيّاماً هنيئة وهادئة. عندها قال لي باسل:

 

- مِن السهل عليكِ إعطاء النصائح والمواعظ مِن حيث انتِ... فرنسا بعيدة وانتِ مرتاحة هناك مِن كل هذه المسائل... لِمَ لا تأخذين أبينا عندكِ؟

 

- يا ليتني استطيع... عرضتُ عليه ذلك منذ وقت طويل ولكنّه لا يريد ترك المنزل والبلد ويريد أن يبقى قرب المرحومة والدتي... أنتَ تعلم كم كانا متحابّان... أرجوك يا أخي كن لطيفاً معه فلطالما كان أباً صالحاً.

 

واعتقدتُ حينها أنّ باسل قرّرَ أن يعيش مع أبيه بهناء ولكن الأمور كانت لا تزال في بدايتها. فبعد أن حلِمَت سحر بكيفيّة صرف وتبديد مال "العجوز"، أدركَت أنّها لن تحصل على شيئ، فصبَّت غضبها عليه وبصورة عدائيّة جداً. ولَم أعلم بتلك الأحداث إلا بعد فترة وعندها أقنعتُ والدي بأن يقبل بالذهب إلى دار العجزة خوفاً على سلامته. فالذي لم يقله لي والدي آنذاك، هو أنّ سحر بدأَت تعنّفه أثناء غياب زوجها.


في البدء كانت أشياء بسيطة قد ياخال المرء أنّها حصلَت بالصدفة أو على فورة غضب. فكانت تقوم بتدفيشه إن وقَفَ في طريقها إلى المطبخ مثلاً وتعتذر منه وتكمل طريقها. ومِن بعدها زادَت حدّة تلك الاعتداءات إلى حدّ شدّ شعره وخدشه بأظافرها، فتركض وتضع المطهّر على جروحه قائلةً: " لماذا تجبرني على فعل ذلك؟ إجلس مكانكَ ولا تتحرّك". وكان المسكين يطيعها خوفاً مِن الأذى، لكنّه لم يكن يعلم بعد أنّها أشياء مفتعلة حتى أن بدأَت تشتمه وتقول له أنّه عبء عليها وعلى زوجها و أنّ بامكانه أن يخفّف عليهما بإعطاءهم بعض المال أو الذهاب إلى مكان حيث هناك مَن يمكنه الإهتمام به، لأنّها تتعب كثيراً معه.
وبما أنّه بقيَ مصرّاً على البقاء في منزله، بدأت تضربه. و أخفى المسكين عنّي ما كان يجري وعن أخي بعدما قالت له أنّها ستترك البيت إن أخبرَ أحداً بما تفعله، ما قد يسبّب الحزن العميق لباسل. وبقيَ أبي يتلقّى الضربات بِصمت حتى أن كسرَت ذراعه، ممّا إستوجبَ نقله إلى المستشفى. وحين سألها أخي عن ظروف الحادث، قالت له أنّه وقعَ وأذى نفسه. ووافقَ أبي على تلك القصّة خوفاً مِن إفتعال المشاكل. ولكنّه باتَ يخاف مِن العودة إلى البيت والتواجد لوحده مع كنّته، فقرّر الإتصال بي وإخباري بالحقيقة. وعندما روى لي ما كان يتحمّله يوميّاً، قلتُ له أنّني آتية في أوّل طائرة متوجهةً إلى البلد. ولكنّه منعَني مِن ذلك:

 

- لن تفعلي... سأجد طريقة... لا عليكِ.

 

في هذه الأثناء، خافَت سحر أن يُفضح أمرها، فقالَت لِباسل أنّها لا تستطيع الاعتناء برجلٍ عجوز، فقدَ إستعمال ذراعه وأنّ عليه إيجاد مكاناً مناسباً له. وقعَ أخي في حيرة مِن أمره، فمِن جهّةٍ لم يكن يريد التخلّص مِن أبيه ولكنّه من جهّة أخرى لم يشأ تكبيد زوجته عناء الإهتمام بوالده. فذهبَ إلى غرفة أبي فالمستشفى وعرضَ عليه الذهاب لِبضعة أيّام فقط إلى مكان هادئ ليرتاح. وفهِمَ والدي الرسالة، فطلبَ منه مهلة بضعة ساعة ليقرّر. وبعد رحيل أخي إلى منزله، إتّصل بي مجدّداً واطلَعني عل المستجدّات. حينها نصحتُه بالقبول مع شقيقي لكي يهرب من تعنيف كنّته.
وهاتفَ باسل وزفّه بالخبر السار وحين اقفلَ الخط إتّصل بمحاميه وطلبَ منه المجئ إلى المشفى لكي يعدّ له الأوراق اللازمة لنقل جميع ممتلكاته إلى جمعيّة خيريّة يعرفها جيداً منذ ما ساعدته فيما مضى عندما كان شاباً وفقيراً. وبعد أن إنتهى مِن ذلك، خصّص مبلغاً مِن المل ليُدفع تباعاً لِدار العجزة مقابل مكوثه عندهم. وفي اليوم التالي، أخذَ سيّارة أجرة وذهبَ بنفسه إلى المأوى والدمعة في عينه. وعاشَ هناك مدّة سنة واحدة وكنت خلال تلك الفترة أخابره يوميّاً وجئتُ مرّتين مِن فرنسا مع أولادي لِنزوره واقنعُه بالعودة معنا. ولكنّه بقيَ يرفض ترك البلد وترك التي أحبّها طيلة حياته. ولم يزره أخي ولو مرّة واحدة، بل إكتفى بالإتصال به مِن وقت لآخر، ربما ليريح ضميره.
أمّا سحر فلم تأبه حتى بالسؤال عنه بعدما إرتاحَت مِن وجوده معها. ولم يشكّا أبداً بأن أبي قد وهبَ ماله كلّه لِغرباء وكانا ينتظران موته بفارغ الصبر ليضعوا أيديهم على المال الذي جناه مِن عرق جبينه بعدما ولدَ بالعوذ وإستطاع الوقوف على رجليه مِن دون مساعدة أحداً. وفي ذات يوم إتّصل بي باسل وأخبرَني أنّ أبانا توفّى أثناء نومه. عندها قلتُ له: "مات... ولكن هناك مفاجأة لكما... مفاجأة على قدر محبّتكما له".

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button