كل من عرفَ والديّ ظنّ أنّهما خُلقا ليكونا سويّاً وأنّ حبّهما سيستمرّ إلى الأبد. فبعد ممانعة شديدة من قِبَل أهل أمّي بسبب أوضاع أبي، هربَت معه وتزوّجته من دون موافقة أحد. عاشا سنيناً بالعَوز، إلى حين تسنّت لوالدي الفرصة بالسفر إلى الخارج للعمل في شركة أجنبيّة. كنتُ قد ولدتُ وأصبحتُ في الثانية من عمري. بقيتُ مع أمّي ننتظره أن يأتي مرّة في السنة ليرانا. وكان مجيئه بمثابة عيد، لأنّه كان يجلب معه الهدايا ويأخذني لنأكل الحلوى ونتمشّى ولكن مع أمّي كان الوضع مختلفاً. كانا يتشاجران طوال الوقت وأسمع صراخهما المستمر. لم أكن أعلم سبب خلافهما، لأنني كنتُ صغيرة ولكن بعد فترة أدركتُ أنّ أبي كان لديه شبه عائلة في المهجر. فبعد أن سافر، تعرّف إلى إمرأة وأنجب منها طفلاً. ولم يعد يأتي أبداً وكلّما سألتُ عنه كانت والدتي تقول لي:
- عليكِ نسيانه... إعتبريه ميتاً فهذا أفضل.
ولكنّني لم أنساه، لأنّه كان يرمز إلى الجانب القويّ من حياتي، مقابل ضعف أمّي وكانت سفراته العديدة تجعلني أحلم بعالم أكثر إثارة من الأيّام المملّة التي كنتُ أقضيها في بلدة صغيرة من بلد صغير. وبعد غياب كلّي دام خمس سنوات، ظهرَ أبي من جديد. كان قد إستأجر شقّة قريبة منّا وبعد أن إنتقلَ إليها بشهر، إتّصل بنا. أجبت، فقال لي:
- إحزري من... أجل أنا البابا... إشتقتُ إليكِ كثيراً... كنتُ في أوروبا وها أنا قد رجعتُ... أنا قربكِ يا حياتي... تعالي أنا بإنتظاركِ.
لم أقل شيئاً لأمّي، خوفاً من أن توبّخني وركضتُ إلى العنوان الذي أعطاني إيّاه. عانقَني بقوّة وجلستُ على حضنه وهو يخبرني قصصه المشوقّة. ثم سكتَ وقال لي:
- إشتقتُ لأمّكِ... هل تعتقدين أننا...
- لا! إنّها تكرهكَ!
- لا أظنّ ذلك... مهلاً...
أخذَ الهاتف وطلبَها وأسمعَها أغنية دون أن يتفوّه بكلمة. وأقفلَ الخط. وبعد دقيقتين عاودَ الإتّصال بها وتكلّما مطوّلاً. سمعتُه يقول لها كلمات حبّ ويعتذر لها بحرارة. وبعد أن توسّلَ إليها بشتّى الطرق، قبِلت أن تراه. ثم نظرَ إليّ وقالَ لي:
- ماذا قلتُ لكِ؟
وضحِكَ. وبعد يومين إنتقلَ أبي للعيش معنا مجدّداً. ولكن فرحتي لم تدم، فبعد أسبوع من الشجار، إنفصلا مرّة أخرى وكانت آخر مرّة أرى فيها أبي في بيتنا. وكالعادة إنقطعَت أخباره كليّاً وكأنّه تبخّر في الطبيعة وعُدنا نعتاد على العيش من دونه. وكانت أمّي قد أقسمَت ألا تقع ضحيّته مرّة أخرى وحافظَت على وعدها. وحين أصبحتُ في الثامنة عشر من عمري، جاءني إتصال من والدي على جوّالي:
- إحزري من!
- من أين أتيتَ برقمي الخاص؟
- هكذا تتأهّلين بأبيكِ؟
- أجل عندما يتصرّف وكأنّني غير موجودة في حياته!
- لا تتصوّرين كم أنا مشغول! ولكن كفى عتاباً أنا الآن أتكلّم معكِ ولديّ مشاريع لكِ... لن أقبل أن يفرّق أحداً بيننا بعد الآن!
- لم يفرّقنا أحد سواك! ماذا تريد؟
- أنا الآن في أفريقيا... تعالي إلى هنا... عيشي هنا... معي!
- أفريقيا! هل جننت؟ لا! لا!
ولا أدري كيف ولكنّه إستطاع إقناعي بترك كل شيء والذهاب إلى هناك. وبالطبع مانعَت أمّي بقوّة وحذّرتني منه ولكنّني أصرّيتُ على السفر. حزمتُ حقائبي وطرتُ إلى أفريقيا. كان والدي بإنتظاري بالمطار وعانقَني بقوّة وأخذَني إلى بيته. هناك وجدتُ إمرأة سوداء وولدين صغار. قال لي:
- أولادي وأمّهم... لا تقولي شيئاً... سنتكلّم بالموضوع لاحقاً.
وخلدتُ إلى النوم في تلك الليلة وفي رأسي تساؤلات عديدة عن أبي وحياته وما يخبّئه لي. وجاءَتني الأجوبة سريعاً، فعلمتُ أنّ لي أخوة في بلدان عديدة وأن العائلة تكبر مع كل محطّة له. لم أعلم إن كان عليّ أن أرحل لأعبّر عن إستيائي أم أن أبقى لأحاول إقناعه أنّ الذي يفعله خطأ ومعيب خاصة لأولاده. وقرّرتُ أن أمكث قليلاً لأقيّم الوضع أكثر وسرعان ما إختفَت زوجة أبي وولديهما وعندما سألتُ عنهم أجابني والدي:
- رحلوا إلى بلدتهم... لا أريد إزعاجكِ... على كل حال كل ما يهمّهم هو المال وليس أكثر وسأبعث اللازم لإسكاتهم.
أخذَني والدي لأرى البلد وكان المكان رائعاً بإختلافه عن باقي العالم وأعجبتُ بالمناظر الخلابة والطعام والناس. وبعد حوالي أسبوعين، جاء إلى العشاء رجل في العقد الرابع من عمره. من حديثه على المائدة، علمتُ أنّه تاجر كبير، عمِل ثروة كبيرة من تجارة الخشب الأفريقي ويملك عقارات لا تُحصى. لم أحبّه ولم أحبّ طريقته بالتباهي هكذا ولكنّني تحملّته حتى أن رحل أخيراً عند منتصف الليل. عندها قلتُ لأبي:
- كم أنّ هذا الشخص بغيضاً! مِن أين تعرفه؟
- إنّه صديق... أحياناً أتعامل معه... ليس بهذا البغض، فهو عادة لطيف ومتواضع ولكن عندما رأى فتاة بجمالكِ شعرَ بالحاجة للتباهي... تعرفين كيف هم الرجال!
- للصراحة الرجل الوحيد الذي أعرفه هو أنتَ ولا تعجبني تصرفاتكَ كرجل... تصبح على خير.
وبعد يومين قال لي والدي أننا مدعوّان إلى فيلا صديقه. حاولتُ ألا أذهب ولكن كان رفضي هذا غير لائقاً. وعندما وصلنا إستقبلنا الرجل بحرارة وعمِلَ على تزويرنا ما أسماه "القصر". كان المبنى جميلاً بالفعل ولكنني لم أكن من اللواتي تهتمّ بالمظاهر. قضينا نهاراً ممتعاً بعدما أكلنا وشربنا أفخر ما يمكن تقديمه وعدنا إلى البيت. وفي الصباح عندما جلسنا لتناول الإفطار قال لي أبي:
- أظنّ أن صديقي مغرم بكِ... وكيف لا يكون فأنتِ فتاة جميلة...
- لا يهمّني الأمر! إنّه قبيح وكبير وثقيل الظلّ!
- ربّما... ولكنّه ثري... مع هكذا رجل لن ينقصكِ شيء... فكّري بالأمر.
- لستُ بحاجة إلى من يهتمّ بي، فأنا فتاة عصريّة يمكنني العمل وجني ما يمكّنني من العيش بكرامة. لن أفكّر بالأمر.
- ولكن حبيبتي... الأمر ليس بهذه البساطة... أنا وعدته...
- وعدته بماذا؟
- أنّكِ ستتزوّجينه...
- كيف تعده بذلك؟ أفقدتَ عقلكَ؟؟؟ فقط لأنّه صديقكَ؟ بِغضّ النظر إن كان يعجبني أم لا؟
- ليس فقط لأنّه صديقي بل لأنّني مدين له بالمال... الكثير من المال.
- أفهم من حديثك أنّك تبيعني له؟
- لا تقولي ذلك... بتزويجكِ له أنا رابح وأنتِ أيضاً... هو ثري جداً!
- لن أقبل بالزواج منه حتى لو وضعتَ مسدّساً في رأسي! ألا يهمّكَ أحد سوى نفسكَ؟ ظننتُ أنّه رغم كل شيء لديكَ شعور بالأبوّة... ولكنّكَ إنسان أنانيّ لا تعيش سوى لنفسكِ وتسبّب التعاسة حولكَ. أنا راحلة!
وجمعتُ أمتعتي وعدتُ إلى البلد في اليوم نفسه. لم أسمح له حتى أن يصطحبني إلى المطار. ومنذ تلك اللحظة لم أره أو أسمع صوته مجدّداً. للحقيقة لم يحاول الإتصال بي مطلقاً للإعتذار أو حتى لسماع صوتي ولم أشتاق له ولألاعيبه. وبعد حوالي عشر سنوات وصلَني أنّه لقيَ حتفه في حادث سيّارة وهناك إشاعات تقول أنّه لم يكن حادثاً بل قتلَته المافيا الأفريقيّة.
حاورتها بولا جهشان