تسبّبتُ في موت تلميذتي

ما أصعب صحوة الضمير بعد أن عمِلَ الإنسان سنين على إخماده، خوفاً مِن أن يعترف لنفسه وللعالم أنّه أخطأ! وفيما يخّصني، دفعتُ ثمن أخطائي غالياً. وسأبدأ بالظروف التي جعلت منّي تلك المرأة، أي العائلة التي وُلدتُ فيها.

كانت أمّي شبه موجودة، لأنّ أبي كان الذي يضع القوانين في البيت ويفكهّا على مزاجه ويسمح لنفسه أن يفعل ما يشاء، فقط لأنّه رجل ولأنّه دخلَ الجامعة، بينما والدتي كانت بالكاد تجيد القراءة والكتابة. ولاحقاً وبعد أن أحبّها وتزوّجها، صارَ يحتقرُها ويهزأ منها. وحين جئتُ إلى الحياة، وجَدَ فيّ رفيقة له وعمِلَ جهده لكي أصبح ما إعتقدَه المرأة المثاليّة. ولكن مفهومه للحياة كان خاطئاً ولم يجروء أحد على التصحيح له، حتى أخي الذي ولِدَ مِن بعدي بِسنة.

وصرتُ مثله، أفرض على الجميع إرادتي بِعناد وتسلّط وأحتمي فيه عندما تحاول أمّي تربيَتي بطريقة سليمة حتى أن إستسلَمت المسكينة وتركَتني على سجيّتي. في المدرسة، كنتُ أؤلّف مجموعة أترأسّها وأديرها وعملها الوحيد، كان فرض القوانين على باقي التلاميذ ولاحقاً على الأساتذة عندما أصبحتُ في الجامعة. والذي ساعدَني، هو أنّني كنتُ ذكيّة جداً وأحصل على أفضل العلامات. فكان لي كلمة ونفوذ في ما يُعرف برابطة التلامذة. وكان يأتي إليّ كل مَن أحتاج إلى خدمة أو رعاية وكنتُ أستقبله تحت جناحيّ وإن كان جديراً بأن يلتحق بمجموعتي. وكان المنتسب الجديد يخضع لإمتحان يثبتُ أنّه فعلاً أهل ليكون فرداً منّا، أي أن عليه أن يقوم بإرضاءنا وخدمتنا.

 

وحين تخرّجتُ مِن كليّة الهندسة، كان الحفل وكأنّه معدّ لي مِن كثرة التسقيف والتهاني التي حصلتُ عليها. ولكن لم يرَ أحد مدى خطورتي، بل إعتقدوا جميعاً أنّني كنتُ فتاة قوّية وناجحة. لِذا طُلبَ منّي وبصورة إستثنائيّة أن أدرّس في الجامعة وبعد أن تشاورتُ مع والدي بهذا الخصوص وأخذتُ بركته، قبلتُ عرضهم. وحين بدأتُ التعليم، عاودتُ مع تلاميذي نفس الطريقة التي إتبّعتُها مع زملائي، أي فرضتُ إرادتي عليهم حتى لو لم أكن على حقّ. ولأنهّم كانوا لايزالوا في سنّ صغير، أطاعوني دون مناقشة لو أنّنهم عرفوا أنّني قادرة على كسرهم حين أشاء. وأصبحَ صفّي نموذج لباقي الصفوف، يتكلمّ عنه الجميع ويمتثل به باقي الأساتذة، حتى أن قال لي المدير ذات يوم:"إختياري لكِ كان في محلّه... أنتِ قدوة لكلّ مَن يسمّي نفسه أستاذاً.

 

ومرّت السنين وكانت نسبة نجاح تلاميذي 100% وبات الأهل يطلبون أن يوضَع أولادهم عندي. وفي هذه الأثناء، كبرَت ثقتي بنفسي إلى حدّ تخطىّ المقبول، خاصة عندما تلقّيتُ مِن الجامعة شهادة دكتوراه فخري لأنّني لم أكنّ قادرة ولِضيق وقتي أن أتابع دراسات عليا. ولكنّ أمراً حدثَ وعكّرَ عليّ صفو حياتي المهنيّة، الشيء الذي لم أكن مستعدّة لِقبوله.

ففي ذاك يوم، جاءَت إلى صفّي تلميذة إسمها سهام، لم تتقبّل إسلوبي بالتعاطي معها ومع رفاقها وإعتبرَت طريقتي قديمة لا تتماشى مع التعليم الحديث. ومِن نظراتها لي، شعرتُ أنّها ستسبّب ليّ المشاكل وتأكدّتُ مِن شعوري هذا عندما بدأت تبدي إستياءها علناً، الأمر الذي حملَ زملائها على التشكيك بإدارتي لصفّي. عندها، قرّرتُ ألاّ أدعها تهدم كل ما بنيّتُه طوال حياتي وتلقينها درساً لن تنسيه.

 


فبدأتُ أحرجها بأسئلة تعجيزيّة، لأثبتَ لِباقي الصفّ أنّها تتداعى المعرفة ولكنّها كانت تلميذة مثقّّفة وإستطاعَت تفادي الفخوخ التي نصبتُها لها. ومِن بعد ذلك، قرّرتُ أن أدقّق بشكل فائق بمسابقاتها وأحذف لها علامات على أقل خطأ، بينما كنتُ أتغاضى عنها عند الآخرين. وهكذا لم تعد تحصل على نقاط عالية كما كانت تفعل عندما وصَلَت في أوّل السنة. وبدأ يظهر الإستياء عليها مِن طريقة جواباتها لي ووقوفها بوجه كل قرار أتخذّه. ولم تكتفي بذلك، بل شكلَّت مجموعة هدفها مناقضَة كل ما أٌقوله أو أفعله بشكل قانوني. وهنا شعرتُ بالخوف على كل ما أمثّلُه ومثّلتُه وصمّمتُ على كسرها وبصورة نهائيّة. وإرتأيتُ أن الطريقة المناسبة والأكثر فعاليّّة، كانت أن أجد نقطة ضعفها في حياتها الشخصيّة. لِذا وكّلتُ أحد تلاميذي الأوفياء لي بأن يتقصّى عنها لدى جيرانها وأقاربها وأصدقاءها المقرّبين ويرجع إليّ بتقرير مفصّل. وإنتظرتُ طويلاً حتى خلتُ أنّني على وشك أن أخسر المعركة. ولكنّ ذلك الشاب عادَ إليّ بأخبار جيدّة. علمتُ منه أنّ أمّ سهام ترَكت المنزل منذ سنين ولم تعد وأنّ أبوها يتعاطى الكحول ويلعب الميسر بإنتظام وأنّ لديها أخاً كبيراً لا ينفع لشيء. سررتُ جداً لِمعرفة هذه التفاصيل المفيدة وإنتظرتُ بفارغ الصبر أوّل حصّة لي بصفّ سهام. وعندما بدأت تلميذتي بالكلام، قاطعتُها قائلة:

 

ـ لو تعلمي يا سهام كم أنا فخورة بكِ وبشخصّيتكِ هذه... فليس مِن السهل على فتاة مثلكِ بأن تكون قويّة هكذا...

 

ـ فتاة مثلي... ماذا تقصدين؟

 

ـ أعني أنّكِ عانيتِ الكثير... خاصة بعدما تركتكِ أمّكِ وأنتِ صغيرة... ليس مِن السهل أن يدرك المرء أنّ حتى أمّه لا تريده...

 

ـ أمّي...

 

ـ وكأنّ ذلك لم يكفِ... هناك أباكِ... مدمِن كحول... ويبدّد كل مايجنيه مِن عمله البسيط على طاولات الميسر...

 

ـ كيف...

 

ـ وأخوكِ... عاطل عن العمل يسرق محفظات النساء في القطارات.

 

ـ أخي ليس هكذا!

 

ـ أهنّئكِ على شجاعتكِ يا سهام... لو كنتُ مكانكِ لما تحمّلتُ هذا الوضع... كم أنّكِ قويّة!

 

وأمتلأت عيون سهام بالدموع ووقفَت وغادَرت الصف بسرعة قبل أن يراها أحد وهي تبكي. عندها إرتسمَت بسمة كبيرة على وجهي وعلمتُ أنّني قد إنتصرتُ عليها نهائيّاً. لم أكن فخورة بالأسلوب الذي إتبعتُه ولكن للضرورة أحكامها وكما يقال، فإنّ الغاية تبرّر الوسيلة. ومنذ ذلك اليوم فقدَت سهام هالتها بين رفقاها، فباتوا يتجنبوّنها لأنّها لم تعد تمثّل القوّة والتصميم، بل الضعف والخيبة. وتدهورَت علاماتها ولم تعد تشارك في الصف وكأنّها لم تعد موجودة. وأنا بدوري تصرّفتُ معها وكأنّ مكانها فارغاً، لا أنظر إليها ولا أوجّه لها الكلام. وتبعَني باقي الصف ومحيناها جميعاً مِن المجموعة. ولم أكتفِ بذلك، بل أخبرتُ باقي الأساتذة عن حياتها الشخصيّّة تحت ذريعة أنّنا وكمرشدين علينا تفهمّ أوضاعها ومساندتها، فبدأوا يحاولون مساعدتها، الأمر الذي زادَ مِن يأسها لأنّ الجميع بات على علم بخصوصيّاتها ويتعاملون معها بشفقة.

وفي ذات يوم وقبل نهاية السنة بقليل، علِمنا أنّ سهام قتلََت نفسها بعدما تناولََت كميّة كبيرة مِن الحبوب المنوّمة. ولا أدري إن إستوعبتُ فعلاً مدى تأثيري على ما فعلَته، لأنّني لم أحزَن كثيراً، بل إعتبرتُ أنّها كائنة ضعيفة قرَّرَت التهرّب مِن واقعها. وأكملتُ حياتي كالعادة ونسيتُ أمرَ سهام.

 

ولكن في ذات ليلة، رأيتُ حلماً مزعجاً جعلَني أستفيق بِهلع. كنتُ قد رأيتُ سهام تبكي وتقول لي:"لماذا فعلتِ بي كلّ ذلك؟ لم أكن سوى فتاة يافعة تريد إثبات نفسها وسط عالم بشع، فزِدتِيه شرّاً وقساوة... كان بإمكانكِ إحتضاني وتفهمّي وإرشادي... كان بإمكانكِ أعطائي الحنان الذي حُرمتُ منه والإحساس بالأمان الذي إفتقدتُه... أنتِ التي قتلتني... أنتِ التي قتلتنيِ".

وبكيتُ كثيراً، لأنّ ما قالَته سهام في منامي كان صحيحاً ولم يعد بإمكاني محو ما حصل. لاعودة إلى الوراء وما كان ينتظرني كان فظيعاً. غرقتُ بإكتئاب عميق، لِدرجة أنّني لم أعد قادرة على دخول صفّي خوفاً مِن أن أرى مقعد سهام الفارغ، فإخذتُ إجازة طويلة. وذهبتُ إلى منزلنا في الجبل وعزلتُ نفسي عن الناس خوفاً مِن أن ينظرَ إليّ أحدهم ويقول لي:"أنتِ قاتلة". ولم أعد إلى الجامعة، فقدّمتُ إستقالتي. وبالرغم أنّ سنوات عديدة قد مرَّت على موت سهام، فالجرح لا يزال يؤلمني وأفكّر كل دقيقة مِن كل يوم بالذي فعلتُه بها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button