الشرف أو السجن (الجزء الأول)

كانت يُمنى، صديقة لي، تعمل عند أناس أثرياء لدفع تكاليف جامعتها. وحدَثَ أن أُصيبَت والدتها بمرض عُضال، لِذا طلبَت منّي أن آخذ مكانها لبضعة أشهر ريثما تتحسّن حالة أمّها. قَبِلتُ عرضها لأنّني كنتُ بحاجة إلى المال، وإلا لَما خطَرَ ببالي أن أنظّف بيوت الناس وأخدمَهم. لكنّ الأشغال كانت قد أصبحَت نادرة، الأمر الذي حمَلَ صديقتي على القيام بهذا النوع مِن العمَل. لستُ أقولُ ذلك بداعي التعالي، لكنّني لطالما كنتُ إبنة مُدللة، هذا قبل أن يتوفّى والدي ويتركنا مِن دون دَخل. إضطرِرتُ لإيقاف دراستي واعدة نفسي بالعودة إليها لاحقًا، أي بعدما أؤمّن لأمّي واخوَتي شيئًا مِن ضروريّات الحياة.

العائلة التي استقبلَتني كانت مؤلّفة مِن أب وأمّ، وثلاثة أولاد ووجدتُهم لطفاء. إستقرّيتُ في غرفة صديقتي التي كانت صغيرة للغاية لكن كافية لاحتواء سرير وخزائن مُعلّقة على الحائط. كان هناك حمّام أيضًا صغير وجدتُه ظريفًا. وفي صباح اليوم التالي، بدأتُ بالعمل بعدما أعطَتني ربّة المنزل التعليمات اللازمة التي كنتُ أخذتُها مُسبقًا مِن صديقتي، لأنّني أرَدتُ أن أقوم بواجباتي على أكمل وجه.

كان الأكل وفيرًا، وسُمِحَ لي بأخذ الفضلات إلى أهلي حين أزورُهم يوم فرصتي. وهناك، مُحاطة بأمّي وأخوَتي، كنّا نتلذّذ بطعام لَم نذقه بحياتنا. وأذكرُ أنّ في أحد الأيّام، دخلَت جارتنا علينا ونحن نأكل، وقالت لي بعد أن دعوتُها للإنضمام إلينا:

 

- كَم أنّكِ محظوظة... يا لَيتكِ تجدين عريسًا غنيًّا أو حتى صديقًا لِتطول هذه النعمة... وإن حدَثَ وتقدّمَت لكِ هكذا فرصة، لا تُبعديها عنكِ باسم مبادئ قديمة وغير نافعة، فكّري بنفسكِ وأهلكِ وجيرانكِ، وسنغضُّ النظر. ها ها ها... أنا أمزحُ يا حبيبتي، أنا أمزحُ.

 

في حينها لَم أعرف ماذا عنَته بكلامها، فضحكتُ على ما اعتقدتُه دعابة بالرّغم مِن غرابته.

مرَّت الأيّام بهدوء، وصِرتُ أحبّ أولاد مُستخدمَيَّ وشعرتُ أنّهم أخوَتي وأنّ عائلتي كبرَت. الشيء الوحيد الذي استغربتُه وأزعجَني بعض الشيء لكثرة احترامي ومحبّتي لصاحبَي البيت، هو أنّ السيّد مُحسن وزوجته لا ينامان في السّرير نفسه أو حتى الغرفة نفسها. إكتشفتُ ذلك وأنا أُرتّب الغرفة الكبيرة. فكان مِن الواضح أنّ شخصًا واحدًا كان يستعملُها بالرّغم مِن الجهود المبذولة لحملي على اعتقاد العكس.

كانت السيّدة مُنى تنام في غرفة أخرى معظم الليل، فهي تترك الغرفة الكبيرة بعد انطفاء الأنوار بقليل لتعود إليها في الصباح الباكر وتمحي آثارها في المكان الذي نامَت فيه. لماذا كلّ ذلك التّعَب؟ ولماذا هذا الجفاء بين زوجَين لا مُشكلة بينهما، خصوصاً وأنّ خلال النهار، العلاقة بينهما كانت جيّدة. صحيح أنّ شغفهما ببعضهما كان قد حلّ محلّه حبّ هادئ بسبب مرور السّنين، إلا أنّهما كانا على توافق وتناغم واضح. بقيَ هذا الموضوع بمثابة لغز بالنسبة لي، إلا أنّني لَم أحاول معرفة المزيد، فقد احترَمتُ خصوصيّات مَن استقبلَني في بيته وعاملَني مُعاملة حسنة. إلى جانب ذلك، لَم أرِد أن تندَمَ صديقتي على تسليمي مكانها وتدفع ثمَن فضولي عندما تعود. لِذا تصرّفتُ وكأنّني لا أعرفُ شيئًا عن مكان نوم السيّدة.

 


لَم أنفكّ عن شكر يُمنى لإعطائي عملها، وتمنَّيتُ ضُمنًا أن أبقى حيث أنا. لكن بعد فترة لَم تعُد صديقتي تتصّل بي كما في السابق وبالكاد ردَّت على مُكالماتي. ردَدتُ الأمر إلى انشغالها بأمّها المسكينة ودعَوتُ لها بالشفاء. حصَلَ ذلك الإنقطاع بعدما أبدَيتُ لها رغبتي بزيارة مريضتها، وبعد أن قدَّمَت لي أعذارًا أقنعَتني في ذلك الحين. فالكثير مِن مرضى السرطان لا يُحبّون أن يراهم أحد، بسبب فقدانهم شعرهم وضعف جسدهم مِن جرّاء العلاج الكيميائيّ. في كلّ الأحوال، كنتُ في التاسعة عشرة مِن عمري ولا أزالُ أجهلُ كلّ شيء عن العالم والناس. بالنسبة لي، كان الكلّ مثلي، أي بريء وصادق. وما مرَرتُ به لاحقًا كان درسًا مريرًا تلقَّيتُه رغمًا عنّي.

فبعد أقلّ مِن شهرَين على وصولي إلى ذلك البيت، طلبَني سيّد المكان إلى غرفة الجلوس وقال لي:

 

ـ أنا مستاء منكِ كثيرًا، لا بل خيَّبتِ أمَلي بكِ.

 

ـ لماذا يا سيّد مُحسن؟ أبذلُ جهدي لـِ...

 

ـ لا أتكلّم عن أدائكِ في العمل، بل عن أخلاقكِ.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ أجل، حسبناكِ صبيّة نزيهة كصديقتكِ، وإذ بكِ تسرقين مَن استقبلكِ في بيته.

 

ـ أنا أسرقُ؟َ!؟ أقسمُ بالله...

 

ـ لا تُتعبي نفسكِ بالحلفان، فلقد رأيتُكِ تضَعين عقدًا في غرفتكِ.

 

ـ هذا افتراء! إن كنتَ لا تصدّقني فتعالى معي إلى غرفتي وفتّشها!

 

ـ هذا تمامًا ما كنتُ أنوي فعله. هيّا بنا.

 

وكَم كانت مُفاجأتي كبيرة عندما وجَدَ السيّد مُحسن عقدًا مِن الذهب والماس في خزانتي. بدأتُ بالبكاء والنكران، لكنّ ذلك لم يكن طبعًا كافيًا. أضافَ الرجل:

 

ـ سأضطرّ لطلَب الشرطة، فالأدلة فاضحة.

 

ـ أرجوكَ ألا تفعل يا سيّدي! لَم آخذ شيئًا مِن أحد ولا أعلمُ مِن أين ذلك العقد وكيف جاء إلى غرفتي! دخولي السجن سيُدمّرني ويُدمّرُ عائلتي! أرجوكَ!

 

جلَسَ السيّد مُحسن على حافة سريري ونظَرَ إليّ مِن رأسي إلى أسفل قدمَيَّ، وابتسَمَ وكأنّه ممنون مِن الذي يراه. وتابَعَ:

 

ـ هناك طريقة واحدة يُمكنُها تجنيبكِ السّجن.

 

ـ ما هي؟!؟ قُلها لي!

 


عندها وقَفَ الرجل واقترَبَ منّي ووضَعَ يدَه على شعري. إبتعدتُ منه على الفور فقال لي:

 

ـ هذا التصرّف لن يُفيدُكِ، بل العكس. ولكن إن كنتِ لطيفة معي، فقد أقولُ لزوجتي إنّني وجدتُ عقدها في مكان آخر وإنّها أضاعَته بنفسها.

 

ـ لطيفة معكَ؟

 

ـ أجل، أي أن توافيني إلى غرفتي ليلاً حين أطلبُ منكِ ذلك.

 

ـ هذا لن يحصل. أنا أفضّل الموت على ذلك!

 

ـ ومَن تكّلمَ عن الموت؟ هو السجن والعار فقط. سأمهلُكِ 24 ساعة لتفكرّي بالموضوع.

 

وقبل أن يترك غرفتي، أخَذَ صورة بهاتفه عن العقد في خزانتي، ومِن ثمّ وضعَه في جيبه قائلاً: "للتكنولوجيا مزايا عديدة... مَن كان ليظنّ أنّ الهواتف ستكون يومًا آلات تصوير وتسجيل... وابتزاز؟

 

لزِمَني بعض الوقت لأستوعب فظاعة الوضع الذي أنا فيه، وشعرتُ أنّني سجينة ليس داخل قضبان مِن حديد، بل في فخّ وقعتُ فيه يستحيلُ الهروب منه. وبعد ليلة قضيتُها وأنا أبكي، قصدتُ صباحًا منزل صديقتي لأستعين بها ونجد سويًّا مهربًا لمصيبتي. إلا أنّها لَم تكن في المنزل، بل فتحَت لي أمّها:

 

ـ أهلاً حبيبتي... يُمنى ليست هنا، هي سافرَت عند أختي.

 

ـ متى ستعود؟

 

ـ لستُ أدري تمامًا... أدخلي.

 

ـ لا شكرًا. كيف صحّتكِ؟ هل تشعُرين بتحسّن؟ هل العلاج يأتيكِ بنتيجة؟

 

ـ أنا بألف خير كما ترَين! مَن قال لكِ إنّني مريضة وأتعالج؟

 

نظرتُ إلى رأس أم يُمنى، وما خلتُه في البدء شعرًا مُستعارًا كان شعرها الحقيقيّ. عندها استوعَبتُ أنّ ما قيل لي كان كذبًا، ولكن لماذا؟

تركتُ المكان وحاولتُ في طريقي الاتّصال بيُمنى، لكن هاتفها كان مُقفلاً. ما الأمر؟ لماذا تتهرّبُ صديقتي منّي؟ إلى مَن كنتُ سألجأ؟ لَم أرِد بالطبع إخبار أمّي بما جرى لي مع السيّد مُحسن، فكانت مصائبها تكفيها، ولَم يكن باستطاعتي إخبار الشرطة بالإبتزاز الذي مارسَه ربّ عملي عليّ، فكان بلا شكّ سيقولُ إنّني سارقة ويُريهم الصورة التي التقتَها وسيُصدّقون رجلاً ثريًّا ويُكذّبون خادمة بسيطة. شعرتُ بوحدة لا توصَف، ولَم يتبقَ أمامي سوى شراء الوقت إلى حين أجدُ المخرج المُناسب. فلَم يكن مِن الوارد أبدًا أن أستسلم لرغبات ذلك الرجل الدّنيئة، فشرَفي وكياني هما هويّتي ولا شيء في العالم أسره بإمكانه انتزاعهما منّي. وفي آخر المطاف، كان السجن أفضل مِن أن يلمسَني ذلك القذر.

لَم تبقَ لدَيّ سوى السيّدة مُنى، ربّة عمَلي، فهي الوحيدة التي بإمكانها رَدع زوجها عنّي، كونها امرأة مثلي. لكن كيف أزفُّ لها خبر دناءة الرجل الذي تزوّجَته، مِن دون إغضابها؟ صلَّيتُ كثيرًا طالبة عون الله في تلك المهمّة الدقيقة، ونمتُ والدّموع تبلّل مخدّتي. إنتظرتُ إلى أن ذهَبَ السيّد إلى عمله والأولاد إلى مدارسهم حتى أقصدُ السيّدة. لَم أكن أريدُ البقاء في ذلك البيت ولا أريدُ مالهم أو أيّ مال، بل تفادي السجن والمُحافظة على شرَفي. طلَبتُ مِن السيّدة مُنى الإذن بمكالمتها، وهي ابتسَمت لي ولطلَبي الغريب وجلَسنا سويًّا في الصالون.

أخذتُ نفَسًا عميقًا وبدأتُ بالكلام والبكاء.

 

يتبع...

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button