كانت تلك العجوز تثير اهتمامي إلى أقصى درجة، فمنذ ما كنتُ صغيرة وأنا أراها تمشي في البلدة لوحدها والحزن يملأ عَينَيها. كنتُ أعلم طبعًا أنّ اسمها لمياء وأنّها تسكن لوحدها في بيت جميل، ولكنّني كنتُ متأكّدة مِن أن لدَيها قصّة محزنة لا بل مأساة تخفيها وراء مساحيق التبرّج التي لم تكن تخرج مِن دونها.
سألتُ أمّي عنها مرارًا، إلا أنّني لم أحصل على مبتغايَ بل على بعض التفاصيل التي كان الجميع على علمٍ بها.
قد تقولون عنّي متطفّلة، ولكن فضولي كان نابعًا مِن نيّة صادقة هدفها فهم ما يجري في رأس التي كنتُ أسمّيها "مِس لمياء" بسبب مشيَتها ولبسها الأنيق. كانت حقًّا تشبه تلك اللواتي فزنَ بِلقَب ملكات الجمال.
وقرَّرتُ التقرّب مِن لمياء على أمل أن تفتح لي قلبها يومًا، فإضافة إلى التحيّة التي كنتُ ألقيها عليها عندما كانت تمرّ بقربي، بدأتُ أكلّمها عن الطقس وأمور مشابهة حتى رأيتُها أخيرًا تبتسم لي.
وفي أحد الأيّام لمَحتُها تحمل أكياسًا وتتجّه إلى بيتها، فاستغنَمتُ الفرصة لأقدّم لها مساعدتي ومَن يدري، فقد أدخل المكان الذي تسكن فيه والذي لم يدخل إليه إلا القليلون.
نظَرَت إليّ العجوز مطوّلاً وكأنّها تزين تداعيات قرار صعب عليها ومِن ثم قالَت لي: "حسنًا". وشعَرتُ بتلك اللحظة أنّها أعطَتني امتيازًا لم يحصل عليه إلا المحظوظون.
حمَلتُ عنها الأكياس ومشيتُ وراءها بصمت. عندما دخَلنا البيت، بدأ قلبي يدقّ وكأنّني دخَلتُ مغارة علي بابا السحريّة. فإلى جانب رهبة تلك اللحظة، كان المكان يحتوي على تحف ولوحات لا تُحصى، وفي كل زاوية أشياء جميلة وثمينة تغلّفها رائحة الزمَن وغباره. كانت لمياء امرأة ثرية ولكن وحيدة وحزينة، الأمر الذي زادَ مِن فضولي.
وضَعتُ الأكياس في المطبخ ووقَفتُ وسط الصالون، فلم أكن أريد أن أرحل، وانتظرتُ مِن لمياء أن تدعوني للجلوس.
مرَّت بضعة ثوانٍ سادَ خلالها صمت مقلق حتى سمعتُها تقول لي:
ـ فنجان شاي؟
أسرَعتُ بالقبول قبل أن تغيّر رأيها.
جلَسنا على كنبة فخمة بعد أن حضَّرَت لمياء الشاي ووضعَته في أوانٍ مِن فضّة. في تلك الأثناء ألقَيتُ نظرة خاطفة على كلّ ما يُحيط بي، ورأيتُ في جميع الصوَر المعروضة على الحائط والأثاث لمياء برفقة امرأة تشبهها كثيرًا فاستنتجتُ طبعًا أنّها اختها.
شرِبنا الشاي بصمت مزعج بعض الشيء، وقرَّرتُ كسر الجليد:
ـ منزلكِ جميل للغاية يا سيّدة لمياء.
ـ أجل... ولكنّه مليء بالغبار... لم أعد قادرة على ايجاد مَن يُساعدني ففي أيّامنا هذه بات الناس يُفضّلون الأعمال غير المتعبة... وأجد صعوبة بتنظيف المكان لوحدي... هل أعجبَكِ الشاي؟ خذي قطعة بسكويت... لم أصنَعها بنفسي ولكنّها لذيذة.
ـ شكرًا سيّدتي... هل أختكِ هي توأمكِ فهي تشبهكِ إلى حدّ كبير!
ولحظة ما انتهَيتُ مِن قول جملتي، وقفَت لمياء وقالَت لي بجديّة:
- أظنّ أنّ عليكِ الرحيل
إحمَرَّ وجهي وامتلأت عَينَاي بالدموع وبدأتُ اعتذر لها عن تطفّلي:
ـ لم أقصد شيئًا... ولم أكن أعلم أنّ الكلام عن أختكِ سيغضبكِ... هل هي ميّتة؟
ـ أجل.
ـ يا إلهي كم أنا خرقاء! رحمها الله... سأرحل إن كان وجودي يُزعجكِ.
ـ لا... لا... لقد تصرّفتُ معكِ بقساوة، الأمر الذي سبَّبَ لي مشاكل كثيرة في حياتي... اجلسي... أجل ماتَت أختي الحبيبة... أختي التوأم... ماتَت بظروف خاصة.
ـ ماذا تعنين؟ أقصد... لا تظنّي أنّني متطفّلة أرجوكِ!
ضحِكت العجوز وقالَت:
ـ لا... لن أظنّ أنّكِ متطفّلة ولكن... تودّين معرفة قصّتي... لا تنكري ذلك فلقد لاحظتُ اهتمامكِ بي... إبتساماتكِ وتحدّثكِ لي المفاجئ.
ـ أنا...
ـ لا تخافي... لا يُزعجني الأمر، فلقد سئمتُ مِن هذا الصمت القاتل... أنا عجوز وقيل لي إنّ أيّامي معدودة ولا أريد أن أرحَل مِن دون أن يعرف ولو شخص واحد ما جرى لي ولهناء.
ـ هناء هي أختكِ؟
ـ أجل... أختي الحبيبة... نصفيَ الآخر جسديًّا ومعنويًّا.
وفي تلك اللحظة شعَرتُ بفخر عظيم لأنّ لمياء اختارَتني لسماع قصّتها. سكتُّ واعدة نفسي بعدم مقاطعتها والاستماع إلى سيرة حياتها التي لطالما حلِمتُ أن أعرفُها. وبدأَت لمياء بسرد قصّتها:
ـ ولِدنا في الوقت نفسه ولكنّني سبقتُها ببضع دقائق إلى هذه الدنيا التي تعطينا كلّ شيء ثمّ تأخذ منّا ما أعطَتنا. ولو علِمتُ ما كان سيحدث بعد ثلاثين سنة لما خرَجتُ مِن بطن أمّي... ولأنّني أبصَرتُ النور قبلها، أصبَحَ لي نوع مِن الهَيمنة عليها، فكان لا بدّ أن ترأس احدانا الأخرى وذلك لمصلحتنا، على الأقل هذا ما اعتقَدتُه. كانت هناء أقلّ شراسة منّي وأكثر هدوءًا وكنتُ أكثر دهاءً وأقل تهوّرًا، وسويًّا كنّا نشكل الشخص المثاليّ.
كما ترَين ترَعرَعنا في بيت جميل لا ينقصنا شيء، لا بل كان هناك فائض سمَحَ لنا بالحصول على كلّ ما أرَدناه. كان أبوايَ لطيفَين ومحبَّين، أي أنّنا كنّا كلنّا سعداء.
ماذا يسعني أن أقول لكِ عن هناء؟ إنّها أعزّ انسانة على قلبي؟ إنّها الجزء الضائع الذي لن أجده أينما بحثتُ؟ أجل هكذا هي بالنسبة لي... عندما أغمض عَينَيَّ وأتصوّر أختي، لا أرى سوى ابتسامتها العريضة وأسمع ضحكتها العالية... كانت تحبّ الحياة بشكل قويّ، وبالرغم مِن ذلك..."
وامتلأت عَينَا لمياء بالدموع وتوقّفَت عن الكلام. ركَضتُ إلى المطبخ وعُدتُ منه مع كوب مِن الماء. شرِبَت العجوز ومسحَت دمعها وتابعَت:
ـ عليّ أن أتكلّم... لم أعد أحتمل هذا الصّمت الرهيب الذي دامَ أربعين سنة... أين كنتُ... آه... حب هناء للحياة... أجل... كانت محبوبة مِن الجميع لأنّها كانت تحبّ الكلّ. لم أكن مثلها، كنتُ أكثر حذرًا بتعاملي مع الناس، ربّما لأنّني رأيتُ مكر الانسان وما يمكنه فعله بأخيه. كبرنا لنصبح صبّيَتَين جميلتَين وكنّا محاطتَين بالشبّان طبعًا، فالكلّ كان يريد إحدى بنات السيّد كمال، رجل الأعمال الناجح والكريم. لم أكن ضدّ المواعدة أو الزواج، ولكنّني كنتُ أريد رجلاً يُشبه أبي بأخلاقه ويُعاملني مثلما يُعامل والدي أمّي. ولم أجده آنذاك بل لم أجده أبدًا. هل هذا لأنّ أشباه أبي هم نادرون، أم لأنّ الفتاة ترى أباها أفضل رجل في العالم؟ لستُ أدري ولكنّ هناء كانت مِن رأي آخر وكانت تواعد شبّانًا، ولكنّها أدركَت مع الوقت أنّ ثروة أبينا تهمّهم أكثر مِن أيّ شيء آخر.
في تلك الحقبة بالذات ماتَ والدَانا في حادث قطار في أوروبا. وبلحظة واحدة امّحَت نصف عائلتنا مِن الوجود، ولو لم يكن لدَينا بعضنا لكنّا متنا مِن الحزن.
مصيبتنا جَذَبَت المزيد مِن العرسان، فكنّا قد أصبحنا وريثتَي ثروة كبيرة ولم يعد يلزم للطامعين انتظار موت والدَينا لوضع اليد على كلّ شيء.
وشعَرَتُ أنّ هناء كانت في حالة ضعف شديد مِن جرّاء حادث والدَينا، وخِفتُ أن تقع فريسة الرجال الجشعين وقرَّرتُ التكلّم معها:
- أختي حبيبتي... بتنا لوحدنا اليوم وليس لدَينا سوى بعضنا... أنتِ نصفي وأنا نصفكِ، وسويًّا نشكّل شخصًا واحدًا قويًّا... ولكنّكِ عاطفيّة وأخشى عليكِ كثيرًا... علينا أن نبقى ملتحمَتَين بوجه هذا العالم القبيح، لِذا أريدكِ أن تعديني ألا تتزوّجي يومًا.
نظَرَت إليّ باستغراب لأنّها لم تفهم أنّني كنتُ أحميها وأحمي نفسي بالوقت نفسه، ورفَضَت. عندها قرَّرتُ استعمال أساليب مختلفة، أي أنّني بدأتُ يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة اقنَعها ببشاعة الرجال، وبأنّهم صنف متدنٍّ لا يبحثون سوى عن لذّتهم والمال. كنتُ أعرف كيف أصِل إلى عقل أختي وكنتُ متأكّدة مِن أنّها ستقتنع منّي عاجلًا أم آجلًا.
وكنتُ محقّة، فباتَت هناء ترفض كلّ مَن يتقدّم لها، أي أنّني نجَحتُ بزرع الخوف في قلبها. وعندما أفكّر اليوم بالذي فعلتُه، أدرك أنّ دافعي كان نابعًا مِن خوفي مِن البقاء وحيدة، لأنّني كنتُ واثقة مِن أنّ أختي ستجد الرجل الذي تريده وتتزوّجه وترحل، وتلك الفكرة كانت تثير قلقي إلى أقصى درجة، فكيف لي أن أعيش في هذا البيت الكبير مِن دونها؟
ولكنّ القدر يفعل بنا ما يشاء ويسخر مِن محاولاتنا البائسة للتهرّب منه. وقَعَت هناء في الغرام، ومِن تلك اللحظة تغيّرَت حياتنا إلى الأبد.
يتبع...
حاورتها بولا جهشان