إعترفَ لي عمّي بِسرّ موت أبي

لم أعرف حقيقة ما جرى لأبي إلاّ عندما أوشكَ آخر عمّ لي على مفارقة الحياة بعد نضال مع المرَض دامَ سنين. وبالرغم أنّ الإتصال بيننا كان قد إنقطعَ منذ زمَن بعيد لم أشأ أن أفوّت فرصة وداعه لأنّه كل ما تبقّى لي مِن عائلة والدي.

عندما دخلتُ غرفته ورأيتُه على سريره تمنيّتُ لو عاشَ أبي لِيصبحَ عجوزاً بدل أن يموت في سنّ لم يتجاوز الأربعين. وبالرغم أنّني كنتُ قد أصبحتُ أمّاً لمراهقَين لم أنسَ الألم الذي سبّبه رحيله. وإقتربتُ مِن عمّي ومسكتُ يده. نظَرَ إليّ بإندهاش فلَم يتصوّر أن يجدَني بقربه وقال:

 

ـ كم تشبهينَه... نسخة مِن أخي جهاد...

 

ـ أجل... هذا ما كانت تردّده أمّي... رحمها الله.

 

ـ مِن الجيّد أنّكِ أتيتِ... يمكنني الآن إراحة ضميري قبل ملاقاة الخالق...

 

ـ ماذا تقصد؟

 

ـ هناك أشياء عشتُ معها طوال سنوات عديدة... ولم أذِق بِسببها طعم الراحة ولو ليوم واحد... ربما سأستطيع الآن إغماض عينّي دون أن أرى وجه جهاد أمامي... لو تعلَمين كم أنا آسف...

 

ـ على ماذا؟

 

ـ على قتله.

 

وشعرتُ بدمي يغلي في عروقي ونظرتُ إلى العجوز وكأنّه شيطاناً لعيناً وأفلتُّ يده وإبتعدتُ منه أصرخ:

 

ـ ماذا؟؟؟ قتلتَه؟

 

ـ ليس وحدي... بل كلنّا فعلنا... أنا وقاسم ومُنذِر...

 

ـ ولكنّه مات في حادث سيّارة!

 

ـ جعلنا الأمر يبدو هكذا...

 

ـ ولكن لماذا؟؟؟ كان إنسان طيبّاً والكل يحبّه!

 

ـ أجل... هكذا كان وهذا أحد الأسباب التي جعَلتنا نقرّر التخلّص منه... إسمعيني... لديّ بضعة ساعات فقط... إسمَعي القصّة ولا تحرميني مِن رَويَها أرجوكِ...

 


جلستُ على كرسيّ ورغم دقّات قلبي المتسارعة إستمعتُ إليه. وهذا ما قاله:

 

ـ منذ ما ولِدَ أبوكِ وهو المفضّل لدى الجميع... كان طفلاً جميلاً ولأنّه كان الأصغر فينا لاقى إهتماماً خاصاً فلَم يُرفَض له طلباً وكان والدَينا يجبروننا على إعطاءه العابنا وإصتحابه معنا إينما نذهب. ونَمَت بقلوبنا غيرة كبيرة تجاه هذا المخلوق الصغير الذي أخذَ منّا محبّة أهلنا وإستمرَّت حتى أن أصبحَ جهاد مراهقاً وباتَ محاوَطاً بأجمل الفتيات بينما كنّا نحن نجاهد للحصول على موعد مِن إحدهنّ. ولأنّه إعتبرَ الوضع طبيعيّاً لم يحاول جهاد يوماً أن يتقرّب منّا بل شعَرَ أنّنا كنّا موجودين فقط لتأمين سبل الراحة له وأنّنا أقل شأن وأهميّة منه...

 

ـ لم يكن أبي هكذا! هذا غير صحيح!

 

ـ بلى... ولكنّه تغيّر لاحقاً مع العمر وخاصة بعدما تعرّفَ إلى أمّكِ التي هدّأته وجعَلَت منه إنساناً متواضعاً... ولكنّنا كنّا قد كرهناه ولم نَرَ فيه سوى مصدر إزعاج وباتَ تفكيرنا مصبوباً كلّه على إيجاد حلّ لوضعنا... ولكنّ القتل لم يكن بعد وارداً.

 

ـ وما الذي حصلَ لكي تقرّروا التخلّص منّه؟

 

ـ المال... المال هو دائماً السبب... يا لَيتني كنتُ أعلم آنذاك أنّ المال لا يجلب السعادة وخاصة عندما يتلوّث بدماء أقرب الناس... في البدء ظنَنتُ أنّني الوحيد بين أخوَتي الذي تدور برأسه تلك الأفكار الشريّرة ولكن سرعان ما إكتشَفتُ أنّ قاسم ومُنذر لا يشعران سوى بالحقد تجاه أبيكِ خاصة بعدما سمِعاَ أبانا يقول لأمّنا: "جهاد هو الوحيد الذي يمكنه متابعة عملي بعد وفاتي... يا ليتَني لَم أصب بهذا المرض الخبيث ولكنّها مشيئة الله... ويا ليتني سأغادر هذه الدنيا مطمّئن البال ولكن أولادنا الثلاثة الباقون لا يصلحون لشيء سوى للتذمّر وطلب المال... أجل سأكتب أسهم الشركة لجهاد عندما أشعر أنّني لن أعود قادراً على إدارة أعمالي."

وكانت شركة والدنا تساوي الملايين ولم نكن مستعدّين طبعاً أن ندع ذلك الكنز يفلت منّا... وبسبب حالة والدنا الصحيّة لم يكن لدينا الوقت للتفكير بحل أقل جذرّية. وأظنّ أنّنا لو تكلّمنا مع جهاد بالموضوع لكان تقاسمَ معنا الأسهم ولكن في ذلك الوقت كانت الغيرة والغضب قد شلَّت كل فرصة للتحاور. وكان قاسم أوّل مَن لفَظَ كلمة "قتل" وأذكر أنّنا أصبنا بالذعر لمجرّد سماعها وصَرَخ له مُنذر: "ما الذي تقوله؟ هذا أخونا!" ولكنّ قاسم أسكتَه وشرَحَ له أنّنا قريباً سنجد أنفسنا مِن دون شيء.

 

ـ وأنتَ... ما كان موقفكَ؟

 

ـ أنا؟ لم أقل شيئاً لأنّ كان ذلك ما أريده... أي أن يختفي أبوكِ مِن الدنيا...

 

ـ كيف تجرؤ على قول ذلك أمامي؟؟؟

 

ـ ليس لديّ ما أخسره... خسرتُ روحي والآن أخسر حياتي... دعيني أكمِل... أرجوكِ.

 

ـ أكمِل.

 


ـ أيَنَ كنت؟ أجل... فبدأنا نخطّط لقتل أخانا وعرضنا سيناريوهات عديدة ولكنّها كانت جميعها تشير إلى تورّطنا ولم يبقَ لدينا سوى حادث السيّارة خاصة أنّ أبوكِ كان معروفاً بقيادته المسرعة.

 

ـ هذا صحيح... أذكر أنّ أمّي كانت دائماً تطلب منه التروّي.

 

ـ وكان جهاد يحب المرح وإحتساء الكحول أثناء ملاقاة أصدقائه فتبّينَ لنا أنّها الخطّة الأنسَب. ووضعنا اللمسات الأخيرة لقصّتنا ودعونا أباكِ للعشاء تحت حجّة الإحتفال بمناسبة إختلقناها ودفعناه للشرب. ولكن ما لم يكن يعرفه هو أنّنا دسّينا في كأسه منوّماً قويّاً جعلَه ينام بسرعة.

 

ـ لا تكمل أرجوك!

 

ـ بلى... عليّ الإعتراف بكل شيء... خاصة أنّني كنتُ الذي حمَلَه إلى سيّارته بمساعدة قاسم وأنا الذي قدتُ سيّارته إلى ذلك المنحرف قرب البحر... لحقَني قاسم ومُنذر بِسيّارتي وعندما وصلنا أجلستُ جهاد وراء المقوَد ودفشنا كلنّا السيّارته إلى الأسفل... إنتظرنا حتى أن إختفَت تحت الماء وعُدنا إلى المنزل وكأنّ شيئاً لم يحصل.

 

ـ وجاء الخبر في اليوم التالي بعدما كانت أمّي قد إتصلَت بالشرطة عندما رأت أنّ أبي لم يعد إلى المنزل... أذكر ذلك اليوم تماماً... وكيف لي أن أنساه...

 

ـ وحقّقَت الشرطة وقلنا أنّنا أمضَينا السهرة معه وأنّه أكثرَ بالشرب وغادرَنا... ومثّلنا الحزن ببراعة وإنتهى الموضوع فمَن سيَشكّ أنَ إخوَته قتلوه؟

 

- وبعد أشهر قليلة مات جدّي وحصَلتم على مبغاكم.

 

ـ أجل... وللتكفير عن ذنبا إهتمّينا بكِ وبأمّكِ... خصصنا لكنّ معاشاً شهريّاً ودفعنا كامل مصاريف دراستكِ...

 

ـ أكلتُ وشربتُ وتعلّمتُ مِن مال ممزوج بدماء أبي... يا إلهي!

 

ـ وبعدما هَدِأت غيرتنا وإنخمدَت نار غضبنا ندِمنا على ما فعلناه... ولكن ما مِن طريقة لمحو ما حصل فإضطرّيَنا للعيش مع ذنبنا...

 

ـ ألِهذا سافرَ قاسم ومُنذِر؟

 

ـ أجل... للإبتعاد عن مكان الجريمة وكل ما كان يذكرّهما بها.

 

ـ وأنتَ؟ لماذا بقيتَ؟

 

ـ بقيتُ مِن أجلكِ.

 

ـ أنتَ تكذِب!

 

ـ لا... بل أقول الحقيقة... وإلاّ لماذا أخبركِ كل هذا الآن؟ بقيتُ لأطمئنّ عليكِ تكفيراً عن ذنبي... قتلتُ أبيكِ فأقلّ شيء يمكنني فعله هو الإهتمام بزوجته وإبنته.

 

ـ لكنّكَ إبتعدتَ عنّا...

 

ـ أجل... لأنّكِ مع مرور السنين بدأتِ تشبهينه جداً ولم أعد قادراً على النظر بعينيكِ... كان الأمر وكأنّني واقف أمام الذي أنهيتُ حياته.

 

ـ وتنتظر منّي أن أسامحكَ الآن؟

 

ـ لا... مع أنّني أودّ ذلك مِن كل قلبي ولكنّني أعلم أنّ ذنبي أكبر مِن أي غفران... أريدكِ أن تطلبي مِن الله أن يسامِحَني لأنّ هذا ما يهمّ الآن... قوليها ولو مرّة قبل أن أغمض عينيّ... أرجوكِ..

 

ـ لا.

 

وركضتُ خارج الغرفة ومِن ثمّ المنزل وعيوني مليئة بالدموع. هل كان يجدر بي أن أسامح عمّي على ما فعله بنا؟ سأترك لكم عبء الإجابة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button