إخوتي الأوغاد

ما أجمَل وما أبشَع أن تكون الفتاة إبنة وحيدة بين أخوة شباب. فللدلع الذي تحصل عليه عندما تكون صغيرة ثمن غالٍ. وهذا الثمن دفعتُه بأغلى ما لدَيّ: شبابي.

عشتُ حياة هنيئة وسط والدَيَّ وأخوَتي الثلاثة، وكنتُ سعيدة خاصّة عندما تعرّفتُ إلى عاطف وأحبَبتُه وخطَبنا. عندها خلتُ حقًّا أنّني بلغتُ أقصى درجات السعادة، لكنّ أحوالي أخذَت في تلك الحقبة مُنعطفًا جذريًّا. فحدَث أن أُصيبَت والدتي بداء السّرطان، الأمر الذي سبَّبَ لنا حزنًا عميقًا، فهي كانت العمود الفقري لعائلتنا. كنتُ آنذاك موظّفة في مصرف كبير ولدَيّ مُستقبل واعد، إلا أنّني اضطررتُ لِترك عملي للاهتمام بأمّي بعدما طلَبَ منّي ذلك أخي الكبير.

بقيتُ أرفضُ لأنّني لَم أرَ حاجة إلى ذلك، فقد كانت زوجته تعيش معنا وهي لَم تكن تعمل وبإمكانها الإهتمام بوالدتي إلى حين أعودُ مِن المصرف. حصَلَ بيني وبين أخوَتي جدل كبير، وصمدتُ لأسابيع إلى حين تدخّل والدي وأمرَني بِترك وظيفتي. بكيتُ كثيرًا والتجأتُ إلى خطيبي الذي طمأنَني، واعدًا بأنّ الأمور ستتحسّن بالنسبة لي بعدما نتزوّج. عندها جلستُ في البيت آملة أن تشفى أمّي بسرعة، وأن أنسى الظلم الذي مارسَه الجميع عليَّ لأنّني أنثى وعمَلي ليس مهمًّا بالنسبة إليهم.

لكنّ مرَض والدتي كان طويل الأمد ويتطلّب منّي اهتمامًا لم يُشاركني به أيّ مِن أفراد عائلتي، بل ألقوا عليّ كلّ المسؤوليّات وكأنّهم رأوا بذلك فرصة لإراحة أنفسهم. حتى زوجة أخي لَم تعد تفعل أيّ شيء في البيت، والذي أغضَبني إلى أقصى حدّ، هو أنّها فتّشَت عن عمل ووجدته ليتسنّى لها البقاء خارج المنزل أطوَل وقت ممكن.

 


لَم أعد قادرة على رؤية خطيبي كما في السابق، وهو فسَّرَ تعَبي الدائم وكأنّه قلّة اهتمام، وكَبُرَ الشرخ بيننا إلى أن حلّ الجفاء. هل كان حبّ عاطف لي أقلّ ممّا ادّعى، أو أنّه كان بحاجة إلى عاطفة واهتمام كبيرَين أو حتى أظهَرَ وجهه الحقيقيّ في وقت الحاجة. فهو أحبَّ غيري وتركَني مِن أجلها. ألقَيتُ اللوم على أهلي لأنّهم عزلوني وقتلوا مستقبلي العاطفيّ والمهنيّ، وصارَت عندي نقمة كبيرة على الدنيا بأسرها وخاصّة على أخوَتي الذين لَم يُريحوني ولو قليلاً، مع أنّهم كانوا يُنهون عملهم باكرًا ليخرجوا للمرَح والسهر غير آبهين بالذي فعلوه بي.

ماتَت والدتي بعد خمس سنوات مِن العذاب. لَم أندَم على وجودي بجانبها، فعلى عكس كل السّاكنين في البيت، كنتُ التي رافقَتها حتى آخر نفَس، الأمر الذي أفتخرُ به. لحِقَ بها أبي بعد أقلّ مِن سنة، ووجدتُ نفسي لوحدي مع أخوَتي وزوجة أحدهم نفسها التي أصبحَت تتشاوف عليّ لأنّ لدَيها عمل وصارَت "مُنتجة" على عكسي. وهي نسيَت أنّها السبب الأساسيّ لفقداني عمل كان يُعطيني رضى وفخرًا.

بعد فترة ليس بطويلة، إنتقل أخي الكبير وزوجته إلى بيت جديد، وتزوّجَ الإثنان الباقيان خلال السنة ورحلا أيضًا. سعِدتُ كثيرًا أن يبقى البيت لي وحدي وأن أخطّط أخيرًا لمستقبل أجعلُه كما أريدُه وليس كما يُريدُه غيري. إلا أنّ ذلك لَم يكن مسموحًا لي، فإرتأى إخوَتي أنّ مِن غير اللائق أن تعيش أختهم لوحدها وأجبروني على العَيش عندهم بالتتالي. رفضتُ بقوّة، فهذا كان سيجعل مني ضيفة دائمة وكنتُ أبحث عن الإستقرار والتركيز على مستقبلي. لكن كيف لي أن أُجابِه مُجتمعًا يجعل مِن المرأة مخلوقة لا قرار لها ويُبقيها في ظلّ الذكور؟ مَن قال إنّ الرجال يعرفون مصلحة المرأة أكثر منها؟ وهل النساء غبيّات منذ الولادة؟ هم أجبروني على التخلّي عن عملي، الأمر الذي أبعَدَ خطيبي عني، والآن يُريدوني أن أترك بيتي؟ لَم أستطع مُقاومة ذلك القرار، فحزمتُ حقيبة ورحتُ أوّلاً عند أخي الكبير الذي لا يهمّه إن كنتُ وزوجته على اتفاق أم لا. وهي استقبلَتني على مضض وقرَّرَت إستغلالي.

كان الأمر بسيطًا، فهي كانت تعمل، أي تغيب عن المنزل معظم النهار، لذا حملَت زوجها على أن يُسند إليّ الأعمال المنزليّة والطهو، مٌتحجّجة بأنّني سأملّ حتمًا لوحدي في البيت. إنصعتُ لأوامرهما، فما عساني أن أفعل؟ بقيتُ صامدة إلى حين حمَلت زوجة أخي وسمعتُها تقول له: "مِن الجيّد أنّ أختكَ هنا، فهي ستهتمّ بالطفل بينما أُتابعُ عملي... سننقل أمتعتها إلى غرفة الطفل وستنام هناك، وهكذا لن نضطرّ للنهوض بالليل."

ماذا؟!؟ خادمة ومربّية؟!؟ طفَحَ كيلي وتكلّمتُ مع أخي الثاني، لأقول له إنّ الوقت حان لأن يستضيفني.

زوجته كانت صبيّة لطيفة، وتوقّعتُ أن أقضي وقتًا مُمتعًا معها، إلا أنّ زوجة أخي الكبير دفعَتها إلى معاملتي أيضًا كالخادمة مُبيّنةً لها حسنات الأمر. زوجة أخي الثالث كانت إمرأة هادئة ولطيفة لكنّها كانت بلا شخصيّة، وسمِعَت مِن الإمرأتَين وحمّلَتني، بلطف، الأعباء المنزليّة كلّها.

وحين حمِلَت وأنجبَت الزوجات الثلاث، صرختُ بأعلى صوتي: "كفى! ". وقبل أن يستوعب أحد ما سأفعلُه، أخذتُ أمتعتي ورحتُ إلى بيت أهلي. ثمّ لحِقَ بي أخوَتي مُحاولين إقناعي بالعودة، إلا أنّني أقفلتُ بابي بوجههم، فقد حان الوقت لأعيش حياتي قبل أن أتعَب وأشيخ مِن العمل للآخرين. ولإرغامي على العودة، إتّفقَ أخوَتي على عدم إمدادي بالمال أو الأكل، الأمر الذي أحزنَني إلى أقصى درجة لكنّه لَم يمنعَني مِن مُتابعة خطّتي.

 


فما لَم يكن يعرفه "رجال العائلة" هو أنّ أمّي أعطَتني سرًّا قسمًا كبيرًا مِن ذهَبها قائلة: "أعرفُ ما فعلَه بكِ هؤلاء الأوغاد... لن يرحموكِ يا صغيرتي خاصّة عندما يتزوّجون جميعًا... أعرفُهم جيّدًا فهم أولادي... الحقّ يقَع عليّ... على كلّ حال، خذي هذه الأساور والخواتم وهذه الليرات الذهبيّة وخبّئيها معكِ... بيعيها عندما تكونين بحاجة ماسّة إلى المال... لا تخافي، فلا أحد يعرفُ بوجودها."

وهذا ما فعلتُه. بعتُ بعض الليرات لشراء المأكل وللقيام ببعض أعمال الصيانة في البيت الذي صارَ قديمًا. لَم يفهم أخوَتي مِن أين جئتُ بالمال وصاروا يتّهموني بأشياء بشعة مثلهم. لَم أردّ على أحد، فأعادوا ألسنتهم الحقودة إلى أفواههم.

لَم أفهم حتى الآن سبب الحملة التي شنّها أخوَتي عليّ، هل لأنّني عصَيتُ أوامرهم أم لأنّ زوجاتهم لَم تردنني سعيدة أم أنّهم ببساطة "أوغاد" كما وصفَتهم أّمّي؟ ولذلك حاولوا طردي مِن البيت بحجّة أنّهم يُريدون بيعه وأنّ حصّتي فيه ضئيلة جدًّا مما لا يُمكّنني مِن منع البيع. ركضتُ أستشير مُحامي المصرف الذي كنتُ أعمل فيه والذي سألَ زميلاً له للتأكّد، فتبيّن أنّ أخوتي لا يحقّ لهم طردي مِن البيت وإرغامي على البيع، أوّلاً لأنّ ذلك هو البيت الأبويّ وأنا لا أزال عزباء، وثانيًا لأنّني أملك قسمًا مِن العقار. إطمأنّ قلبي كثيرًا وقلتُ للمحامي: "هل لكَ أن تجد لي عملاً؟ لن أجلس في البيت لوحدي طوال النهار." ولسخرية القدر، صرتُ أُحضّر القهوى وأقدّمُها لموظفي أحد بنوك العاصمة، لكنّني لَم أكن مُستاءة بل كنتُ على يقين مِن أنّ تلك كانت مرحلة إنتقاليّة وعليّ أن أصبر لأستعيد حياتي كما كانت.

وفي تلك الأثناء تتالت مُحاولات أخوَتي لإقناعي ببيع البيت، خاصّة بعدما رأوا عزمي وعلِموا أنّ القانون إلى جانبي وأنّني وجدتُ عملاً يُخوّلني العَيش باستقلاليّة. ووصَلَ الحدّ بهم إلى تخويفي بإرسال مكاتيب تهديد مِن قِبل مجهول زعَمَ أنّه رآني أعيشُ وحدي وقرَّرَ سرقتي وقتلي. يا لسخافتهم! غريب هو الإنسان... يظنّ نفسه أذكى مِن غيره في حين تكون لعبته واضحة كالشمس. عندها قلتُ لهم إنّني جهّزتُ البيت بكاميرات مُراقبة بعد أن أبلغتُ الشرطة أنّ شخصًا يُريدُ إيذائي. هدأت رسائل التهديد حتى انقطعَت. هل خفتُ حقًّا مِن أن يُلحِق بي أحد أخوَتي الأذى؟ نعم، خاصّة أخي الكبير الذي بمساعدة زوجته كان يظنّ نفسه قادرًا على تنفيذ يُريده. وما أراده هو تأمين جليسة أطفال لابنه وخادمة لزوجته... مجّانًا وبفعل طغيانه وحسب! كان حتى ذلك الحين قد نجح باللعب بحياتي كما أرادَ، وظنّ أنّه يُمكنه الإستمرار بهذا الاأمر.

بعد ذلك، عشتُ بسلام في بيتي الجميل الذي واصلتُ ترميمه على مراحل. أمّا بالنسبة للعمل، فتركتُ ذلك المصرف وعملتُ في آخر على الصندوق بعد أن استعدتُ معرفتي بالشؤون المصرفيّة.

أنا اليوم متزوّجة ولَم أدعُ أيًّا مِن أخوَتي إلى زفافي. أعيشُ مع زوجي الحبيب وإبنتي في بيت أهلي. لَم يُحاول أيّ مِن رجال عائلتي الكريمة الإتصال بي، ربّما لأنّ الرجل الذي تزوّجتُه يعمل شرطيًّا!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button