أُجبِرتُ على الوقوف في وجه ضرّتيَّ

عندما إنتقلَ والديّ للعيش في ذلك الحيّ كانت أحوالهما عاديّة ولكن بعد ولادتي بأشهر قليلة وقعَ أبي ضحيّة حادث حوّلَه إلى مُقعَد وأجبرَه على المكوث في البيت دون عمل. وتغيّرَت حياتنا كلّها وبدأنا نغوص في فقر ملحوظ وأصبحنا بالكاد نأكل. والوحيد الذي ساعدَنا آنذاك كان العمّ عليّ صاحب السوبرماركت الموجود في أسفل مبنانا. وكان ذلك الرجل إنساناً لطيفاً ويحبّ مساعدة الناس وكانت أحواله جيدّة لأنّه إلى جانب السوبرماركت كان يؤجرّ شقّة وسيّارة إجرة. وكلّما كنتُ أمرّ مِن قربه كان يناديني ويعطيني الخبز وبعض الأرز والسكّر والجبن وكنتُ ممنونة له لأنّه وفرّ علينا أن نمدّ أيدينا للناس. وكبِرَتُ وإعتدتُ أن أقصد عليّ للمساعدة. وبالرغم أنّ كان لديه زوجتَين لم يتردّد في ذاك يوم على أخذي جانباً ليقول لي:

 

ـ عفاف... أعرفكِ منذ ما كنتِ صغيرة... والأن أصبحتِ صبيّة جميلة... ولم تعودي صغيرة... ما رأيكِ لو أرتبطنا؟

 

ـ ولكنّكَ متزوّج... ومِن أثنتَين! وتكبرني بسنين كثيرة...

 

ـ لستُ عجوزاً... أستطيع الزوّاج مِن أربع أن شئت! لديّ القوّة والمال الكافيَين لذلك... عفاف... أنتظرتُكِ وقتاً طويلاً... كلّما أراكِ يبدأ قلبي بالخفقان... فكرّي في الموضوع... وحتى ذلك الحين خذي بعض الحاجات لأهلكِ ولكِ...

 

وعندما أخبرتُ أمّي ما عرضَه عليّ العمّ عليّ شجّعَتني على القبول:

 

ـ إنّه ثريّ... ستعيشين كالملكة...

 

ـ ولكنّه عجوز!

 

ـ لا... لم يبلغ الخمسين مِن عمره... هذا رجل بكل معنى الكلمة!

 

ـ وزوجتَيه؟

 

ـ لن تسكني معهنّ! أطلبي مِن عليّ شقّة لوحدكِ... هنّ متّفقتان لأنهنّ أختان... هيّا فكرّي في الأمر جديّاً وخذي بِنصيحتي.

 

وفعلتُ كما طلبت منّي والدتي لأنّها كانت تريد ما هو الأفضل لي وذهبتُ أزفّ الخبر لِعليّ الذي طارَ مِن الفرح. عندها قلتُ له:

 

ـ أراكَ فرحاً جداً...

 

ـ وكيف لا أكون؟

 

ـ أنا متأكدّة أنّكَ كنتَ أيضاً فرحاً عند زواجكَ الأوّل ومِن ثمّ الثاني...

 

ـ ما الذي تحاولين قوله؟

 

ـ مِن يضمنُ لي أنّكَ لن تتزوّج مرّة رابعة؟

 


ـ أسمعي... تزوّجتُ مِن ربيعة لأنّني أحببتُها ولكنّها مرضَت ولم تنجب لي أولاداً... وهي التي نصحَتني بأن أتزوّج مِن أختها نجلاء... وأعطَتني هذه الأخيرة ولداً مات بعد أيّام مِن ولادته... وبقيَتا معي لأنّ قلبي كبير ولا أريد أن أظلمهنّ... آمل الآن أن تعطيني وريثاً... وإن حصل ذلك تأكدّي أنّكِ ستكونين أسعد إمرأة في العالم... ساغرقكِ بالمال.

 

وكيف لي أن أرفض الخروج مِن فقري وأعيش سعيدة مع رجل وعدَني أنّه سيعمل جهده لأرضائي خاصة إن أنجبتُ له مَن يحمل أسمه. ولكن هذا الزواج لم يكن ليرضي ربيعة ونجلاء اللوات خافَتا على أن آخذ عليّ كلّه لِوحدي وأستحوذ على المال ففعلتا المستحيل لجذبه إليهنّ وتغيير رأيه ولكنّه كان مفتوناً بشبابي ومتأمّلاً بي. ورغم كلّ تلك الضغوط عقدنا قراننا وأخرجَ عليّ المستأجر مِن الشقّة وإنتقلنا إليها وكانت جميلة جداً ولم أتصوّر أن أسكن يوماّ بهكذا مكان بعدما قضيتُ حياتي في غرفة واحدة.

ليلة زفافي لم تكن جميلة لأنّني لم أكن أحبّ زوجي ووجدتُ صعوبة بالإستمتاع بِلمساته لي ففعلتُ كالكثير مِن النساء أي أغمضتُ عينّي وأخذتُ أفكرّ بأمور أخرى. ولم أخيّب أمل عليّ بي فبعد أشهر قليلة وجدتُ نفسي حاملاً. وذرفَ زوجي الدموع مِن كثرة تأثّره وبدأ يردّد: "سأصبح أباً... سأصبح أباً...

 

وولِدَ أنور إبننا ووعدتُ نفسي أن أتعلّم كيف أحبّ رجلاً يكبرني بأكثر مِن ثلاثين سنة. ولكنّ فرحتي كانت قصيرة الأمَد فبعد أقل مِن سنة توفيَ عليّ بعد أن قضَت عليه نوبة قلبيّة حادّة. بكيتُ على هذا الإنسان الطيّب وعلى نفسي ولكنّني كنتُ مطمئنّة البال على إبني الذي كان سيحصل على ما يكفيه لبناء مستقبله. ولكن أثناء مراسم الدفن وبينما كنتُ أودّع والد طفلي جاءَت ربيعة ونجلاء وقالت لي الأولى أمام الناس كلّها:

 

ـ أذهبي ولميّ أمتعتكِ مِن الشقّة!

 

ـ ولِمَ أفعل ذلك؟

 

ـ لأن الشقّة لي!

 

نظرتُ إلى ربيعة بدهشّة فلم أفهم قصدها ثمّ أضافَت :

ـ الشقّة مكتوبة بإسمي وسيّارة الأجرة بإسم أختي نجلاء... إستثمارها بقيَ لعليّ طالما هو حيّ وها قد مات... وها هي تعود إلينا الآن... طلبنا منه ذلك عندما أخبرَنا أنّه سيتزوّجكِ وقبِلَ لإسكاتنا والحصول على موافقتنا... لم يكن يتوقّع أن يموت الأن... رحمه الله... وبما أنّ الشقّة لي أريدكِ أن تُخليها بأسرع وقت. لديكِ يومَين وإلاّ طلبتُ لكِ الشرطة.

 

لم أجاوبها لِشدّة دهشتي ولم أكن أبداً مستعدّة للتوّسل إليها لتبقيني أنا وطفلي في البيت فكنتُ مستعدّة لتحمّل أي شيء شرط إلاّ تُمَسّ كرامتي. وقصدتُ محامي يسكن في مبنانا وسألتُه عن الموضوع فأجابني أنّ كلام ربيعة قد يكون صحيحاً إن كان بحوذتها أوراقاً ثبوتيّة وعزّاني قائلاً أنّ السوبرماركت قد يكون ملك إبني لأنّ الإمرأتين لم تأتيا على ذكره ووعدَني أن يستفسر عن الأمر. وهكذا بدأتُ أتحضّر للخروج مِن بيتي الزوجيّ والعودة إلى حيث جئت أي منزل أهلي المتواضع مع فرق شاسع وهو أنّني كنتُ مالكة سوبرماركت إلى حين يبلغ أنور السنّ القانوني. ولم أكن أعلم طبعاً كيف أتدبرّ أموري في المحل ووقعتُ في حيرة مِن أمري بعد أن بعتُ كل ما كان موجوداً قبل مجيئي. وفي تلك الفترة بالذات جاءَت ربيعة ونجلاء في جولة تفقّدية بعدما أن سمِعتا أنّ المحل أصبح شبه فارغ. فقالت لي نجلاء:

 


ـ يا للأسف... لو رأى المسكين كيف أصبح محلّه... ألستِ فالحة بشيء؟

 

عندها أجبتُها:

ـ بلى... أنا فالحة بإنجاب الأولاد!

 

وإقتربَت نجلاء لتصفَعني ولكنّ ربيعة أوقفَتها وقالت:

ـ لم نأتِ لنتشاجر... بل لِنعرض عليكِ صفقة... مِن الواضح أنّكِ لا تعرفين شيئاً بالتجارة... ما رأيكِ لو أعدنا لكِ الشقّة وأخذنا السوبرماركت؟ سمعنا أن منزل أهلكِ صغير جداً... هل أنتِ موافقة؟

 

وأعترف أنّ عرضهما كان مثيراً للأهتمام لأنّه كان يزيل عنّي مسؤوليّة السوبرماركت ويعيد لي مكاناً جميلاً أسكن فيه. فأجبتهنّ:

ـ ولكن كيف سأعيش أنا وإبني؟

 

ـ سنعطيكِ مبلغاً شهرياً يكفيكِ للعيش بكرامة.

 

ـ سأفكرّ بالأمر...

 

ـ لا تتأخّري بالجواب... قد نغيرّ رأينا.

 

وسألتُ نفسي لماذا ترغب هتان الإمرأتان بسوبرماركت قديم ولِماذا هنّ مستعدّتان على التخليّ عن شقّة جميلة ودفع نفقة شهريّة لدرّتهنّ؟ لم يكن الأمر منطقيّ وخفتُ أن تكون هذه خطّة لِتجريدي مِن كل شيء. لِذا عدتُ وقصدتُ ذلك المحامي وأخبرتُه كل شيء. طلبَ منّي إعطاءه بعض الوقت ليدرس الوضع. وبعد أيّام طلبَ أن يراني وقال لي:

 

ـ شعرتُ أنا أيضاً أنّ هناك سبباً وراء كرم هاتان الإمرأتين ففتشتُ عنه ووجدتُه... هناك مؤسّسة كبيرة تنوي شراء محلّكِ والمحلات الملاصقة لإنشاء سوبرماركت ضخم... وإن أردتِ أستطيع التوسّط معهم والحصول لكِ على سعر مُغرِ...

 

- وأبيع محل عليّ؟ لا... لا أستطيع فعل ذلك فهذا المكان هو جنى عمر المرحوم زوجي.

 

- وكيف ستعيشين؟ فأنتِ على شفير الإفلاس.

 

- سأتدبّر أمري.

 

وذهبتُ إلى المحل وبحثتُ في أوراق ودفاتر عليّ ووجدتُ إسماء المنتجين الذي يزوّدونه عادة وإتصلتُ بهم وأخبرتهم أنّني سأواصل التعامل معهم كما كان يفعل زوجي وطلبتُ مهلة أكبر لتسديد الفواتير ريثما أتعوّد على عملي الجديد. ومِن بعدها طلبتُ مساعدة إبن خالتي الذي كان يدرس المحاسبة فعلّمَني ما عليَّ معرفته. وساندَني أهالي الحيّ وزبائن عليّ القدامى بعدما علِموا بِمشروع سلسلة المحلات رافضين تحويل الحيّ إلى مجمّع تجاريّ.

وربحتُ الرهان وها أنا اليوم فخورة بِنفسي وبإبني أنوَر الذي يدير محلّنا فما مِن شيء صعب على المرء إن كانت الإرادة موجودة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button