ألا يحقُّ لي أن أحلم؟

بقِيَت تلك الرسالة معي، فلَم أُعطِها لصاحبها، وبقيَت التساؤلات تُرافقُني مدى سنوات طويلة. ماذا كان قد حصَل لو تحلَّيتُ بالشجاعة بدلاً مِن الخوف والتردّد؟ فحياتنا تأخذُ مُنعطفًا مُختلفًا كلّما اتّخَذنا قرارًا أو موقفًا، فالبعض منها يكون حاسمًا إيجابيًّا أو سلبيًّا. قد يبدو كلامي غامضًا، لِذا سأقصُّ عليكم ما حصَلَ مِن البداية.

لَم أترَبَّ على أسُس ثابتة في ما يخصّ الإقدام والثقة بالنفس، ربّما لأنّني أنثى ولأنّ تلك الخصال تُنسَب عادة للذكَر، على الأقلّ في المُجتمعات الشرقيّة. لِذا بقيتُ خاضعة لإدارة أهلي وأخي الكبير، الذين تحكّموا بكلّ صغيرة وكبيرة مِن دون أن أرى أيّ خطَب بذلك، بل اعتبرتُ أنّهم يعرفون أكثر منّي ما يصلحُ لي. فما أدراني أنا؟

أخذَت حياتي مسارًا مُخطّطًا له، ومشيتُ عليه عالمة تمام العلم إلى أين سأصل: إلى الزواج. أليس ذلك مصير كلّ صبيّة؟ لِذا لَم أركِّز كثيرًا على دراستي، فما نفع الشهادة سوى لتعليقها على حائط ما ومَسح الغبار عنها مِن وقت لآخَر؟ وانتهى المطاف بي أن تعرَّفتُ إلى شاب جاء به أخي، مؤكّدًا لنا أنّه كامِل الأوصاف وأنّه سيكون زوجًا مثاليًّا لي... وللعائلة. لَم يُعجِبني فؤاد بشكل خاصّ، لكنّني لَن أشمئزّ منه وقبلتُ أن أُخطَب له، على أمَل أن أشعُرَ تجاهه خلال تلك الفترة بشيء مِن الحبّ. فكنتُ رومانسيّة مِن الداخل، واتمنّى أن أعيشَ مع زوجٍ يُحرّكُ فيّ أحاسيس قرأتُ عنها في الكتب وشاهدتُها في الأفلام. لكنّ فؤاد لَم يُحرِّك شيئًا سوى إصرار أهلي على تزويجي له، خاصّة أنّه كان قد درَسَ الطبّ ويتحلّى بمُستقبل لامِع. إقتنَعتُ بخيار ذويّ وانتهى بي المطاف زوجة له. مَن يدري، فقد أحبُّه يومًا... ألَم تقُل لي والدتي إنّها أحبَّت والدي بعد الزواج وليس قبل؟ وها هما مُتّفقان تمامًا، ويعيشان حياة هانئة بعد أن أنجَبا وربَّيا إبنًا وبنتًا.

كان أهلي على حقّ، على الأقلّ في ما يخصّ طموح فؤاد، فهو أسرعَ بفتح عيادة طبية مع زميل دراسة، واتّضَحَ أنّه طبيب ماهِر ومحبوب. لكن مِن الناحية الزوجيّة، هو كان باردًا وبعيدًا عنّي، إلا عندما نلتقي مساءً في السرير. عندها فقط، ولدقائق معدودة، كان يُشعرُني بأنّني مُميّزة بالنسبة له. للحقيقة، لَم أكن تعيسة مع زوجي بكلّ ما للكلمة مِن معنى لكنّني لَم أكن سعيدة. مرَّت الأشهر والسنة وامتلكَني شعور بالملَل والاحباط، فأسرَعَ فؤاد بحثّي على الانجاب. وكعادتي إنصعَتُ لِما يُملى عليّ، فجئتُ إلى الدنيا بطفل جميل أعطاني سببًا لأستَيقظَ في الصباح. كبرَ إبني وكنتُ قد نسيتُ أمر الحبّ والرومانسيّة، ومِن ناحيته نسِيَ فؤاد أمري. صِرتُ بالنسبة له كقطعة أثاث في البيت بالكاد يراني أو يُوجِّه لي الكلام، بل همّه كان العيادة التي أخذَت رواجًا كبيرًا. ثمّ دخَلَ رواد حياتي.

لكن مَن يكون ذلك الرجُل؟ إنّه أحَد أطبّاء العيادة التي صارَت تضمّ إختصاصات عديدة، وحصَلَ أن التقَينا خلال حفلة حضرتُها. وأوّل شيء لاحظَه فيّ كان الحزن الذي سكَنَ عَينَيّ، فاقتربَ منّي وأعطاني بطاقته الشخصيّة وعلِمتُ أنّه طبيب نفسيّ. هل كانت قلّة سعادتي بائنة إلى هذا الحدّ؟ وهل كان بإمكان ذلك الطبيب التخفيف مِن الذي أنا فيه؟ فسألتُه على الفور:

 

ـ هل لدَيكَ موعد لي في القريب العاجل؟

 

ـ زوجكِ زميل لي ومؤسّس العيادات، يُمكنُكِ المجيء ساعة تشائين.

 

بدأتُ جلسات المُعالجة، ورويتُ للدكتور رواد قصّتي وهو استمَعَ إليّ بصمت، بينما كان يُدوّن ملاحظاته على دفتره. لاحقًّا، علِمتُ بمُشكلتي في الثقة بالنفس وقدرتي على فرض ما أريدُه وما لا أُريدُه، بل الالتجاء إلى الانصياع كي لا أضطّر إلى المواجهة. ففي إعتقادي لَم أكن قادرة على فعل أيّ شيء مِن تلقاء نفسي خوفًا مِن الفشل المحتوم. ومع الوقت، بدأتُ أتغيّر وبشكل ملحوظ. وبعد سنة ونصف، كنتُ إمرأة مُختلفة.

لَم يُحبّ فؤاد شخصيّتي الجديدة وما أُعلِّمه لإبنه مِن حيث التعامل مع الناس وخاصّة النساء، فطلَبَ مِن رواد كفّ يده عنّي. كيف يقطَع فؤاد جلساتي، بعد أن أوشكتُ أن أٌصبحُ سيّدة تُحافظُ على حقّها بالعَيش بكامل كرامتها؟!؟ ألَم يكن مِن المفروض به كطبيب أن يُقدِّر التقدّم الذي أحرزتُه مع زميله؟

كنتُ قد تعلّقتُ برواد ليس فقط لأنّه دخَلَ مِن حيث اختصاصه ثنايا عقلي، بل لأنّه بالفعل رجُل مُميّز. هو كان وسيمًا ولطيفًا وذكيًّا وله القدرة على استيعاب كلّ شيء مهما كان. حاولتُ مُقاومة مشاعري كَوني سيّدة مُتزوّجة، إلا أنّه إعترَفَ لي بحبّه خلال جلستنا الأخيرة. سكتُّ مُطوّلاً لأستوعِبَ ما سمعتُه منه، ثمّ خطَرَ إبني ببالي وما قد يحصلُ له إن افترَقتُ عن أبيه. فهو كان مُتعلّقًا جدًّأ بوالده ويراه وكأنّه إنسان خارق. لَم يكن يعرفُه على حقيقته، وأردتُ أن أُبقيَ تلك الصورة في ذهنه كما هي. رفضتُ حبّ رواد لِذا هو قال لي:

 

ـ زوجكِ يخونُكِ منذ سنوات. هو لا يُحبُّكِ ولا يحترمُكِ.

 

ـ صحيح أنّني لا أحبُّه إلا أنّني أحترمُ نفسي. كنتُ أشكُّ بأنّ لدَيه عشيقة أو حتى عشيقات لكنّني لَم أكن مُتأكّدة حتى الآن. إسمع... أُشاطرُكَ مشاعركَ، أجل، فلقد أصبحتَ إنسانًا مُهمًّا في حياتي ولو كنتُ عزباء لتزوّجتُكَ في الحال. أشكرُكَ على جهودكَ فأنتَ صنعتَ منّي إمرأة جديدة، لكنّني لا أزال أحتفظُ بالتقاليد والعادات ومُراعاة مُجتمعي.

 

ـ طلّقيه!

 

ـ إبني لن يُسامحُني. كيف تُريدُني أن أكون سعيدة معكَ وأنا أعلَم أنّ وحيدي يمقتُني؟

 

ـ سيتفهّم الأمر حين يكبر.

 

ـ لا تُجادلني، أرجوكَ. لا يجب أن نرى بعضنا بعد الآن. الوداع.

 

بعد تلك المُحادثة شعرتُ بتراجُع كبير بالنسبة للتقدّم الذي أحرزتُه خلال الجلسات، لكنّني بقيتُ أُردّدُ لنفسي أنّ عليّ التمسّك بتلك القوّة والعزيمة الجديدة.

حياتي بعد ذلك صارَت كئيبة، وتعلّقتُ كثيرًا بإبني كَونه الانسان الوحيد الذي بإمكاني صبّ عاطفتي فيه. يا لَيتني أستطيع أن أُعطيَ رواد البعض مِن ذلك الحبّ! ويا لَيتني أشعرُ أخيرًا كيف تكون الحياة مع رجُل يُحبُّني بالفعل! هل كُتِبَ لي أن أعيشَ باقي حياتي مع زوج يُهملُني ويُفضِّل عليّ نساء أخريات؟ مِمّا أشكو؟!؟ ألَم أكن زوجة صالحة له؟

مرَّت حوالي السنة عندما بدأ فؤاد زوجي يُعاملُني بعُنف. فهو صفعَني بضع مرّات لأسباب تافِهة جدًّا ثمّ صارَ ينعتُني بألفاظ بشِعة، الأمر الذي حمَلَ إبننا على التدخّل. لماذا لا يُطلّقُني فؤاد ويُريحُني؟!؟ غرِقتُ بالحزن وعزَلتُ نفسي، مُعطية بذلك أعذارًا إضافيّة ليخونَني زوجي لكنّ الأمر لَم يعُد يهمّني على الاطلاق.

غيابي عن المُناسبات الاجتماعيّة شغَلَ بال رواد وهو اتّصَلَ بي مُستفسِرًا. أجبتُه ببضع كلمات ثمّ أقفَلتُ الخط. عادَ واتّصلَ بي قائلاً:

 

- تعالي معي... سآخذُكِ وإبنكِ إلى أوروبا معي، فأنا مُسافرٌ بعد أيّام قليلة ولن أعودَ، فالبلَد يُذكّرُني بكِ... أرجوكِ!

 

نبرة صوته وكلّ الذي أمُرُّ به أثّرا بي في تلك اللحظة فأجبتُه:

 

- أجل! سأرحَل معكَ، أقسمُ لكَ بأنّني سأفعَل! أستحقُّ أن أعرِفَ طعم السعادة، فأنا إنسانة طيّبة.

 

وتباحَثتُ معه بكلّ التفاصيل، إلا أنّني لَم أعرِف كيف أقولُ لإبني إنّني أنوي أخذه معي ومع الذي أحبُّه. كان عليّ إيجاد طريقة ما. بدأتُ أحلمُ بالحياة مع رواد في أوروبا وأنا أضَع بعض الأمتعة في حقيبة سفَر، وعادَت إليّ البسمة أخيرًا. أخذتُ ورقة وقلَمًا وكتبتُ رسالة إلى زوجي أشرحُ له أنّني تركتُه ولن أعودَ، وعدّدتُ له الأسباب بما فيها خياناته وعنفه. ختمتُ بكلمة وداع وكنتُ ممنونة. ثمّ دخلتُ غرفة نوم إبني لأعرِضَ عليه السفَر إلى أوروبا بداعي السياحة، إلا أنّه سبقَني قائلاً:

 

- ماما... أنا أتألَّم كثيرًا لِما يحصلُ لكِ ولأبي فأنا أحبُّكما كثيرًا وكلّ ما أتمنّاه هو أن أراكما سعيدَين سويًّا. أعلمُ أنّ الذنب ليس ذنبكِ لكن عديني بانّكِ لن تتركي البابا أبدًا.

 

بدأتُ بالبكاء وعانَقتُه وطمأنتُه... وتبخّرَت أحلامي بلحظة. كنتُ سأبقى أسيرة أمومتي وأحزاني. سافَرَ رواد بعد أن أطلعتُه على تراجعني عن وعدي، وانطوَت صفحة جميلة مِن حياتي إلى الأبد.

تزوّجَ رواد بعد سنتَين، وكان ذلك الخبَر بمثابة حكم بالاعدام لا عودة عنه. عشتُ باقي أيّامي كالمرأة الآليّة أقومُ بواجباتي كما لطالما فعلتُ، وتزوّجَ إبني مِن صبيّة ستكون سعيدة معه بعدما لقّنتُه طريقة مُعاملته لها. أمّا بالنسبة لفؤاد زوجي، فهو ترَكَ حياته الصاخبة بعدما صارَ كبيرًا في السنّ، ولَم يعُد قادرًا على الركض وراء النساء. لعبتُ دور المُمرّضة له بعد أن أُصيبَ بجلطة في الدماغ، ولَم أسمَع منه كلمة شكر واحدة أو عربون إمتنان.

صرتُ جدّة لثلاث أحفاد، ولا تزال ذكرى رواد في بالي ولا أزال أتخيّلُ نفسي معه مشبوكَي الأيدي نتمشّى في شوارع باريس الجميلة. ألا يحقُّ لي على الأقلّ أن أحلُمَ؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button