أعيدوا لنا رزقنا!

لماذا أعطى أبي أرضه لِجلال أخيه؟ فقد كنّا بحاجة إلى تلك الأرض المزروعة بالأشجار المُثمِرة. ولَم تستطِع أمّي تغيير رأيه بل هو زادَ عنادًا. تشنّجَ جوّ البيت وسادَه الصمت كي لا يقَع شجار كبير. كنتُ آنذاك في الثامنة عشرة مِن عمري وأنوي دخول الجامعة قريبًا، ورأيتُ أمام عَينيّ مُستقبلي يتبخَّر بسبب فعلة والدي. كان أخوَتي صغارًا ولَم يعرفوا مدى يأسي بل سخِروا منّي عاليًا. وذات مساء، جلَستُ بالقرب مِن أبي وقلتُ له بهدوء:

 

ـ ذهابي إلى الجامعة باتَ وشيكًا يا بابا.

 

ـ أعلمُ ذلك وأعلمُ أيضًا أنّكِ ستنجَحين بامتياز.

 

ـ لكنّني اختَرتُ جامعة خاصّة لدراسة القانون قَبل... قَبل أن...

 

ـ هناك جامعات حكوميّة.

 

ـ أرى أنّكَ تُحبّ عمّي جلال أكثر منّا يا بابا؟

 

ـ ما هذا الكلام السخيف! بالطبع لا!

 

ـ لكنّكَ أعطَيتَه الأرض مِن دون مُقابل، الأمر الذي أثّرَ على مستوى عَيشنا.

 

ـ جلال في ضيقة مادّيّة كبيرة يا إبنتي، أمّا نحن، فقادرون على تدبّر أمرنا.

 

ـ هل سيُعيدَها جلال لنا يومًا؟

 

ـ وهل أبوكِ يسترجِع ما أعطاه؟!؟

 

ـ للحقيقة، لستُ أفهمُكَ على الاطلاق.

 

ـ ليس هناك ما عليكِ فهمه، فقط عليك تقبّل الأمر وليس أكثر. إبحثي عن جامعة حكوميّة واكملي دراستكِ وجدي عمَلاً... هكذا ستُحسّنين مستوى عَيشكِ.

 

وانتهى الحديث. أمّي هي الأخرى كانت قد حاولَت فهم زوجها ولَم تفلَح، لِذا استسلمَت وصارَت تقتصِدُ قدر المُستطاع في المصاريف، ورأيتُها مرارًا وهي تبكي في المطبخ وتقول لوحدها: "لماذا تزوّجتُ مِن أهبَل؟!؟" مِن جانبه، بدأ جلال بِبَيع الفواكه بالأسواق ويجني المال الوفير، ويشتري كلّ ما تحتاجُ إليه عائلته. لَم أعلَم إن هو كان حتّى شاكرًا لأبي، لأنّه تصرّفَ وكأنّ ماله آتٍ مِن مُلكه الخاص. على كلّ الأحوال هو لَم يكن مُخطئًا، فأرضنا باتَت بالفعل مُلكه الخاص، إلى الأبد.

 

وجدتُ كلّيّة مُناسبة في جامعة حكوميّة ودخلَت ابنة جلال جامعة خاصّة، الأمر الذي زادَ مِن امتعاضي واغضَب أمّي. وسرعان ما صارَ هناك تحالف بيننا ضدّ أبي، الأمر الذي دفعَه إلى الابتعاد عن البيت قدر المُستطاع. للحقيقة، لو هو رحَلَ عنّا في تلك المرحلة، لكنّا قد ارتحنا منه!

وبعد حوالي السنتَين، جاءَ جلال وعائلته لزيارتنا مساءً، وجلَسوا جميعًا وسطنا وكأنّ شيئًا لَم يكُن، ودارَ حديث عاديّ ولا معنى له. لماذا أتوا؟ ليشمتوا بنا؟ حاوَلتُ وأمّي جهدنا للحفاظ على أقلّ قدَر مِن اللياقة وحسن الضيافة، بينما تصرّفَ أبي بشكل طبيعيّ للغاية، لا بل كان مُتحمِّسًا لوجودهم عندنا. إلا أنّ صبري نفَذَ وتفاجأتُ بنفسي أقولُ لضيوفنا:

 

ـ أرى أنّ أحوالكم جيّدة... على عكسنا... وأنتِ دخلتِ جامعة خاصّة، أيضًا على عكسي. متى ستُعيدون قطعة الأرض لنا؟ ألَم تكتفوا منها؟ إنّها مُلكنا ومِن حقّنا الاستفادة مِمّا تُعطيه مِن ثمَر! وإن كان أبي كريمًا بشكل غير مقبول، فهذا لا يعني أنّ عليكم وضع اليَد على رزقنا مدى الحياة! ألَم تخرُج مِن ضيقتكَ بعد، يا عمّي جلال؟!؟

 

نظَرَ الرجُل إلى أبي وقالَ له:

 

ـ هل ستُجيبها أنتَ أم أفعلُ أنا؟ كيف تسمَح لابنتكَ أن تُكلّمني وعائلتي بهذه الطريقة؟ تصرَّف!

 

إندهَشتُ وأمّي لوقاحة جلال والطريقة التي استعملَها لأمر أبي بإسكاتي، واستعدَّينا للدفاع عنه عندما قال لي والدي:

 

ـ أدخلي غرفتكِ في الحال وابقي فيها حتى أوافيكِ! ولن تكوني راضية بعقابكِ!

 

عقابي؟!؟ ما هذا الكلام؟ فلَم يُعاقِبني أبي يومًا مهما فعلتُ، ووجدتُ صعوبة بالتعرّف على الذي أعطاني الحياة. ماذا كان يحصُل؟!؟

دخَلتُ غرفتي على مضض، لأنّ أمّي أومَت لي برأسها بأن أُغادِر الصالون. بعد دقائق غادَرَ ضيوفنا مُستائين وانتظرتُ والدي، ليس خوفًا مِن العقاب بل لأعرفَ حقيقة ما يحصل. حين دخَلَ غرفتي، جلَسَ أبي على حافة سريري، ورأيتُ الدمع في عَينَيه لكنّه لَم يبكِ، فذلك لَم يكن مِن عادته ولا شيَمه، إلا أنّه قال لي:

 

ـ لَم أقصد ما قلتُه لكِ يا حبيبتي لكنّكِ تمادَيتِ مع ضيوفنا.

 

ـ هم ليسوا ضيوفًا بل مُفترِسون! ما بكَ يا بابا؟ ما الذي تُخفيه عنّا؟ تكلّم وأرِحنا!

 

ـ حسنًا... لكن أقسمي لي أنّ لا أحَد سواكِ سيعرفُ الحقيقة... ربّما لا يجدرُ بي اطلاعكِ على ما حصَل... لكن عليّ أن أشارِك شخصًا سرّي... أنتِ صِرتِ صبيّة وقد تفهمين الأمر... على كلّ الأحوال قد يُفشى سرّي يومًا... لستُ أدري... يا إلهي... كَم أنّ الأمر صعب!

 

ـ أقسمُ لكَ يا بابا... هيّا... تكلّم.

 

ـ أنتِ لا تذكرين حين سافرتُ وعمّكِ إلى ذلك البلَد بداعي العمَل. كنتِ قد وٌلِدت للتوّ.

 

ـ أجل... حدَثَ ذلك منذ عشرين سنة، لكنّكما عُدتُما بعد أشهر قليلة.

 

ـ صحيح ذلك، قلتُ لأمّكِ إنّنا لَم نجِد ما نبحثُ عنه، وإنّ الحياة هناك لا تُناسبُنا. لكنّ سبب رجوعنا كان... فظيعًا.

 

ـ لقد سافرتُما للبقاء هناك سنوات عديدة، لكنّ الماما فرِحَت بعودتكَ حتى لو عنى ذلك عدَم الاستفادة مِن حياة أفضَل. كان المنزل فارغًا مِن دونكَ، هي قالَت لي ذلك حين كبِرتُ. فلِمَ تشعُر بالذنب؟

 

ـ شعرتُ بالذنب حقًّا، لكن لسبب آخَر ولا أزالُ أعاني نفسيًّا ومادّيًّا مِن الذي حصَل.

 

ـ لا تطُل انتظاري، أرجوكَ أن تتكلّم!

 

ـ في إحدى الليالي، حين كنّا في الغربة، كنتُ عائدًا وعمّكِ مِن العمَل بعد ساعات طويلة ومُرهِقة... قطَعنا في السيّارة مسافة طويلة وكان الطريق مُظلمًا للغاية. شعرتُ بالتعب والنعاس وأنا أقودُ، وأغمَضتُ عَينَيّ للحظة... لحظة كانت كافية لِحَجب الرؤية عن... عن شخص كان يقطعُ الطريق.

 

ـ لا تقُل لي...

 

ـ أجل، صدَمتُه بقوّة هائلة بسبب السرعة والظُلام، فكيف لي أن أحسُب أنّ أحدًا قد يتواجَد على طريق حيث لا منازل ولا أعمال، مكان خال مِن أيّ شيء ما عدا أراضٍ زراعيّة على مدّ النظَر؟ أرعَبني صوت الصدمة فاستعَدتُ وعيي الكامل وصرَخَ عمّكِ "توقّف!". نزلنا مِن المركبة وفتّشنا الطريق بواسطة مصابيحنا. كان الشخص على بعد أمتار عديدة بعد أن ألقَته الضربة بعيدًا. إكتشفناه أخيرًا لكنّه كان قد ماتَ.

 

ـ يا إلهي!

 

ـ نظَرنا حولنا ولَم نجِد أحدًا على الاطلاق، لا صوت ولا ضوء منزل... فقرّرنا ترك الجثّة مكانها والفرار. إتّفقتُ وأخي ألا نُثير الموضوع حتى آخِر أيّامنا، وهو وعدَني بالسكوت. لَم أكن أُريدُ دخول السجن، خاصّة في بلَد يقسو على القاتلين. جمَعنا أمتعتنا بسرعة وعُدنا إلى البلد. بقيَ أخي على وعده إلى أن ساءَت أحواله وطلَبَ منّي المُساعدة، لكنّني، كما تعلَمين، لا أملكُ سوى تلك الأرض، فأعطَيتُها له بعد أن ذكّرَني بالحادثة وهدّدَني بفضح أمري.

 

ـ لكنّه أخوكَ! كيف يُهدّدُكَ؟!؟

 

ـ هذا ما أدهشَني! لكن ما عسايَ أفعل سوى الانصياع؟ هل تُفضّلين أن يعرفَ الجميع أنّني قاتل أو أن يُطالِب ذلك البلد بمُحاسبتي؟

 

ـ ماذا لو طلَبَ عمّي المزيد؟ ماذا لو أرادَ بيتنا أو السيّارة أو أشياء أخرى؟ على كلّ الأحوال، هناك في القانون ما يُسمّى "فترة التقادم"، أيّ أنّ بعد مدّة زمنيّة مُعيّنة لا تستطيع العدالة مُحاسبتكَ، ولقد وقَعَ الحادث منذ عشرين سنة. على كلّ الأحوال سأتحقّق مِن الأمر لكنّني شبه مُتأكّدة مِن أنّني على حقّ. فأنا على وشك أن أصبَحَ مُحاميّة!

 

ـ حتى لو كان ذلك صحيحًا، ماذا عن سمعتي إن فضَحَ أخي أمري؟ ماذا عن نظرة أمّكِ وإخوتكِ لي؟ لا، لا... لن أتحمّل الوضع فيكفيني وجَع ضميري الذي واكَبني عشرين سنة على الذي فعلتُه بذلك المسكين.

 

عانَقتُ أبي وهو بكى لأوّل مرّة أمامي. في اليوم التالي، رحتُ الكلّيّة وجلَستُ في المكتبة لساعات أبحثُ في قوانين ذلك البلد الجنائيّة، واطمأنَّ بالي أخيرًا، فأبي لن يدخُل السجن بسبب مرور الزمَن. بعد ذلك رحتُ إلى عمّي وقلتُ له وأنا أنظرُ إليه بشراسة:

 

ـ لقد أخبرَني أبي ما حدَثَ منذ عشرين سنة... أنا أدرسُ القانون وأستطيع التأكيد لكَ أنّكَ مُذنِب أيضًا، فأنتَ تستَّرتَ على الحادثة وهربتَ معه مِن مكان الجريمة، أيّ أنّكَ شريكه وقد تواجِه عقوبات شديدة. أستطيع إقحامكَ بمتاعب كبيرة، وأحرمُ عائلتكَ منكَ وأُلطِّخ سمعتكَ إن بقيتَ تُهدِّد أبي. إسمَع يا... عمّي العزيز... ستحفظُ لسانكَ وستُعيدُ لنا أرضنا، لأنّكَ ابتزَّيتَ والدي، وهو ما يُعَدّ أيضًا جُرمًا. إن لَم تفعَل ما أطلبُه منكَ، أقسمُ لكَ أنّني سأكرِّس حياتي لتحطيمكَ، ولستُ أمزَح.

 

لَم أقُل له عن "فترة التقادم" لإفزاعه وحَمله على الاعتقاد أنّه قد يدخُل هو الآخَر السجن. خافَ عمّي طبعًا وأعادَ لنا الأرض ولَم نعُد نراه على الاطلاق. لَم تعرِف أمّي بشيء ولا إخوَتي، وعادَت السعادة إلى قلب أبي، لكنّ حزنًا دائمًا بقيَ يسكنُ عَينَيه، فهو لَم يُسامِح نفسه على قتل إنسان، حتى مِن دون قصد... وحده الله قادرٌ على مُسامحته.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button