أضرمتُ النار بنفسي لأثبت براءتي

كان مِن الفضل لي ولِعائلتي لو متُّ يوم أضرمتُ النار عمداً بنفسي. وكان هدفي الموت ولكنّني لم أتوقع أن تأتي الناس وتخلصّني مِن النيران. لم أفقد عقلي بل كنتُ مِن الأوّل رجلاً عاقلاً يستعمل المنطق ويمارس دينه. ولكن ظروف قاسية قادَتني إلى ما أنا عليه الآن أي إلى مسخ يخاف منه أولاد الحيّ وكل مَن يصادف طريقه. ربّاني أهلي على خوف الله والإبتعاد عن الرذيلة وإعطاء كل إنسان حقّه وحفظتُ الدرس جيّداً وعلّمتُه بِدوري إلى أولادي.

كانت أحوالي جيّدة بعد أن حصلتُ على شهادة في المحاسبة وتوظّفتُ مِن بعدها في أحد المصارف. وعندما إرتأيتُ أنّ الوقت قد حان للإرتباط رسميّاً، إخترتُ أفضلهنّ وعشنا سويّاً سنين جميلة. ولكن أولاد الحرام كثُر وشاء القدر أن يبعث لي بِواحد منهم تحت شكل زميل تقرّبَ منّي ليصبح بعد فترة صديقاً لي. فرِحتُ به لأنّني كنتُ حريصاً بإختيار مَن يشاركني أفكاري ونشاطاتي وإعتقدتُ أنّه أهل ليدخل دائرتي. ولكن خليل لم يكن مثلي بأي شيء ولم يكن يتردّد بأخذ ما ليس له دون التفكير ولو ثانية بالعواقب وذلك فقط لأنّه يعتقد أنّ الأمور كلّها مباحة له. ولم أنتبه إلى ذلك لأنّ لاشيء بالذي قالَه أو فعلَه أثار شكوكي بل بالعكس إئتمنتُ له بأسراري وثقتي العمياء. وهكذا كنّا نرجع سويّاً مِن العمل إلى بيتي وكانت زوجتي تحضّر لنا المأكل والمشرب ونقضي كلّنا وقتاً ممتعاً. أظّن أنّ في ذلك الوقت لم يكن خليل يخطّط لشيء بعد على الأقل ليس بصورة خاصة. لا بدّ أنّ الأفكار السوداء بدأت تغزو رأسه حين سافَر مدير القسم وبعثَ بي ليقول لي:

 

ـ عاطف... أنتَ الموظّف المثالي وأفضل عنصر لديّ... أنا ذاهب لبضعة أيّام إلى أوروبا لتزويج إبنتي هناك ولا أريد أن يتأثّر العمل بسبب إنشغالاتي الشخصيّة...

 

ـ تهانينا سيّدي

 

ـ شكراً... لذا أريدكَ أن تأخذَ خَتمي وإمضائي وتتصرّف بها كما يجب لكي نصرّف أعمال زبائننا.

 

ـ أنّه شرف كبير...

 

ـ تستحقّ ذلك... أعلم أنّني إخترتُ الشخص المناسب.

 


وغادرَ المدير بعد يومَين مطمئنّ البال. وبالطبع أخبرتُ صديقي عن مهمّتي الجديدة ورأى خليل في ذلك فرصة للإستفادة والإنتقام منّي في آن واحد لأنّني كنتُ أفضل منه بكل شيء. فكنتُ سعيداً بزواجي ولديّ أولاد بينما هو بقيَ أعزباً ينتقّل مِن بيت لآخر ليأكل طعاماً صحيّاً ناهيكَ عن نجاحي في المصرف وحبّ المدير والزبائن لي. وهكذا ومِن دون التفكير بما قد يحصل لي، بدأ يأخذ الختم لِتمرير معاملات نقديّة مِن حسابات الزبائن إلى حسابه الشّخصي ثم يسحَب المبلغ نقداً. فعلَ ذلك كل يوم بينما كنتُ في إستراحتي وبعدما كنتُ أطلبُ منه أن يراقب سير العمل عنّي. وبعد أن حوّلَ لنفسه وقبضَ أموالاً طائلة أخذَ طائرة إلى جهّة مجهولة وإختفى. وبالطبع لم أعرف أنّه هربَ إلى الخارج، فعندما لم يأتِ في ذاك يوم إلى العمل حسبتُه مريضاً وقرّرتُ أن أمرّ به بعد الدوام لأطمئنّ عليه.

وعادَ مدير القسم وسّلمتُه الأمانة وأخبرتُه أنّ الأمور سارَت بسلاسة تامة وعدتُ إلى مكتبي. ولكنّه طلبَني بعد ساعات قليلة بشكل طارئ فركضتُ أرى ما به. ورأيتُ وجهه وقرأتُ عليه الغضب وخيبة الأمل. وصرخَ بي:

 

ـ ما الذي فعلتَه يا عاطف؟؟؟ وثقتُ بكَ! إين الخائب الثاني خليل؟

 

ـ الخائب الثاني؟ أتَعني بذلك أنّني الخائب الأوّل؟ ما الأمر؟ هل حصلَ مكروهاً في الزفاف؟

 

ـ هل تظنّ أنّني لن ألاحظ شيئاً؟ أنت حقّاً غبّي! أين خليل الذي أصبحَ رجلاً غنيّاً في غضون أيّام؟

 

ـ لم يأتِ اليوم... أظنّ أنّه مريض.

 

ـ ستعثر عليه الشرطة... أمّا أنتَ فإبقَ هنا!

 

جلستُ على الكرسي محاولاً فهم الذي يجري خاصة بعدما سمعتُ كلمة "شرطة" فذلك يعني أنّ إختلاساً قد حصلَ. وأخذوني للتحقيق وعلمتُ أنّ خليل إستغلّ صداقتي له ليسرق المال ويهرب. وإتّهموني بالإشتراك معه وإستطعتُ العودة إلى منزلي لإنتظار المحاكمة بِفضل زوجتي التي دفعَت كفالتي بعدما باعَت كل مجوهراتها. وأخذوا منّي جواز سفري كي لا يخطر على بالي أن ألحقَ بزميلي وشريكي في السرقة. وإنهَرتُ أوّلاً لأنّني لم أتصوّر أن خليل قد يفعل ذلك بي وثانياً لأنّني كنتُ بريئاً.

ولكنّني لم أرَ أبعاد ذلك إلاّ بعدما بدأ الناس يتكلّمون عنّي وعادوا أولادي مِن المدرسة وهم يبكون لأنّ أصدقائهم قالوا لهم أنّ أباهم حرامي. كنتُ قد عملتُ جهدي أنا وزوجتي على إبعدهم عن الذي يحصل لي ولكنّ ذلك كان مستحيلاً. والذي قضى على معنويّاتي نهائيّاً هو أنّ والديّ علِما بالأمر وخَجِلا منّي. ظننتُ أنّهما سيقفون إلى جانبي لأنّهما يعرفانني جيّداً ولكنّ الإشاعات كانت أقوى مِن ثقتهما بي. حتى زوجتي لم تكن متأكدّة مِن براءتي وبالرغم أنّها كانت تساندني وتدعمني، كنتُ أقرأ في عيونها خيبة الأمل حيناً والغضب مِن الذي أصابنا حيناً آخراً.

 


ولم تعد الحياة تهمّني وتمنّيتُ الموت لأنّ السارق الحقيقي كان قد تبخّرَ وما مِن طريقة لإثبات عدم تورّطي. فإمتنعتُ في البدء عن الطعام ولكنّ بُنيَتي كانت قويّة ولم تتأثّر كثيراً. عندها قرّرتُ الرحيل بطريقة لن ينساها أحد لأعبّر عن إستنكاري وأهزّ الرأي العام. ففي ذات يوم وبعد أن تركتُ رسالة أشرح فيها أسباب إنتحاري أخذتُ كالوناً مِن النفط وسكبتُه على نفسي وأضرمتُ النار. لا أتذكرّ الكثير مِن الذي حدثَ بعد ذلك سوى الألم الشديد الذي لفنّي وأنا أحترق. ومِن ثمّ الظلام التام حتى أنّني إعتقدتُ أنّني فعلاً متُّ. ولكنّني إستفقتُ في المستشفى بعد أيّام وجسمي ملفوفاً بالضمّاضات وألم يسري بجميع أنحائي. كنتُ قد نجوتُ بفضل جيراننا الذين رأوني مِن النافذة وركضوا يكسرون الباب لإنقاذي.

وبعد فترة علاج طويلة ومؤلمة، إكتشفتُ وجهي وجسمي ولم أصدّق ما رأيتُه. فالصورة التي عكسَتها لي المرآة كانت تفوق أبشع توقّعاتي ولم أعد أسمح لأحد أن يراني دون القناع البلاستيكي الذي أعطوني إيّاه في المستشفى. ولم أرجَع إلى المنزل، بل أخذتُ غرفة مفروشة خوفاً مِن أن يقع نظر أولادي على وجهي ويكرهونَني إلى الأبد. وحدَها زوجتي كانت تأتي لزيارتي ومعها الأكل والشرب. ولكنّ شيئ إيجابيّ واحد نتجَ عن حادثتي وهو أنّ الرأي العام تحرّكَ بعد أن غطّت الخبر محطّات التلفزة وألحّ قائد الشرطة على رجاله أن يجدوا خليل بأيّة طريقة.

وهكذا قُبض عليه في لندن وأُرسل إلى هنا. وبعد تحقيق طويل إعترف أخيراً أنّ لا دخلَ لي بشيء وأُعلِنَت براءتي. ولكنّني لم أفرَح كما يجب لأنّ حياتي باتَت جحيماً بعدما أصبحتُ سجين جسم مسخ يخاف منه الناس. فعزلتُ نفسي بعدما طلّقتُ زوجتي لكي يتسنّى لها أن تبدأ حياة جديدة مع الأولاد. عاندَتني كثيراً ولكنّني أستطعتُ إقناعها بأنّ ذلك هو الحلّ الأنسَب للجميع. والآن أعيش ممّا تعطيني إيّاه جمعيّات خيريّة وأقضي وقتي كلّه لوحدي بعيداً عن أيّ شيء يمكنه أن يذكرّني بأنّني لم أعد إنساناً طبيعيّاً.

هل أنا نادم على ما فعلتُه؟ بالطبع فلو صبرتُ على العدالة ولو آمنتُ أكثر بالله وبِحبّ عائلتي لي لَكانت ظهَرت براءتي في يوم مِن الأيّام وعدتُ إلى الحياة مرفوع الرأس.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button