خطَرَ ببالي طبعًا أنّ بلال، لشدّة غضبه أو غيرته، سيستعمِل القوّة أو الاحتيال أو حتّى تشويه سمعتي أمام خطيبي الجديد. وأظنّ أنّ القارئ هو الآخَر فكَّرَ بإحدى هذه الاحتمالات. لكنّني، وأنتم، كنّا على خطأ، فلَم نحسَب حساب حالة بلال النفسيّة التي بانَت لدى معرفته بأنّه ليس ابن الرجُل الذي ربّاه. فأيّ شخص آخَر كان سيغضَب طبعًا، ويسأل مئة سؤال، ويتّهِم، ويُحاسِب... ومِن ثمّ يرضَخ للأمر الواقع ويُتابِع حياته. لكنّ بلال ترَكَ الكلّ وكلّ شيء وراحَ يسكنُ مع أبيه البيولوجيّ، وهو رجُل ذو سمعة سيّئة وماضٍ مشبوه.
إستياء بلال مِن خطبتي لَم يكن نابِعًا مِن حبّه لي، وإلّا لَما ترَكَني، بل وجَدَني كتِفًا حنونًا يصبُّ عليه همومه. سبب استيائه كان شعوره بأنّ العالَم بأسره يتواطأ ضدّه، هو بالذات، وأنّ عليه بأيّة طريقة مُعاقبة هؤلاء الذين يُدمِّرون حياته... بتدمير حياتهم. قد تجدون هذه الخطوة مُبالَغًا بها، لكنّكم لستم بلال وعقلكم لا يعمَل ويُحلّل كعقل بلال.
فقتَلَ بلال نفسه.
تلقَّيتُ الخبَر المؤسِف مِن جانِب ذويه، ليس فقط لأنّني كنتُ خطيبته، بل أيضًا لأنّه ترَكَ لي رسالة كتبَها قَبل أن يُقدِم على الانتحار. ركضتُ إلى بيت أهله، ووجدتُ والدته تبكي بحرارة وهي مُمسِكة برسالة خصّصَها بلال لها. هي لَم تقُل لي شيئًا، بل أعطَتني ظرفًا مختومًا مكتوب عليه اسمي. نظَرَ الأقارب الموجودون إليّ بحزن، ربّما لأنّهم عرفوا ما بداخل الرسالة إن هي كانت تُشبِه الرسالة المُخصّصة للأم. رحَلتُ بعدما تمتمتُ بضع كلمات تعزية.
لَم أفتَح الظرف لأيّام عديدة مِن كثرة خوفي مِن مُحتواها، ففي آخِر المطاف، أحبَبتُ بلال كثيرًا وتشارَكنا أمورًا عديدة، وكان موته بمثابة فاجِعة كبيرة، ختمَت عذاب شاب ضائع وهشّ.
وحين جاءَ اليوم الذي قرّرتُ فيه فتح الرسالة، طلبتُ مِن خطيبي أن يترك لي المجال لقراءتها وحدي، وهو احترَمَ رغبتي.
وهذا ما كان مكتوبًا فيها:
"لدى قراءتكِ هذه الرسالة سأكون قد رحَلتُ عن هذه الدنيا، دنيا مليئة بالكذب والغشّ والخيانة. لستُ أفهَم على الاطلاق لماذا يفعلُ الناس ذلك ببعضهم البعض، بدلًا مِن أن يتحلّوا بالصدق والنزاهة والمُصارحة.
معرفتي بظروف ولادتي فتَحَت عَينَيّ على حقيقة لطالما عرفتُها ضمنيًّا، وهي أنّه غير مرغوب بي. لَم يقُل أحَد عكس ذلك، لكنّني أحسَستُ أنّني غريبٌ وسط أهلي، وخاصّة مع تلك المرأة التي تُصلّي ليلًا نهارًا والتي تبيَّنَ أنّها امرأة فاسِقة أعطَت نفسها لرجُل لَم يتزوّجها، بل فضَّلَ تَركها. ثمّ هي ألقَت شباكها على رجُل آخَر لتُقنِعه بقبولي، ولولا حبّه لها لرفضَني قطعّا، فمَن يُريدُ تربية ابن رجُل آخَر؟ ظننتُ لسنوات أنّه أبي، وشبَّهَني الناس به جسديًّا وعقليًّا وصدّقتُهم، فأخذتُه مثالًا أعلى لي، ظانًّا أنّه بالفعل أبي وأتشارَك معه الدمّ والجينات وأحمِلُ مسؤوليّة تمرير اسمه لأولادي. ولدى اكتشافي الحقيقة على لسان عمّتي التي كانت تدّعي أنّها تُحبُّني والتي لَم تتردَّد عن كشف الحقيقة يوم دفَن أخيها، إلتجأتُ طبعًا للّذي أعطاني الحياة حقيقةً، وأمِلتُ أنّ ما نتشاركُه بيولوجيًّا هو كافٍ لِملء الفراغ الذي حلَّ بيننا منذ ولادتي. لكن اتّضَحَ أنّه، كشأن الباقين، لا يأبَه لي على الإطلاق، بل اعتبرَني إنسانًا غريبًا عنه كليًّا. وهو حاوَلَ استغلالي لفترة، فطلَبَ منّي المال مُقابل استقبالي في بيته وكأنّني مُجرّد مُستأجِر، وأخَذَ منّي ثمَن الطعام والشرب، وعاملَني بازدراء تامّ إلى حين استوعَبتُ أنّ لا شيء يربطُني به.
ولَم يتبقَّ لي سواكِ، أنتِ حبّي الوحيد. لكنّكِ، كالباقي، أدَرتِ لي ظهركِ ورحتِ ترتبطين بغيري، وكأنّني لَم أكن موجودًا قط في حياتكِ. فعلى ما يبدو، كان حبّكِ لي زائفًا، كحبّ أمّي وأبي واخوَتي وعمّتي لي. كلّكم كاذِبون!
لِذا قرّرتُ أنّ الطريقة الوحيدة لمُعاقبتكم وإفساد حياتكم عليكم حتّى آخِر يوم فيها هو قتل نفسي. ففي آخِر المطاف، أنتم السبب في موتي، تمامًا وكأنّكم مَن قتلَني. الذنب ذنبكم، وعليكم العَيش بهذا الإثم. لستُ آسِفًا على حياتي، فهي بائسة، وعزائي الوحيد هو أنّكم ستتعذّبون تمامًا كما تعذّبتُ، ونهايتكم هي الاحتراق أبديًّا بنار جهنّم.
أجل، أنتِ قتلتِني... هنيئًا لكِ بخطيبكِ. الوداع!"
لَم أصدِّق عَينَيّ، فكان بلال قد قتَلَ نفسه لتعذيبنا وإلقاء اللوم علينا! بكيتُ كثيرًا، فمِن الواضِح أنّ ذلك الشاب كان مُضطرِبًا نفسيًّا لدرجة كبيرة وإلّا لمَا شعَرَ أنّ العالَم يتواطأ ضدّه هكذا. لو أنّه فقط قبِلَ أن يرى أخصّائيًّا نفسيًّا، لكان لا يزال موجودًا بيننا ويعيشُ سعيدًا بعد أن يتقبَّل أنّ أشياء بشِعة تحدثُ لنا خلال حياتنا لا نستطيع منعها، بل علينا تقبّلها والتعايش معها.
بكيتُ لأيّام في حضن خطيبي الذي واساني، وكذلك أهلي وكلّ مَن علِمَ بالقصّة، ورحتُ إلى أمّ بلال لنتبادَل الدّعم، فهي الأخرى كانت ضحيّة بكلّ ما للكلمة مِن معنى، ضحيّة مُحتال استغلََّها عندما كانت صبيّة، ثمّ ضحيّة سرّ كتمَته لسنوات عديدة وخافَت في كلّ لحظة أن يُفشى، وضحيّة كلام الناس عندما علِموا الحقيقة، وأخيرًا ضحيّة ردّة فعل ابنها الذي أوصَلَته للانتحار. هي طبعًا لَم تكن قويّة مثلي بحيث السنّ وطبيعة علاقتها ببلال، فهي كانت في آخِر المطاف أمّه، فأصابَها اليأس ومِن ثمّ الكآبة والمرَض.
نجحَ بلال بمُعاقبة أمّه كما قصَدَ أنّ يفعل، لِذا صمَّمتُ ألّا أسمَحَ له، حتّى بعد مماته، بأن يُخرِب حياتي. فضميري كان مُرتاحًا، إذ حاولتُ معه كثيرًا عارِضة عليه دَعمي وحبّي، وانتظرتُ مُطوّلًا أن يعودَ إليّ حتّى بعد فَسخه لخطوبتنا. ماذا كان يُريد؟ أن أمضي حياتي بانتظاره واضعةً جانبًا فرَصتي بأن أكون زوجة وأمًّا، فقط لأنّه لا يُريد أن يتحسَّن بفضل الوسائل المُتاحة لنا مِن طبّ نفسيّ وجسَديّ؟
لا أنكُرُ أنّني تأثّرتُ كثيرًا بموت بلال وبما كتبَه لي، ووصَلَ الأمر بي أن طلَبتُ مِن خطيبي تأجيل زواجنا، لكنّه رفَضَ، بل دفعَني إلى الذهاب لاستشارة مُعالِجة نفسيّة ساعدَتني على رؤية الأمور كما هي، أيّ مِن دون أن أزِجَّ نفسيّ في المُعادلة، فالموضوع كان عائليًّا، والسبب كان الأسرار الموجودة ضمن العائلة نفسها، فما مِن شيء يبقى سرّيًّا للأبد. فكان على والِدَي بلال أن يُطلِعاه على الحقيقة حين بلَغَ سنًّا يُمكِّنه مِن فهم أمور كهذه، والتأكيد له أنّه مرغوب به ومحبوب مِن قِبَل الجميع، وأنّ لا أحَد سيُفرِّق بينه وبين أخوَته.
حمَدتُ ربّي أنّ ليس لدَينا أسرار داخِل عائلتنا، على حَدّ علمي طبعًا، وأخذتُ قرارًا بأنّني لن أكتُم شيئًا عن أولادي، بل سأُعلِّمهم الصراحة والصدق وعدَم الاختباء وراء ما قد يُهدِّد راحة بالهم لاحقًا. فالأسرار هي ثقيلة الحمل، وتبقى معنا وحوَلنا وتُعذّبُنا حتّى يأتي اليوم وتخرج إلى العلَن في الوقت غير المُناسب، فتُحدِث الألَم والعار والخذلان.
بقيتُ على وعدي لنفسي ولأولادي، واليوم أنا زوجة وأمّ سعيدة. لا أنكُر أنّني أتذكَّر بلال مِن وقت لآخَر، لكنّني لَم آسَف أنّني لَم أصبَح زوجته أو أمّ أولاده، لأنّني على يقين مِن أنّه لَم يكن ليُسعِدَني أو يقبَل بأن أسعِده، ليس بوجود مشاكله النفسيّة الثقيلة. رحمه الله، فهو كان إنسانًا مُعذَّبًا، وأدعو أن يكون قد وجَدَ الراحة الأبديّة.
حاورتها بولا جهشان