أرادَت صديقتي الإستيلاء على حياتي

ما هو معنى الصداقة الحقيقية؟ هناك تفسيرات عديدة ولكن كلهّا تجمع أنّ الأساس هو الوفاء والإخلاص. وهذا ما كنتُ أعتقدُه وعَمِلتُ على تطبيقه طوال حياتي ومع كل مَن إستحقّ لقب صديق أو صديقة. لكنّ الناس كلهّا لا تشاركني وللأسف هذا المفهوم وهذا ما كنتُ سأكتشفهُ في يوم مِن الأيّام. والصديقة التي رافقَتني طوال سنين ووثقتُ بها إلى أبعد درجة، كان إسمها سلام وكنّا نعرف بعضنا منذ ما ولدنا، لأنّنا سكنّا المبنى نفسه وعندما كانت أمّي تولدُني، كانت سلام لم تبلغ الشهر بعد.

وهكذا ربينا سويّاً، نلعب مع بعضنا ونمضي كل وقتنا برفقة بعضنا البعض. وعندما كبِرنا، دخلنا المدرسة ذاتها وجلسنا جنباً إلى جنب في الصف. ولكثرة تقاربنا مِن بعضنا، إعتبرتُها شقيقتي وسلمّتُها أسراري ووضعتُ آمالي فيها. ولَم أشكو مِن صداقتها يوماً ولم أندم على ثقتي بها. وأظنّ أنّها وفي ذلك الوقت لم تكن شخصيّتها قد إكتملَت أو عِقَدها النفسيّة لم تكن قد برزَت وأثّرَت على طريقة تصرّفها معي. صحيح أنّها كانت متعلقّة بي وتغار على مصلحتي ولكنّ الأمور كانت تقف عند ذلك الحدّ وكنتُ أحبّ أن تبدي هذا الأهتمام بي وخاصة أنّني كنتُ إبنة وحيدة ولديّ عطش لكل ما يتعلقّ بالعائلة والأصدقاء. أمّا هي، فكانت ولِدَت وسط أهل همّهم الوحيد هو إيجاد القوط لأولادهم الخمسة، دون أن يكترثوا لهم فعلاً. ولم تكن سلام تجد الراحة النفسيّة إلاّ عندما تأتي إلى بيتنا. وكانت تقول لي دائماً:

 

ـ أحسدكِ على حياتكِ... لديكِ أبوَين رائعَين... وغرفة لكِ وحدكِ! لديكِ ثيابكِ وألعابكِ وحاسوبكِ... لا يتشارككِ أحد بما تملكينه... إلاّ أنا!

 

وكنّا نضحك سويّاً ونعِد بعضنا أنّنا سنبقى هكذا طوال عمرنا وأنّ لاشيء ولا أحد سيفرّق بيننا. وحين حان الوقت لِدخول الجامعة، قرّرنا طبعاً أن نختار الإختصاص نفسه، أي إدرة الأعمال. وهكذا مَّرت السنين بفرح وهدوء. وعندما تخرّجنا، كنّا قد قرّرنا أن نؤسّس شركة مع بعضنا وننطلق في عالم الأعمال. وأعتقد أنّ القدر لعِبَ دوراً كبيراً فيما جرى لاحقاً، فلولا سفَري الى الخارج، لما فعَلَت ما فَعَلته سلام بي. ففي ذات يوم، عاد أبي في المساء حاملاً خبراً لي:

 

ـ لن تحذري مَن صادفتُ اليوم...

 

ـ مَن يا أبي؟

 

ـ هل تتذكرّين إبن عمّي الذي كان يأتي إلى بيتنا عندما كنتِ صغيرة و يداه مليئة بالهدايا لكِ؟ رأيتُه عند أقرباء لي... وهو في البلد... جاء لِقضاء فرصة العيد وسيعود إلى نيويورك بعد أيّام... وسألَ عنكِ وقلتُ له أنكِ تخرّجتِ وتبحثين عن عمل، فقال لي أنّ لديّه منصباً شاغراً لكِ في شركته!

 

ـ في شركته في الولايات المتحدّة؟

 

ـ أجل... في نيويورك! وكل ما عليكِ فعله هو ملء إستمارة على الإنترنت وسيستلمها حينما يصل إلى هناك ويقدّمها إلى مدير الموارد الإنسانيّة والباقي مجرّد معاملات... حبيبتي... هذه فرصة لا تفوّت!

 

ـ ولما أنتَ مسرور هكذا؟ أتريد التخلّص منّي؟

 

ـ أبداً... لا بل أريد ما هو الأفضل لكِ... الرجل هو قريبي وسمعته جيدّة وسيعلّمكِ كل ما تحتاجين معرفته وعندما تعودين إلى البلد سيكون لكِ مستقبلاً رائعاً.

 

ـ وسلام؟ لقد وعدتُها أن أؤسّس شركة معها...

 

ـ ستفعلين هذا عندما يصبح لكِ الخبرة اللازمة.

 

كان والدي على حق بما قاله، فهكذا فرصة لاتفوّت. وخِفتُ مِن ردّة فعل صديقتي وإحترتُ بكيفيّة زفّ الخبر لها، فإلى جانب عدم إلتزامي بكلامي معها بشأن الشركة، كنتُ سأتركُها لوحدها الشيء الذي لم يحصل يوماً. وأطلعتُها على نيتّي في الرحيل وبدأت المسكينة بالبكاء، فأخذتُها بين ذراعيّ ووعدتُها بأنّ غيابي لن يطول. وبعد أن نشفَت دموعها، قالت لي:

 

ـ أحبّكِ كثيراً وأريد ما هو الأفضل لكِ... سأنتظركِ...

 

ـ أريد منكِ أن تهتمّي بوالدايّ، فبدوني سيكون المنزل فارغاً وأنتِ تقيمين في الطابق نفسه... لاتتركيهما...

 

ووعدَتني أنّها ستأتي إلى بيتنا كلّما سنحَت لها الفرصة وأنهّا ستعتبر والدايّ كوالدَيها تماماً. وهكذا إستطعتُ المضي بمشروعي مِن دون قلق. وبعد بضعة أشهر، حضرّتُ حقائبي وطِرتُ إلى نيويورك وقلبي مليئ بالأمل. وإستلمتُ مهامي في الشركة وتلقيّتُ التدريب اللازم لأبدأ التعامل مع الزبائن ورئيسي. ولكنّ تفكيري كلّه كان لأهلي وصديقتي وكنتُ أتصل بهم كل يوم عبر الأنترنِت لأطمئنّ عليهم جميعاً. وفرحتُ عندما علِمتُ أنّ سلام تزور أبويّ كل يوم وتبقى معهما حتى المساء وترى إن كانا بحاجة إلى شيء، فإستطعتُ التركيز على مستقبلي المهني دون أن أقلق عليهم جميعاً. وكلمّا كنتُ أراهم عبر سكايب، كانت صديقتي هناك مهما كانت الساعة وإستغربتُ الأمر قليلاً. ففي ذات مرّة، إتصلتُ بأهلي في وقت متأخرّ جدّاً بسبب الفارق في الساعة ولم أنتبه أنّهما قد يكونان نائمين، فوجدتُ سلام عندهم. وعندما سألتُ لماذا صديقتي موجودة عندنا، قالت أمّي:

 


ـ سلام إنسانة رائعة... لقد عَرضت علينا ان تنام هنا، فأعطيناها غرفتكِ... أرجو أن لا يشكلّ ذلك إزعاجاً لكِ...


ـ غرفتي... لا... لايزعجني الأمر... ولكن... لا أريد أن أثقل عليها... لقد أوصيتُها بكما ومِن الواضح أنّها أخذَت الموضوع بجدّية كبيرة.

 

وبعدما أنهيت إتصالي، شعرتُ بإحساس غريب ولكنّني طردتُه مِن بالي وقلتُ لِنفسي أنّ الأمر ليس مهمّاً طالما كان هناك أحد يواسي والديّ. ومع إنشغالاتي الكثيرة، خفَّت إتصالاتي إلى ذويي قليلاً ولكنّني كنتُ متأكّدة أنّهم سيتفهّمون وضعي. وبعد بضعة أشهر، جاء إبن عمّ والدي وقال لي أنّه سيعطيني إجازة لأذهب إلى البلد وأقضي هناك بضعة أيّام. وقرّرتُ أن أتركَ الأمر سريّاً لأفاجأهم. وهكذا ركبتُ الطائرة وعلى وجهي بسمة عريضة لِمجرّد التفكير بردّة فعل والديّ عندما أقرع الباب. وصلتُ إلى البيت في حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً وركضتُ أخبّط على الباب. وبعد بضعة ثوان، فتحَت لي سلام بِلباس النوم. نظرَت إليّ بدهشة خالية مِن البهجة التي توّقعتُها. ثم قالت لي:

 

ـ ماذا تفعلين هنا؟

 

ـ لقد حصلتُ على إجازة وجئتُ لأرى أهلي!

 

ـ إنّهما نائمان...

 

ـ وإن يكن... سيفرحان بي... أنا إبنتهما!

 

وأدارَت ظهرها وعادَت إلى غرفتي وإلى فراشي. أمّا أنا فركضتُ إلى غرفة أبويّ وأيقظتهما بهدوء. قبّلاني كثيراً وبكيا مِن الفرح. وجلسنا جميعاً في الصالون وأخبرتُهما عن أحوالي وردَّدت أمي طوال الوقت:"يا حبيبتي!". ولكنّ سلام بقيَت في الغرفة ولم تخرج وعندما حان الوقت لأنام، قررتُ أن أتمددّ على الأريكة خوفاً مِن أن أزعجها. وذهب كلّ منّا إلى النوم. ولكن بعد حوالي النصف ساعة، جاء أبي إلى الصالون وجلسَ قرب المكان الذي كنتُ نائمة فيه وهمسَ في أذني:

 

ـ كيف تسبّبين لنا الأسى هكذا؟

 

نظرتُ إليه بتعجّب وسألتُه عمّا يقصده. فإجابَ:

 

ـ أرسلتكِ إلى المهجر لكي يكون لكِ مستقبل وليس لِتنسينا... أنا قادر على تحمّل الفكرة ولكن أمّكِ...

 

ـ إنسيكما؟ إنّني أكلّمكماَ كل ما سنحّت لي الفرصة!

 

ـ أعلم... ولكنّكِ تنوين البقاء هناكَ والزواج مِن رجل أميركي...

 

ـ أنا؟ لم أتعرّف إلى أحد بعد! ولم أنوِ البقاء يوماَ... لماذا تقول هذا يا أبي؟

 

ـ سلام أخبرتنا عن مشاريعكِ... قالت أنّكِ طلبتِ منها في الأسبوع الفائت أن تبقى هنا معنا بدلاً عنكِ... وأنّكِ لن تعودي أبداً لأنّكِ وجدتِ الحب هناكَ وأنّكِ ستتزوّجين وستؤسّسين عائلة في الولايات المتحدّة... قالت لنا أيضاً أنّها هي التي تطلب منكِ أن تتّصلي بنا والإّ لَما فعلتِ...

 

وحين سمعتُ ذلك، قمتُ عن الأريكة وركضتُ إلى غرفتي وأضأتُ النور وأيقظتُ سلام. وحين نظرتُ حولي رأيتُ أنّ أمتعتي الخاصة كانت قد أختَفت كلّها مِن الغرفة وبدلاً عنها وجدتُ أمتعة سلام. كانت قد إحتلّت المكان وتنوي أخذ حياتي بما فيهم أهلي. عندها صرختُ بها:

 

ـ هذه غرفتي وهذا بيتي وهؤلاء هم أهلي! إئتمَنتُ لكِ على كل ما أملكه وها أنتِ تأخذين مكاني... أنتِ صديقتي وإعتبرتُكِ إختاً لي!

 

- أجل لأنّكِ لا تستحقّين شيء مِن كل هذا! لستِ سوى فتاة مدللة تأخذين الأمور وكأنّها حقّ مكتسب لكِ! لقد قرّرتِ الرحيل وهذا ما يحصل لمَن يتخلّى عن ذوييه! 

 

لَم أنتظر حتى تنتهي سلام مِن صبّ سمّها كلّه وأخذتُها مِن ذراعها وإنتشلتُها مِن فراشي وسحبتُها إلى خارج الشقّة وأقفلتُ الباب بوجهها قائلة:

 

- ستجدين غداً أمتعتكِ أمام بابكِ... إيّاكِ أن تدوس رجليكِ بيتنا مجدّداً وإلا.... 

 

وفي اليوم التالي إتّصلتُ بِِمديري في نيويورك وأخبرتُه بأنّني لست عائدة بِسبب ظروف عائليّة طارئة وقرّرتُ أن أبني مستقبلي في بلدي وقرب والدَيّ. أمَا سلام، فبعد فترة قصيرة غادرَت المبنى إلى وجهة غير معروفة.

 

حاورتها بولا جهشان 

المزيد
back to top button