أرادت كنّتي التخلّص منّي

بعدما قضيتُ عمري وسط زوج وأولاد صالحين ومحبّين وشابَ شعري وإعتقدتُ أنّ ما تبقّى لي سيكون تتويج لتضحيات كثيرة، جاء مَن يفسد عليّ حياتي ويقلبها ضدّي. أتحدّث عن المرأة التي إختارها إبني الصغير زوجة له والتي لم تتردّد ولو لِثانية على أذيّتي مِن دون سبب.
كنتُ فرحة أنّ ماهر قرّر أخيراً أن يرتبط، بعدما قضى وقته كلّه في عمله وبلغ سنّ الأربعين، بينما كان أخوه طلال قد تزوّج منذ زمن بعيد وأصبح له عائلة كبيرة في فرنسا. فعندما تعرّفتُ إلى ندى، إستقبلتُها بأذرع مفتوحة، آملة أن تسعد ولدي وأن يُرزقا أولاداً كثر. ولكنّها لم تبادلني شعوري ولاحظتُ ذلك منذ اللحظة الأولى ولكنّني ظننتُ أنّ السبب كان الخجل أو الإرتباك. وأعطيتُهما بركتي وقبلتُ أن يعيشا معي، لأنّ المنزل باتَ كبيراً عليّ بعد رحيل بكري إلى الخارج ووفاة زوجي. وهكذا إحتفلنا بزفافهما وجاءا للسكن معي.
ومنذ اليوم الأوّل، عملتُ جهدي لكي تشعر ندى أنّها في بيتها ولم أتدخّل بهما أبداً، بل كنتُ أقوم بالطهو والغسيل ومعظم أعمال المنزل لكي يعودا مِن عملهما ويرتاحا بعد يوم شاق. ولكن كل ذلك لم يكن كافياً لإرضاء كنّتي التي بدأت تتذمّر مِن أصغر شيء أفعله أو كلمة أتفوّه بها. ولأنّني أكبر منها سنّاً، حاولتُ إستيعابها قدر المستطاع والأخذ بالإعتبار أنّها جديدة على عائلتنا وبحاجة إلى وقت لتعتاد على عيشنا وعليّ بالذات. وبالطبع لم أفاتح ماهر بما يجري، لأنّها كانت أمور بسيطة خلتُ أنّني قادرة على معالجتها دون أن أخلق جوّاً مِن التشنّج ولأنّني كنتُ أوّد إعتبار كنّتي وكأنّها البنت التي لم أرزق بها. ولكنّ المشاكل كانت لا تزال في بدايتها وما كان آتٍ كان أعظم بكثير. فندى مِن ناحيتها لم تتردّد في إنتقادي عند زوجها الذي كان يستمع لها بإصغاء. أما هو، فنسيَ فجأة مَن أنا وكيف ربّيتُه على أسس صالحة وعلى محبّة الناس ومساعدتهم. لكنّه لم يكن يخبرني بما كانت تقوله له زوجته عنّي، لذا لم أقدّر خطورة الوضع. وتابعتُ ما كنتُ أفعله أيّ الإهتمام بالعرسان الجدد وتأمين لهما جميع وسائل الراحة. وحدث أوّل تصادم فعليّ بيني وبين كنّتي عندما أتَت صديقاتي لزيارتي في يوم العطلة الأسبوعيّة.

جلستُ معهنّ نحتسي الشاي ونتبادل الأحاديث، حين دخلَت علينا ندى والغضب بان على وجهها. نظرَت إلينا وقالَت:

 

- ما كل هذا الإزعاج؟ ألا تعلمنَ أنّ هناك أناس يودّون النوم؟ نحن نتعب خلال الأسبوع وأقلّه أن نرتاح خلال العطلة.

 

عندها جاوبتُها بهدوء:

 

- حبيبتي... إنّها الساعة العاشرة صباحاً والشمس أشرقَت منذ ساعات

 

- هذا لا يهمّ... على كل الأحوال هذا ليس منزلي... ولن أرتاح فيه يوماً ما دمتِ...

 

- ما دمتُ ماذا؟

 

لم تجب كنّتي وإكتفَت بالعودة إلى غرفتها بعدما أغلقَت الباب بقوّة. عندها إعتذرتُ عنها لصديقاتي قائلة أنّ ندى إنسانة لطيفة عادة ولا بدّ أنّها تمرّ في فترة تعب لتتصرّف هكذا. وبعد أن رحل ضيوفي، قرّرتُ أن أتكلّم مع ندى لأرى لماذا تنزعج منّي إلى هذا الحدّ ولكن إصطدمتُ بموقف إبني ماهر منّي عندما قال لي:

 

- لماذا تتصرّفين هكذا مع زوجتي؟ ماذا فعلَت لكِ لكي تنكّدي حياتها بإستمرار؟

 

- أنا؟ لم أفعل لها شيئاً بل هي التي...

 

- لا تبدأي! تخبرني ندى بكل شيء... بقيتُ ساكتاً حتى الآن ولكنّني لا أقبل أن تقلّلي مِن إحترامها أمام صديقاتكِ!

 

- أقسم لكَ...

 

- لا أريد أن أسمع تبريراتكِ!


وإنتهى الحديث هنا دون أن أتمكّن من تفسير موقفي وقول حقيقة ما حدث. ومنذ ذلك اليوم تغيّر كل شيء بيننا، فلم يعد هناك تواصل حقيقي وأصبح الجوّ متوتَراً جداً وكل ما أقوله أو أفعله بات يزعج إبني وزوجته إلى حدّ كبير ولم أعد أعلم ما أفعل لأرضيهما. ولكن الأمور لم تقف عند ذلك الحدّ وإلّا كنتُ قد أجبرتُ نفسي على تحمّلها، بل تخطّت حدود المعقول، فلم أتوقّع أبداً أن يأتي يوم وأعيش الذي عشته آنذاك.

فبعد أن بردَت العلاقة بيني وبين ماهر وندى، بدأت هذه الأخيرة بالتصعيد وأصبحَت توحي لي وللجميع أنّني أفقد عقلي. كيف فعلَت ذلك؟ كانت تقول مثلاً أنّنا تحدّثنا في موضوع ونسيتُه أو أنّها أعطَتني شيئاً وأضعتُه أو أنّني أقول أشياء لا معنى لها. وكلّما أنكرتُ الأمر، كلّما زادَت الشكوك بالنسبة لصحّتي العقليّة. وأصبحتُ محطّ مراقبة الجميع ينتظرون تأكيد أو نفي خبر خرَفي ما زاد مِن إرباكي وإضطرابي ما سبّب لي إقتراف زلّات توحي بأنّ الخبر صحيح. ولكن كان هناك بعض الأشخاص لا يزالون لا يصدّقون أنّني أفقد عقلي، لذا عمدَت ندى على تأكيد الإشاعات التي تبثّها عنّي بالقول أنّ روائح كريهة تنبعث مِن غرفتي ومنّي شخصيّاً.

وفي ذات يوم، أخذَت زوجها مِن يده وقادته إلى غرفتي وأرته فراشي المبلول. لحقتُ بهما ورأيتُ بقعة على الفراش توحي أنّني بوّلت أثناء نومي. عندها صرختُ عاليّاً:

 

- صحيح أنّني بلغتُ السبعين مِن عمري ولكنّني ما زلتُ أعلم متى أريد الذهاب إلى الحمّام!

 

نظرَ ماهر إليّ بأسف وقال لي

 

- إنّها أشياء خارجة عن إرادتكِ يا أمّي وتحصل مع الكثير مِن الناس... بدأتِ تنسين أمور عديدة... وهذا الآن... علينا أخذكِ إلى الطبيب قبل أن تسيء حالتكِ...

 

ولكنّني رفضتُ بقوّة أن أرى أخصّائيّاً لأنّني كنتُ متأكّدة أنّني في كامل قواي الجسديّة والعقليّة وكنتُ أعلم أنّ ندى هي التي تريد الإيقاع بي للتخلّص منّي ولوضع يدها على المنزل لكي تنعم به مع زوجها. ولكنّ الدلائل كانت ضدّي. وفي ذات مساء سمعتُ كنّتي تتحدّث مع ماهر بصوت خافت وتقول له:

 

- لم أعد أحتمل الأمر... لستُ مجبرة على العيش مع إنسانة مريضة وأن أنظّف لها أمتعتها... وقد تكون أمّكَ خطرة... بعض الناس يؤذون مَن حولهم عندما يفقدون عقلهم... قد تحمل سكيناً وتقتلنا أثناء نومنا... علينا إيجاد حلاً...

 

- أنا آسف حبيبتي... لم أتوقّع ان يحدث ذلك أبداً... لطالما كانت أمّي إنسانة عاقلة وموزونة...

 

- لا دخل لهذا بمرض الخرف... يأتي بصورة مفاجئة ويتدهّور الوضع بسرعة... هذا ما حصل لجدّتي رحمها الله... أظنّ أنّه مِن الأفضل أن تذهب أمّكَ إلى دار العجزة فهناك يعرفون كيف يتعاملون معها... أنا لستُ مختصّة مثلهم... أتعب في عملي طوال النهار وأريد ان أعود إلى البيت وأرتاح...

 

- سأفكّر بالأمر.

 

وحين سمعتُ ذلك إنتابني خوف شديد مصحوب بالإستنكار الشديد وهرعتُ أتّصل بإبني البكر لأخبره بما يحصل لي ليأتي ويخلّصني ممّا يخطّط لي ماهر وزوجته. وحين علم طلال بما يجري، أخذ أوّل طائرة وجاء إلى البلد. وحين وصلَ إلى المنزل، لاحظ الرائحة الكريهة التي كانت تخرج مِن غرفتي، فدخل معي إليها وبدأ يفتّش في كل أنحائها. ووجد تحت السرير علبة فيها مأكولات فاسدة ورأى البقعة على فراشي.

أخذَ الشراشف وشمّ رائحتها، فوجد أنّها ليست بولاً بل ماء. عندها جلس على حافة السرير وأخذَ هاتفه وإتّصل بأخيه وطلب منه المجيء فوراً ولوحده.
وحين وصل ماهر، أراه طلال الأدلّة التي وجدها وجلسا يتحدّثان بالأمر. ورغم إصرار ماهر على أنّ زوجته تقول الحقيقة، كان واضحاً عليه أنّه بدأ يشكّ بصدقها، فإتّفق مع طلال أنّه مِن الضروري وضع حدّ لكل تلك الشكوك بأخذي إلى الطبيب وإجراء جميع الفحوصات اللّازمة. وقبلتُ معهم لأنّني كنتُ أثق بإبني البكر وبأنّه لا غاية له بالإيقاع بي ولكنّني طلبتُ منهما عدم إخبار ندى بما وجده طلال وبأنّني ذاهبة إلى الطبيب.
وخضعتُ لفحوصات عديدة وصور مخباريّة كلّها أفادَت بأنّني صحيحة العقل ولا عيب بي.

عندها حان الوقت لمواجهة التي أرادَت إزاحتي بطرق دنيئة. لذا اخترنا أن نكون جميعنا مجتمعين لفضحها معاً. وعندما وجدَت ندى نفسها محاصرة، إعترفَت بالحقيقة، أيّ أنّها كانت تأتي يوميّاً إلى غرفتي وتضع بقايا الطعام تحت السرير وتبلّل فرشتي وتقنعني أنّني لا أتذكّر مكان الأشياء أو أجزاء الأحاديث. قالت أنّها فعلَت ذلك لأنّها كانت تريد منزلاً لوحدها وكانت تعلم أنّ ماهر لن يتركني لوحدي إلّا إذا تأزّمَ الوضع.
وبعد أن رأى إبني زوجته على حقيقتها وأدركَ أنّه بسببها كاد أن يتخلّص منّي، قرّر بالطبع تركها ونسيان أمرها كلّياً. وعندما جاء يطلب السماح منّي قلتُ له:

 

أنتَ إبني وسأظلّ أحبّكَ مهما فعلتَ... ولكن عندما تجد زوجتكَ الجديدة أفضّل أن تعيشان لوحدكما!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button