أخذَني إلى بصّارة ليثبتَ لي أنّ حبّنا مقدّراً

للبيئة التي نترَعرَع فيها، تأثيراً كبيراً على باقي حياتنا. كان أهلي أناساً أثرياء ومثقّفين ولكنّهم كانوا يعتقدون بالشعوذات على أنواعها. فإن عاد أبي إلى البيت بصداع حاد، كانت أمّي تصبّ له الرصاص لإزالة العين الحاسدة عنه بدل أن تعطيه الدواء اللازم. ورغم أنني دخلتُ الجامعة ودرستُ علم المجتمع. بقيَت تلك المعتقدات مرسّخة بي ما أثّر بشكل جذريّ على باقي حياتي. ففي يوم من الأيّام جاء شاب ليتوظّف في الشركة التي كنتُ أشغر فيها منصب مديرة الموارد الإنسانيّة. جعلتُه يملئ إستمارة وأخذتُ أسأله عن نفسه وعن خبرته السابقة. ولكن عندما قرأتُ تاريخ ميلاده توقّفتُ عن الكلام ونظرتُ إليه بدهشة:

 

- سيّد كمال... هل تعلم أنّنا ولدنا في ذات النهار من ذات الشهر من ذات السنة؟

- هذا غير معقول!

- أجل... يا للصدفة...

 

ونظرَ إليّ وقرأتُ في عيونه إهتماماً قويّاَ، فتلبكّتُ كثيراً وأنهيتُ المقابلة بسرعة. وقَبلَ أن يغادر مكتبي قال لي:

- أرجو أن أكون قد تركتُ إنطباعاً جيّداً... هذه الوظيفة تعني لي الكثير... أهلي كبار في السن وأنا أعيلهم... ولطالما فعلتُ... وإن نلتُ هذا المنصب قد أستطيع يوماً ما تأسيس عائلة لنفسي... هذا إذا وجدتُ المرأة المناسبة...

 

- سأدرس ملفّكَ بتمعّن... ولكنّني لن أخفي عنك أنّ هناك العديد من المرشّحين للوظيفة... شركتنا عالميّة وتعامل موظّفيها بسخاء وتعطيهم الفرصة للتقدّم.

 

وغادر الرجل وأخذتُ أقرأ سيرته الذاتيّة من جديد ولكن كل ما كنتُ أراه فيها كان تاريخ ميلاده. هل يُعقل أنّ مجيئه إلى شركتنا بالذات له معنى آخراً؟ وبعد التفكير قررتُ أن أعطيه فرصة لأرى إن كان وجوده بقربي سيغيّر شيئاً في حياتي. وبعد بضعة أيّام، إتصلتُ به وطلبتُ منه المجيء مجدداً لكي يقابل المدير بعد أن أبلغتُ هذا الأخير أنّ كمال قد يكون الشخص الذي نبحث عنه. وجرَت المقابلة على نحو جيّد وقيل لي أنّ كمال قد نال المنصب. زفيّتُ له الخبر السار عبر الهاتف فقال لي:


- كنتُ واثقاً من ذلك... لقاءنا ليس صدفة... وأشعر أنّ أموراً أخرى ستحصل...

- ماذا تقصد؟

- سترين... وستفهمين في الوقت المناسب... هل تسمحين لي بدعوتكِ إلى العشاء لأشكركِ؟

- ولكنّني لم أفعل شيئاً...

- بلى... إقبلي دعوتي وسنتكلّم بأمور عديدة.

 

وافيته إلى مطعم لطيف وأكلنا طعاماً لذيذاً وعندما أوشكنا على الإنتهاء أخذ كمال يدي وقال لي بجديّة:

 

- هناك رابط بيننا ولا أدري تماماً ما هو... دعينا نستعلم عنه فمِن المؤسف أن ندع هكذا فرصة تفلت منا...

- ما العمل؟

- أعرف شخصاً يمكنه مساعدتنا... إنّها إمرأة عجوز تعرفها أمّي وأمّها من قبلها... يقال عنها أنّها ترى أشياء كثيرة ولها حسّاَ مرهفاَ يمكّنها من معرفة المستقبل...

- أسمع عن هكذا أشخاص ولكنّني لم أقابل أيّ منهم...

- سنذهب إليها سويّاً غداً... أنا متأكّد أنّها ستخبرنا أشياء كثيراً عنّا...

- عنّا...

- أجل يا سعاد... عنّا.

 

وأخذَني كمال في اليوم التالي بعد العمل إلى منزل تلك العجوز. مشينا في شارع ضيّق ومظلم وصعدنا سلالم طويلة وشاقّة حتى وصلنا إلى شقّة صغيرة. وبعدما قرع الباب، فتحَت لنا سيّدة كبيرة في السنّ وبعد أن نظرَت إليّ بتمعّن دعَتنا لندخل. عرّفها كمال إليّ وقالت:

 

- لا داعي لذلك... أعرف من تكون... علمتُ بمجيئكما قبل أن تطأ أقدامكما الشارع.

 

عند سماع ذلك، بدأ قلبي يخفق بقوّة ونظرتُ إلى كمال بتعجّب. قال لي:


- السيّدة ثريّا تعرف كل شيء قبل أن يحصل... لا تخافي فانا معكِ.

 

وبدأَت العجوز تخلط أوراقاً للعب وطلبَت منّي أن أختار البعض منها. ثمّ أخذَتها منّي وفتحَتها أمامها وسكتَت. لم تتفوّه بكلمة واحدة وإكتفَت بإلقاء النظرات تارة إليّ وتارة إلى كمال.

 

وبعد أن ساد سكوت طويل وخانق، قرّرَت ثريّا أخيراً أن تتكلّم:

 

- إسمعيني يا صغيرتي... هذا الرجل الجالس بقربكِ هو نصفكِ الآخر... عندما تولد الروح تكون كاملة ولكن عند تجسّدها تنقسم إلى نصفين... نصف في أنثى والنصف الآخر في ذكر... وتقضي هذه الروح حياتها تبحث عن نصفها الآخر... وفي معظم الأحيان لا تجده... أمّا أنتِ فمحظوظة جدّاً لأنّكِ وجدتيه... إذهبا الآن... فأنا تعبة.

وخرجنا من دون أن نتفوّه بكلمة لكثرة صدمتنا بالذي سمعناه وعندما أصبحنا في السيّارة قلتُ لِكمال:

- إسمع... أنا لا أقول أنني صدّقتُ السيّدة ثريّا ولكنّني أشعر حقاً بأنّكَ ستصبح يوماً عزيزاً عليّ... هل تشاطرني هذا الشعور؟

- أجل... وأثناء تواجدنا مع العجوز وعدتُ نفسي بأن تكوني لي ولا لأحد سواي.

- أصحيح هذا؟

- أجل وسأثبتُ لكِ جديّتي قريباً.

 

كانت تلك أسعد ليلة في حياتي، فما حصل لي كان بمثابة حلم جميل وشعرتُ أنّني أطير من الفرح. وباشرَ كمال بالعمل في الشركة وبتنا نتقابل بإستمرار حتى أن طلبَ أن يزور أهلي وعندما أتى ورأى بيتنا الجميل، قال لي وأنا أودّعه على الباب:

 

- أهلكِ أناس لطفاء جدّاً وأشعر أنّهم أحبّوني ولكن...

- ولكن ماذا؟

- أرى أنّكم ميسورون جدّاً... وأنا لستُ سوى موظّف بسيط...

- لا تقل هذا... صحيح أنّنا نعيش بسخاء ولكنّ المال ليس كل شيء... أنسيتَ ما قالته العجوز؟ لقد وجدّت أرواحنا بعضها وهذا أهمّ من كل شيء... أرجوك يا كمال... لا تفوّت علينا هكذا فرحة.

 

وجعلتُه يقسم لي بألّا يتكلّم بموضوع المال مجدّداً وقبِل معي وباشرنا بتحضيرات الزفاف بعد أن أخذني لِيعرّفني إلى أهله. ورغم حالتهم المتواضعة، أحببتهم كثيراً وبادلوني هذا الشعور. كلّ ما تبقّى كان أن تتمّ الفرحة الكبرى. وقَبل يوم واحد من الزفاف، إكتشفتُ عيباً في فستاني الأبيض وكِدتُ أن أجنّ! وتذكّرتُ أنّ والدة خطيبي كانت تعمل في الماضي كخيّاطة، فركضتُ إليها طالبة للنجدة. وعندما فتحَت لي الباب وأدخلَتني وجدتُ البصّارة جالسة في صالونها تحتسي القهوة. ظننتُ أنّ حماتي إستدعتها للقراءة لها بالفنجان ولكنّها قالَت:


- هذه شقيقتي الكبرى ثريّا... لا تأتي دائماً لزيارتنا لأنّها تفضّل الوحدة.

 

عندها صرختُ لها:

 

- أنتِ البصّارة التي أخذَني إليها كمال!

 

نظرَت إليّ والدة كمال بتعجّب وقالت:

 

- بصّارة؟ أختي؟ لا بدّ أنّكِ مخطئة!

- إسأليها إن كنتِ لا تصدّقيني.

 

وأمام سكوت العجوز، صرخَت بها حماتي:

 

- ما الذي فعلتيه؟ هل كانت تلك فكرتكِ أم فكرة كمال؟ هل بنات الناس لعبة لديكما؟

- لا يا أختي... جاء إليّ إبنكِ وأقنعّني بأن ألعب دور البصّارة لأقنع هذه الفتاة بأنّه مناسب لها. هذا كل ما فعلتُه. أقسم لكِ.

شعرتُ أنّ عالمي ينهار من حولي وأنّني وقعتُ بغباء في فخّهما، فمِن الواضح أنّ كمال شعرَ أنّني أؤمن بالشعوذات وإستغلّ سذاجتي للوصول إلى مال أهلي والخروج من فقره. إقتربَت والدة كمال منّي وقالَت لي:

- إسمعيني جيّداً... سترحلين مِن هنا الآن ولن تنظري وراءكِ... إبني ليس مناسباً لكِ ولا لأحد... لطالما كان كسول ووصولي... ستبكين لِفترة ثمّ ستجدين ألف واحد أفضل منه... ولكِ نصيحة منّي: كفّي عن الإعتقاد بالسحر والتبصير وثقي فقط بِخالقكِ وبِنفسكِ. سامحينا يا صغيرتي.

 

كانت تلك المرأة على حق في كل ما قالته لي إلّا بشيء واحد: لم إبكِ حين غادرتُ منزلها ولا في أيّ وقت آخر، لأنّ الذنب كان ذنبي ولأنّني إعتبرتُ أنّ ما حصل كان درساً عليّ التعلّم منه وأنّني قي المرّة القادمة سأحبّ بذكاء.

 

حاورتها بولا جهشان 

المزيد
back to top button