مُنافَسة غير شريفة

منذ متى كانت سحَر صديقتي؟ منذ فترة الطفولة، لأنّها كانت تسكنُ وأهلها في المبنى نفسه حيث وُلِدتُ. ثمّ قصَدنا المدرسة نفسها وكان لنا أصدقاء مُشتركون، ثمّ الكلّيّة معًا وتخرّجنا في اليوم نفسه. ولو كانت لي أخت، لَما كانت قريبة منّي هكذا.

لكنّ الحياة فرّقَتنا أخيرًا حين سافَرت سحَر إلى الخارج مع أهلها، وأكملَت هناك دراسات عالية، بينما أنا تعرّفتُ على الذي صارَ زوجي. فأخَذَت حياتي وحياة صديقتي منحىً مُختلفًا، بينما بقينا على تواصل مُتقطِّع إلى أن انقطَعَت أخبارها كلّيًّا مِن جانبها. ردَدتُ الأمر إلى انشغالها وإلى فارِق الوقت الشاسِع بين بلدَينا، فتابعَتُ حياتي الهنيئة.

عادَت سحَر إلى البلَد بعد سنوات، حين عُيِّنَت مديرة فرع للشركة التي تعمَل لدَيها، ففرِحتُ كثيرًا يوم هي اتّصلَت بي قائلة: "لقد عدتُ، لِما لا نلتقي حول وجبة عشاء؟". وأعطَتني عنوان المطعم فحضّرتُ نفسي بأناقة، لترى أنّني لا أزال الصبيّة التي لطالما عرفَتها.

لحظة دخولي المطعم لاحظتُ كَم أنّ صديقتي تغيّرَت، فهي بدَت لي أكبَر مِن سنّها الفعليّ، مع علامات تعَب كبير على وجهها. لَم أقُل لها شيئًا بهذا الخصوص طبعًا، بل صرختُ لها: "لَم تتغيَّري قط!". إبتسمَت سحَر بلباقة، لكنّها علِمَت حتمًا أنّني أُجامِلها. هي الأخرى أثنَت على جمالي، وجلَسنا سويًّا، بصمت في البدء، ثمّ بدأنا نتطرَّق لِماضينا المُشترَك. أطلعتُها على حال الذين كانت تعرفُهم ثمّ على حياتي بالإجمال، أيّ على عمَلي في شركة تجاريّة، وعن زوجي الحبيب وابني الجميل الذي كان قد بلَغَ الخامسة مِن عمره. أمّا بالنسبة لها، فهي أخبرَتني عن دراساتها وعمَلها فقط. ولدى صمتي الذي دلَّ عن انتظاري لتفاصيل حياتها الشخصيّة، قالَت لي:

ـ لا، لَم أتزوَّج... فلَم يكن لدَيّ الوقت لذلك. بصراحة، عمَلي يُعطيني فرَحًا يفوقُ حتمًا فرَح الزواج والانجاب.

 

ـ لستُ أدري إن كنتُ أُشارككِ الرأي يا سحَر.

 

ـ أعلَم ما هو رأيكِ، وإلّا لَما تزوّجتِ وجئتِ بولَد إلى الدنيا. لكن صدّقيني، لن يدومَ أحَد لكِ في آخِر المطاف، بل فقط سيرتكِ العمليّة والمال الذي تجنيه. على كلّ الأحوال، إنّها إعتبارات شخصيّة ولا أنتظرُ منكِ أن تفهميني. لنُقفِل الموضوع.

 

أكمَلنا العشاء ثمّ عدتُ إلى البيت لأُخبِر زوجي عن ذلك اللقاء. لَم أقُل له كيف أنّ سحَر تكلّمَت عن الزواج والانجاب، كَي لا ينزعِج منها إن زارَتنا أو مِن لقاءات مُستقبليّة معها. للحقيقة، فهمتُ قصدها لو لَم أُشارِكها الرأي، فالحياة الزوجيّة والأمومة أمران صعبان حتّى مع الشريك المُناسِب. فكنتُ أتمنّى أحيانًا لو بقيتُ امرأة حرّة، أو تقدَّمتُ في مجال عمَلي، لكن كنتُ أعودُ إلى واقعي حين أرى الحبّ الذي يكنُّه لي زوجي وابني.

في المرّة التالية، جاءَت سحَر تصطحبُني مِن أمام مدخل المبنى على متن سيّارة فخمة اشترَتها لدى عودتها إلى البلَد، وقادَت بي بسرعة قائلة: "أتذكرين حين أخذتُ سرًّا سيّارة أبي وقُدنا بالطريقة نفسها؟". ضحكتُ عاليًا لأنّها كانت مُغامرة مُثيرة لا يُمكنُني نسيانها، إذ أنّنا كدنا أن نصطدِم بشجرة كبيرة، ونجَونا بأعجوبة! رحنا نجلسُ سويًّا في مقهى جميل، ولَم تدَعني سحَر أدفَع الفاتورة مع أنّها التي حاسبَت في المرّة السابقة: "لا... أجني أكثر منكِ بكثير... إبقي مالكِ لابنكِ". شعرتُ بالخجَل لكنّني كنتُ أعلَم أنّ لا فائدة مِن مُناقشة صديقتي.

دعَوتُ سحَر إلى البيت لتتعرَّف على عائلتي، وجرَت الأمور بسلاسة إذ أنّ الصغير أحبَّها كثيرًا، خاصّة أنّها جاءَت مُحمّلة بالهدايا. أمّا بالنسبة لزوجي، فهو وجدَها مُثيرة للاهتمام بسبب معرفتها الواسِعة بأمور عديدة وبسبب أناقتها ولباقتها. سُرِرتُ كثيرًا لأنّني جمعتُ في بيتي في ذلك اليوم مَن هم أعزّ الناس على قلبي.

بقيتُ أسأل نفسي عن سبب قساوة سحَر وفشَل حياتها الشخصيّة، فهي لطالما كانت إنسانة مرِحة وطيّبة ومليئة بالأنوثة والحيويّة، إلى حين تجرّأتُ وأثَرتُ الموضوع معها. وهي قالَت:

ـ الحياة في الغربة قاسية وتدورُ حول التنافس. ليس هناك مِن علاقات بين الناس مثلما في بلدَنا، والعائلة غالبًا ما هي مُفكّكة. هناك، كلّ شخص يعمَل لِمنفعته كي لا تبتلِعه عجلة العمَل والتقدّم. أمّا هنا، فشعرتُ منذ وصولي بالدّفء والحبّ، خاصّة مِن قِبَل أهلكِ وعائلتكِ الصغيرة. أظنّ أنّني سأبقى حيث أنا ولا أعودُ أبدًا!

 

فرِحتُ لسماع ذلك، فكنتُ مُتأكِّدة مِن أنّني سأسترجِع الصديقة التي فقدتُها، وحاولتُ إقناعها مرارًا بأنّ تتعرّف إلى رجُل وتقَع في الغرام وتبني عائلة. لكنّها كانت دائمًا تقول: "أُريدُ عائلة كعائلتكِ، فلن أتحمَّل الفشَل، فلا تنسي أنّني تعوّدتُ على التفوّق!".

وبعد أقلّ مِن سنة على عودتها... أخذَت سحَر زوجي منّي!

علِمتُ بالأمر حين قال لي الذي أحبَبتُه وانتظرتُه وتزوّجتُه وأنجَبتُ منه:

ـ أنا راحِل.

 

ـ حسنًا حبيبي، لكن لا تتأخّر كثيرًا، سننتظرُكَ على العشاء.

 

ـ لا... لَم تفهَمي قصدي: أنا راحِل ولن أعود.

 

ـ بالفعل لَم أفهَم. ماذا تقصد؟!؟

 

ـ سأعيشُ مع سحَر بعدما أتزوّجها.

 

ـ أنتَ تمزَح! ما هذه الدعابة السخيفة؟!؟

 

ـ ليست دعابة، بل حقيقة. أنا أحبُّها. أحِبُّ كلّ شيء فيها: نجاحها، شخصيّتها، حنانها تجاهي. أجل، نحن على علاقة سرّيّة منذ أشهر، ولا نريدُ

أن نختبئ بعد اليوم، بل أن نعيشَ حبّنا علَنًا.

 

ـ هل تَعي ما تقول؟!؟ ماذا عن حبّكَ لي؟!؟ وابننا؟!؟ ستتركه هو الآخَر؟!؟

 

ـ ظننتُ أنّني أحبّكِ إلى حين دخلَت سحَر حياتنا، فرأيتُ الفرق بينكما. هي المرأة التي تُناسبُني وليس أنتِ.

 

ـ لَم أعُد أناسبُكَ؟ لماذا؟ لأنّني امرأة طيّبة، ومُتفانية لزوجي وابني وبيتي؟

 

ـ لن تفهمي.

 

ـ وابننا؟

 

ـ سأتركه لكِ في المرحلة الأولى ثمّ نتشارَك حضانته، فسحَر تُحبُّه.

 

ـ لن أدَع تلك المرأة مع ابني ولو للحظة! هل فهمتَ؟!؟

 

ـ لا يعودُ القرار لكِ، بل للمحكمة.

 

رحَلَ زوجي فور انتهائه مِن كلامه، بعد أن نقَلَ أمتعته سرًّا مُسبقًا.

وبعد حوالي الساعة، حين كنتُ جالِسة لوحدي أبكي كلّ دموعي، أرسلَت سحَر هذه الرسالة على هاتفي: "أودّ أن أقولَ إنّني آسِفة، لكنّها لن تكون الحقيقة. فأنا نافستُكِ وفزتُ عليكِ لأنّكِ انسانة ضعيفة وأنا قويّة، فالحياة هي بمثابة غابة حيث يفوزُ القويّ على الضعيف. أرَدتُ عائلتكِ، فأخذتُها، وانتهى الموضوع، فلماذا أتكبَّد العناء لإيجاد رجُل وأبني معه عائلة حين وجدتُ كلّ شيء جاهزًا؟ إسمَعي، سحَر التي عرفتِها في ما مضى قد ماتَت منذ زمَن، فلَم أعُد كما كنتُ في السابق، وأعرِف جيّدًا أنّكِ ستجدين صعوبة باستيعاب ما يحصل. إنسي أمر زوجكِ، أمّا بالنسبة لابنكِ فسأعتني به وكأنّه ابني حين يكون معنا، لا تخافي. الوداع."

ثمّ هي حظرَتني. لَم أعرِف إن كان يجدرُ بي أن أحزَن أم أغضَب، لكثرة مُفاجأتي بتلك الأحداث التي تتالَت بسرعة. لكنّني كنتُ أعرِف شيئًا واحِدًا وهو أنّ عليّ أن أحميَ ولَدي مِن امرأة لا تتحلّى بأيّ ضمير ورجُل بلا شرَف.

في اليوم التالي قصَدتُ مُحاميًا، وبدأنا نبني خطّة مُحكمة لأحتفِظ بالحضانة الحصريّة. مرَّت الأشهر ولَم يُطالِب زوجي، أو سحَر، بالولَد، فربِحتُ وقتًا وفيرًا في ما يتعلّق بالتحضيرات للقضيّة، لكنّني عشتُ في خوف دائم وأوكَلتُ أهلي بالاهتمام بابني خلال تواجدي في عمَلي.

ثمّ قرَعَ بابي ذات مساء ذلك الفاسِق الخائن، ووقَفَ أمامي كالولَد الذي ارتكَبَ حماقة ويُريد أن تُسامِحه أمّه، قائلًا:

ـ لقد أخطأتُ الاختيار... لا أستطيع العَيش مع سحَر... فهي تُجرِّدني مِن رجولتي.

 

ـ وما دَخلي أنا لتأتي إليّ شاكيًا؟

 

ـ أريدُ أن تُسامحيني.

 

ـ وتعودُ وكأنّ شيئًا لَم يحصل؟ وهل تعتقِد أنّني أُريدُكَ في حياتي مُجدّدًا؟ هل تعتقِد أن بإمكانكَ خيانتي ثمّ تَركي حين تشاء لتختبِر عواطفكِ وما يُناسبكَ؟ سأسألكَ سؤالًا: لو أنا فعلتُ كلّ ذلك بكَ، هل تُعيدُني؟

 

ـ حتمًا لا!

 

ـ وهذا هو تمامًا جوابي لكَ. إرحَل أيّها الخائن قَبل أن أطلبَ لكَ الشرطة! هيّا!

 

ـ ليس لدَيّ مَن أعودَ إليه.

 

ـ هذا لَم يعُد مِن شأني. شيء أخير، قُل لِسحَر أنّني مَن فزتُ عليها وليس العكس... فلا آخذُ مثلها فضلات أحَد. إرحَل الآن ولا تعود!

 

لَم أسمَع بعد ذلك عن زوجي السابق، وهو لَم يطلب حتّى الحضانة، بل راحَ يعيشُ مع أهله. أمّا بالنسبة لِسحَر، فهي أرسلَت لي رسالة أخرى مِن رقم مجهول تقولُ: "أنتِ أقوى مِمّا تصوّرتُ!".

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button