مُصيبة ولا كلّ المصائب! (الجزء الأول)

فضّلَت شذى أخي عليّ، ورضختُ للأمر الواقع كَي لا أخلَق خِلافًا بيني وبينه، لكنّ قلبي بكى على التي أحبَبتُها مِن دون شروط. تزوّجَ سامِر وشذى، وادّعَيتُ السعادة لهذا الحدَث المؤلِم. وكَي يُصدِّق الناس أنّني لَم أتأثَّر بقرار شذى، صادَقتُ صبيّة واستعملتُها كواجهة إلى حين أرادَت أن أخطبَها فتراجَعتُ. لكن ما لَم أكن أعرفُه هو أنّ سامِر كان مولَعًا بالمواد المُخدِّرة، وصارَ مُدمنًا عليها تدريجًا إلى حين لَم يعُد يستطيع أن يُقلِع عنها. وبفعل ذلك، صارَ يصرفُ كلّ ماله على شراء تلك المواد، الأمر الذي أثَّرَ على نوعيّة حياته وزوجته... والمولود الجديد الذي أتيا به إلى الدنيا.

وفي تلك الفترة بالذات، تلقَّيتُ أوّل اتّصال مِن شذى تطلبُ منّي فيه المُساعدة. ركضتُ إلى بيت أخي وجلَستُ معه لنتكلّم عن ادمانه وتداعياته، ووقَعَ شجار بيننا لأنّه لَم يفهَم لماذا أتدخَّل في شؤونه الخاصّة. طردَني أخي طالِبًا منّي عدَم العودة، فالتجأتُ إلى أهلنا لنجِد حلًّا لتلك المُصيبة.

لن أدخُل بتفاصيل عدَم تدخّل أبوَينا في موضوع المُخدّرات، وفشلَهما في التأثير على ابنهما البِكر، فانتهى بي المطاف معزولًا عن حياته الخاصّة والعائليّة. لكنّني بقيتُ على عِلم بما يجري مِن خلال شذى، التي كانت على تواصل دائم معي لأنّها اعتبرَتني بمثابة برّ الأمان لها. وهي اعترفَت لي في أحَد الأيّام أنّها ندِمَت أنّها لَم تختَرني، إلّا أنّ نمَط حياة أخي وتفاعله معها جذباها أكثر، إذ أنّها كانت صبيّة يافِعة يوم وقعَت في حبّ سامِر وتبحَث عن الإثارة التي تتّسِم بها فتيات سنّها.

لَم يُحالِفني الحظّ خلال حياتي المهنيّة، مع أنّني كنتُ فالِحًا في المدرسة والجامعة، فالعمَل الذي وجدتُه كان بسيطًا ولا أجني منه الكثير، بل كان فقط كافيًا لمصاريفي الشخصيّة. فهكذا كنتُ، شابًّا غير طموح يرضى بالموجود. إلّا أنّ الأحداث التي تلَت حملَتني على الندَم على طباعي هذه، لأنّني صِرتُ بحاجة إلى المال، والكثير منه.

فإدمان سامِر بلَغَ حدًّا كبيرًا واستنفَذَ كلّ ماله، الأمر الذي تسبَّبَ بإغراقه وعائلته في حالة ماديّة مُتردّية لدرجة لا توصَف. فاستحالَ عليه تسديد فواتيره وإيجار بيته وقسط ولَده في المدرسة. إستنجدَت شذى بي، فقمتُ بدفع المُستحقّات كَي لا تجِد تلك المرأة نفسها وابنها الصغير في الشارع. لَم أفعَل ذلك مِن أجل أخي، بل مِن أجل التي لَم أنفَكّ عن حبّها يومًا.

وانطلاقًا مِن ذلك اليوم، صِرتُ مسؤولًا عن مصاريف ذلك البيت، لِذا إضطُرِرتُ لإيجاد عمَل آخَر أرهقَني كثيرًا. وكلّ ما كنتُ أجِد نفسي على وشك الاستسلام، تذكّرتُ لماذا ولمَن أقومُ بتلك التضحيات. مِن جانبه، سُرَّ سامِر أنّ هناك مَن يهتمّ بعائلته وفواتيره، فأطلَقَ العنان لإدمانه. وكان أهلُنا يا للأسف، يمدّونَه مِن وقت لآخَر بالمال اللازم لكثرة إلحاحه عليهم. لكنّهم لَم يُفكِّروا بمُساعدة كنّتهم وحفيدهم، الأمر الذي وجدتُه طبعًا غير مقبول، خاصّة أنّهم كانوا على عِلم بما أمرُّ به. فيوم حرمَتهم شذى مِن رؤية ابنها، وجَدتُ الأمر عادِلًا تمامًا.

إنتهى المطاف بأخي مسجونًا، بعد أن ضبطَت الشرطة معه كمّيّة مُخدّرات لا بأس بها كان ينوي الإتجار بها، وأعترفُ أنّني لَم آسَف عليه، بل تمكّنتُ مِن لعِب دور لطالما حلِمتُ به وهو زوج شذى وأب الصغير. لا تُسيئوا فهمي، فأنا لَم أُعاشِر زوجة أخي، بل قضَيتُ وقت فراغي الضيّق وفُرَص نهاية الأسبوع في بيتهم، وهي وابنها تصرّفا معي وكأنّني ربّ العائلة.

لكنّ الفترة التي قضاها سامِر في السجن ساعدَته على الاقلاع عن التعاطي، وعندما خرَجَ أخيرًا كان قد اصطلَحَ أمره وأرادَ استرجاع عائلته. لَم أقُل شيئًا طبعًا، لكنّني شعرتُ بالغضب حياله لأنّه أزاحَني واخَذَ مكاني! إلّا أنّه عادَ إلى إدمانه بعد فترة، وأنا إلى دور المُنقِذ البطَل. على كلّ الأحوال، كان مِن الواضح أنّ شذى لَم تعُد تُريدُ زوجها والصغير يعتبرُني أنا أباه.

وفعلتُ أمرًا مُشينًا، أعترِفُ بذلك، إلّا أنّ دوافعي كانت شريفة. فذات ليلة تلقَّيتُ اتّصالًا مِن شذى التي قالَت لي صارِخة وباكية إنّ أخي عنّفَها وترَكَ البيت، بعد أن حاوَلَ أخذ المال الذي أعطَيتُه لها ليشتري به مُخدّرات. عندها، خابَرتُ الشرطة وأُلقيَ عليه القبض لأنّهم، كما توقّعتُ، وجدوه بعد يومَين ومعه كمّيّة ممنوعات. وهذه المرّة، كان حكمه أقوى وسجنه أطوَل... وأحلامي أكبَر. أجل، أحلامي بأن تكون عائلته لي، لأنّني أستحقُّها أكثر منه كَوني رجُلًا عاقِلًا ومُحِبًّا. ألَم أثبُت جدارتي بالاهتمام بشذى وابنها؟ ليبقى سامِر في السجن ويدَعنا نعيش حياتنا!

بعد ذلك، بدأتُ أُقنِع شذى بتطليق أخي، الأمر الذي أثارَ استنكار والِدَيَّ وغضبهما، لكنّني لَم أكترِث للأمر، ففي الواقع هما المُذنبان بالذي آلَت إليه حياة ابنهما المُدلَّل! فلن أقومُ بالمزيد مِن تضحيات مِن أجل غيري، بل فقط مِن أجلي أنا!

صارَت شذى مُقتنِعة بضرورة تَرك زوجها نهائيًّا، خاصّة بعدما رسَمتُ لها ما ينتظرُها إن صارَت زوجتي. والولَد تحمَّسَ لفكرة العَيش معي بصورة دائمة، لأنّه اعتادَ عليّ وعلى الحنان الذي كنتُ أُعطيه له وكان يفتقدُه مِن جانِب أبيه. لكن كان لدَيّ شرط واحِد لشذى، وهو أن تجِد عمَلًا لأنّني لَم أكن قادِرًا على تأمين ما تحلُم به لوحدي، ووظيفتان كانتا أكثر مِما أستطيع تحمّله. هي وافقَت بكلّ سرور، مُضيفةً أنّها بحاجة للخروج إلى العالَم والاختلاط بالناس وتحقيق ذاتها. إلّا أنّها لَم تكن تملكُ المؤهّلات اللازمة لإيجاد العمَل الذي تطمَح له طبعًا، لكنّها وعدَتني بأنّها ستأخذ أوّل فرصة تتقدَّم لها.

تمَّ الطلاق وحصلَت شذى على الحضانة الحصريّة بسبب تاريخ أخي الحافِل بالتعاطي والسجن، وتزوّجنا بعد فترة قصيرة. نقلَتُ شذى وابنها إلى شقّتي الصغيرة لينسيا ماضِيَهما التعيس، وبدأنا حياتنا الجديدة. كَم كانت فرحَتي؟!؟ لن أستطيع التعبير عن شعوري آنذاك، فلقد حقّقتُ حُلمي أخيرًا، ونِلتُ ما اعتبرتُه الجائزة الكبرى بعد كلّ الذي فعلتُه. لكنّ خبَرًا وصَلَ إليّ غيَّرَ مُعطيات كثيرة وفتَحَ عَينَيّ على أمور لَم أشكّ بوجودها. فمِن السجن خابرَني أخي ليقولَ لي:

ـ لستُ مُستاءً منكَ يا أخي، لأنّكَ قادِر على الاهتمام بعائلتي أفضَل منّي، فأنا أُحِبّ ابني بالرغم مِن كلّ شيء... لكن حذارِ مِن شذى، فهي ليست ملاكًا... إعلَم فقط أنّها التي أدخلَني إلى عالَم المُخدّرات. نعم، فقَبل أن أتعرّف إليها لَم أقترِب حتّى مِن السيجارة العاديّة، وأنتَ تعلَم ذلك. لكنّها تتحلّى بالسيطرة على نفسها أكثر منّي ولَم تتعلَّق بالمُخدّرات مثلي، بل تتعاطى مِن وقت لآخَر. لا تدَعها تسحبُكَ أنتَ الآخَر إلى ذلك العالَم النتِن، أرجوكَ.

 

للحقيقة، لَم أُصدِّقه، فكان مِن الواضح أنّه يُريدُ تخريب زواجي لينتقِم منّي، وكنتُ مُتأكِّدًا مِن أنّ شذى لا تتعاطى المُخدّرات على الاطلاق وإلّا لانتبَهتُ للأمر، فلستُ غبيًّا! ولأُريح ضميري، صرتُ أُراقبُها كلّما أُتيحَت لي الفرصة، فأنا كنتُ أعمَل طوال النهار والليل.

مِن جانبها، لَم تجِد زوجتي عمَلًا، بالرغم مِن أنّها جالَت على كلّ المحلّات لترى إن كان أحدًا بحاجة إلى بائعة. بقيتُ أصرفُ كلّ مالي حتّى آخِر قرش على عائلتي الجديدة، كأيّ ربّ عائلة جدير بهذا اللقَب، لكنّ علامات التعَب بدأَت تظهَر عليّ بقوّة. وجدَتُ زوجتي أخيرًا عمَلًا عند أحَد عملاء الشركة الذي كان يملك محلًّا للأقمشة النسائيّة. إلّا أنّها راحَت إلى العمَل ليوم واحد فقط ثمّ قرّرَت أنّها لن تعود إلى ذلك المحلّ لأنّها لَم ترتَح للأجواء. غضبتُ منها لأنّها لَم تُحاوِل التأقلم وإراحتي قليلًا بتقاسم العبء الذي أحمِله، فتشاجَرنا لأوّل مرّة. ثمّ هي أتَت لمُصالحتي، مُستعمِلة أساليب نسائيّة لا يستطيع الرجُل مُقاومتها.

أقنَعتُ زوجتي أخيرًا بإعادة المُحاولة بالذهاب إلى ذلك المحلّ، وفي اليوم نفسه شعرتُ بوعكة صحّيّة فعدتُ مُنهكًا إلى البيت في وسط اليوم. نمتُ قليلًا ثمّ جلَستُ في الصالون لا شيء لدَيّ أفعله، فأحسَست بالضجَر. وفجأة تذكّرتُ حديث أخي عن شذى، فخطَرَ ببالي البحث في أرجاء البيت عن دليل عن تعاطيها. لَم أكن مُقتنِعًا بالذي أفعلُه، لكنّني كما ذكرتُ، شعَرتُ بالملَل.

وجدتُ بالصدفة أقراصًا في أكياس صغيرة مُخبّأة في خشَب السرير، وعلِمتُ على الفور أنّها ما أبحَثُ عنه، فانتظرتُ عودة شذى لأواجِهها. ردّة فعلها كانت قاسية، إذ أنّها إتّهمَتني بأنّني أتجسَّس عليها وبأنّني لا أثِق بها. هي لَم تنكُر أنّها تتعاطى مِن وقت لآخَر، لكنّها أضافَت أنّ لا ضرَر بذلك، فهي سليمة العقَل والجسَد. إلّا أنّ مُشكلتي كانت تكمُن في أنّ شذى هي التي أدخلَت أخي إلى ذلك العالَم البغيض، وصارَت تتفرَّج عليه وهو يتعلَّق بالمادّة السامّة لِتلومَه لاحقًا على تصرّفاته. حاولَت زوجتي الدفاع عن نفسها في هذا الخصوص، ثمّ هدأَت فجأة وجاءَت تجلسُ في حضني قائلة: "إسمَع... يبدو أنّكَ غاضبٌ كثيرًا... أعرفُ ما بإمكانه إراحتكَ." وفتحَت أحد الأكياس لتُعطيني قرصًا مِن الأقراص التي وجدتُها، لكنّني أزحتُها جانبًا بقوّة صارخًا: "أنا لستُ سامِر!".

نظرتُ إليها فرأيتُها على حقيقتها، إمرأة ماكِرة تستغِلّ ضعف الرجال لتُسيطر عليهم وتحصل على مرادها. صحيح أنّ زمام الأمور أفلَتَ مِن يَدَيها مع سامِر، لكنها وجدَت فيّ مَن بإمكانها استغلاله بطريقة مدروسة أكثر. وفجأة هي وقفَت على السرير وقالَت لي:

ـ أتعرفُ شيئًا؟ لا أُريدُ أن أعمَل، لا اليوم ولا في أيّ يوم آخَر... أنتَ زوجي وعليكَ الصّرف عليّ وعلى ابني. وعلى فكرة، إن خطَرَ ببالكَ تَركي، تذكَّر أنّ ذلك سيُسبّب صدمة نفسيّة كبيرة لصغيري. فستكون الأب الثاني الذي يخذله. أهذا ما تُريدُه له؟ هيا نتصالَح، تعالَ إلى السرير وأنسَ ما حصَل الآن، ففي الغد سيكون كلّ شيء على ما يُرام.

 

أرَدتُ سحبها مِن ذراعها وصَفعها، لكنّ ما قالَته عن ابنها كان صحيحًا، فأنا كنتُ أحبُّه لدرجة لا توصَف، وآخِر شيء أرَدتُه هو تحطيمه. خرجتُ مِن الغرفة ومِن البيت ورحتُ أمشي لوحدي لأفكِّر في كلّ تلك المُعطيات الجديدة.

 

يتبع...

المزيد
back to top button